
رؤية مصر-30 يونيو لمفهوم الأمن القومي والإقليمي
في أحدث تقدير استراتيجي صادر من المركز البحثي الأول في إسرائيل “معهد دراسات الأمن القومي” (في يونيو 2020) أشار إلى أنه عقب تبني دولتي قبرص واليونان سياسة التوافق وتحييد الخلافات بينهما، لجأت الدولتان إلى تبني سياسة خارجية جديدة، تستهدف التصالح مع محيطها الإقليمي “الأورومتوسطي” وكان ذلك في 2010. ويستكمل التقدير الإسرائيلي قوله بأن نيقوسيا وأثينا اتفقتا على أن تكون القاهرة محور هذه السياسة الجديدة والسعي لعقد تحالف ثلاثي معها.
ولكن الهزات السياسية والأمنية أبعدت مصر كثيرًا عن دمجها في مربعات إقليمية جديدة مثل منطقة شرق المتوسط، خاصة بعد أن تنامى إدراك عالمي الذي يجعل من منطقة شرق المتوسط إقليمًا فرعيًا جديدًا، وبسبب التأخر المصري حينها لم تجد الدولتان بُدًا من اختيار إسرائيل لعقد هذا التحالف الثلاثي معها، ولم ينسحب هذا المشهد على علاقة مصر بجيرانها في منطقة شرق المتوسط فقط، بل انسحب على التحدي المتمثل في ليبيا، وسد النهضة، واختراق مكثف للعناصر الإرهابية للحدود المصرية في 2011و 2012.
اختلف الأمر بعد مصر – 30 يونيو إذ أدركت مصر حينها ضرورة تبني إدراك سياسي جديد يسمح لمصر بمراقبة المستجدات السريعة للطبيعة الجديدة للمحيط الإقليمي وصياغة استراتيجية تحرك ملائمة تعمل على تعزيز الوضع الجيوسياسي لمصر في المنطقة، وربما تصريح الرئيس السيسي بمناسبة افتتاح بعض المشروعات القومية في (29 يونيو 2020) قائلا: “إن طبيعة التحديات على مصر في محيطها الإقليمي يفرض عليها ألا تنعزل داخل حدودها” يعكس بالفعل الإدراك المصري لطبيعة التحرك الملائم لطبيعة المشهد الإقليمي، وهو ضرورة توسيع هوامش الحركة من أجل الحفاظ على الأبعاد الشاملة للأمن القومي المصري.
ينقلنا الأمر بالمنطق للإشارة إلى طبيعة هذا المفهوم (أي الأمن القومي) في إدراك الدولة المصرية بعد ثورة 30 يونيو، الذي اتسم بأبعاد شاملة، شملت الحفاظ على كافة مقدرات الدولة المصرية، على المستوى الاقتصادي، والإنساني في شكل الحفاظ على صحة المواطن المصري وكفاءته التعليمية، وكذلك البعد العسكري والأمني، والبعد الجيوسياسي.
الرئيس السيسي: “إن مصر لن تقف مكتوفة الأيدي ضد أي أخطار تتعلق بأمنها القومي وبأمن أي دولة عربية تتعرض لتهديد خطير مهما كان نوعه”.
تمثلت أحد أهم الجوانب المرتبطة بثورة 30 يونيو، الحرص الواضح على حماية الأمن القومي المصري من المخاطر المحيطة به على المستويين الداخلي والخارجي. ولا يقتصر الأمر على التحرك من أجل مجابهة التحديات الواقعة فقط، وإنما ارتسم على طبيعة هذا التحرك الصفة الاستباقية من أجل تحييد مخاطر مستقبلية أو اكتساب فرص ممكنة وعدم هدرها.
وهو ما ظهر في حرص الرئيس السيسي قبل وصوله إلى الحكم بالقول إن أمن الدول العربية من أمن مصر القومي، والتأكيد في خطابه في 29 يونيو إن أمن مصر القومي يرتبط بأمنها الإقليمي، وهو إعلان متكرر بأن استقرار المنطقة يحقق الغاية الاستراتيجية المصرية من أجل استكمال خطط التنمية والاستقرار المصري. وهو ما ظهر أيضا في سعي مصر لعقد تحالفات إقليمية مع قبرص واليونان من أجل استكمال مشروع نهضوي يسمح لمصر بأن تصبح مركز طاقة إقليمي في المنطقة وهو ما تكلل في إنشاء منتدى غاز شرق المتوسط ومقره القاهرة، كذلك سعيها لعقد تكتلات إقليمية تستهدف منع التدخلات الخارجية المهددة للأمن الإقليمي ولأمن مصر القومي المباشر.
اعتبرت مصر بعد ثورة 30 يونيو أن أمنها القومي المباشر يبدأ من أمن واستقرار السودان وليبيا الدولتان اللتان تحدان مصر بحدود تصل إلى آلاف الكيلومترات، وهو ما انعكس في تصريح الرئيس السيسي في 2014 أن السودان وليبيا هما العمق الاستراتيجي لمصر، وحريصون على علاقات معهما ولا يوجد سبب يدعونا لغير التفاهم والعمل الإيجابي. وفي تصريحه (مايو 2020) “أن استقرار ليبيا يعد من محددات الأمن القومي المصري، وأن مصر لم ولن تتهاون مع الجماعات الإرهابية ومن يدعمها”.
ونجحت مصر في صياغة محددات تصف روايتها بشأن الأمن الإقليمي خاصة في الدول الواقعة في صراعات مسلحة مثل سوريا وليبيا واليمن، والتي ترى القاهرة غياب أحد هذه المحددات هو تهديد للأمن القومي والأمن الإقليمي، وهي: قوة الدولة المركزية، وسيادتها ووحدة أراضيها، واحتكارها للسلاح والقوة، ودعم الحل السياسي مع رفض الاختراقات الأمنية، وحق الشعب وحده في تقرير مصيره دون وصاية خارجية، وهي المقاربة التي ترسم الخطوات المصرية من أجل حل الأزمات الليبية، والسورية، واليمنية، وفرض الاستقرار على الأمن العربي والإقليمي.
وفي إشارة إلى الأمن القومي العربي قدمت مصر مقاربة استراتيجية تضمنت عددًا من العناصر الرئيسية، التي قدمها الرئيس السيسي في قمة العربية الطارئة في مكة المكرمة (مايو 2019)، هذه العناصر هي: (أولا) تفعيل آليات العمل العربي المشترك من أجل الدفاع عن الأمن القومي العربي. (ثانيا) العمل على مقاربة تجمع بين العمل السياسي والعمل العسكري الأمني في مواجهة التهديدات الأمنية الناشئة على الأراضي العربية. (ثالثا) التعامل العربي بالتوازي في مواجهة مصادر التهديد لأمن المنطقة وعلى رأسها القضية الفلسطينية، قضية العرب المركزية والمصدر الأول لعدم الاستقرار في المنطقة. (رابعا) الوقوف العربي بحزم أمام التدخلات الإقليمية المهددة لأمن الإقليم.
ويترافق مع هذه المقاربة إدراك مصري يتمثل في أن التعامل على مستوى الدول العربية يسير وفق مبدأ المساواة، ووفق مبدأ التكامل العربي الشامل لكافة الدول العربية، وفي المقابل ترفض مصر مبدأ الريادة الأحادية التي لا تقبل إلا وجود دولة واحدة على رأس المنطقة مما يخلق مناخًا غير صحيًا بين دول المنطقة، وهو ما يعكس دور مصر في بناء مشروع عربي يستهدف تطوير استراتيجيات جديدة تقوم على مبدأ التكامل على كافة المستويات الاقتصادية، والعسكرية، والسياسية، والتنقل الإنساني.
ختاما، يمكن القول إن ثورة 30 يونيو مثلت فاصًلا جديدًا لمجموعة من المفاهيم الاستراتيجية في إدراك الدولة المصرية، على رأس هذه المفاهيم: مفهومي الأمن القومي والأمن الإقليمي. إذ أدركت الدولة المصرية أن كلا المفهومين يترابطان بعضهما البعض في مشهد إقليمي يتصف بسرعة المستجدات وحدة المتغيرات، فما كان أمام القاهرة إلا ربط الأمن القومي بالإقليمي من أجل توسيع هوامش الحركة المصرية والحفاظ على مقدراتها الشاملة.
باحث ببرنامج العلاقات الدولية