
جلال نصار يكتب : أولويات استراتيجية… “كش ملك”
استطاعت “بعض” وسائل الإعلام المدعومة من تركيا وقطر وغيرهم والسوشيال ميديا التابعة لهم إلى جر النقاش حول موقف مصر الاستراتيجي من التحديات التي تواجه أمنها القومي على كافة الاتجاهات إلى جدل عقيم يدفعها إلى صدام وصراع في اتجاه ما وحتمية ألا تنجر مصر إلى صراع في المناطق التي تتمدد فيها وتتواجد فيها قوات تركية بشكل مباشر أو قوات وميليشيات إرهابية تابعة لها ووقع في نفس الفخ قطاع من النخبة السياسية والثقافية بحجة الأولويات وبداعي الخوف من التورط في نزاع لا طائل منه غير الخسائر في الأرواح والمعدات ونزيف من الخسائر الاقتصادية.
بداية يجب تفكيك الصورة والموقف الاستراتيجي كي نعي حجم التحديات المفروضة على مصر والإقليم منذ اندلاع ما عرف ب “ثورات الربيع العربي” التي كان من أهم نتائجها المباشرة وجود خلل كبير في القوة بين الأقطاب الرئيسية في النظام العربي وفي مقدمتهم مصر والعراق وسوريا وليبيا واليمن وتونس وبين جيرانهم في الإقليم الذين كانوا جزءا لا يتجزأ من إدارة المشهد وتوجيه الأحداث وتحديدا إسرائيل وتركيا وإيران وتأثير وتوابع ما حدث على تحجيم دور وإرادة وقرار بقية الدول والممالك خشية ذات المصير بعد انهيار جبهات كبرى شرقا وغربا وأطيح بمعظم الجيوش والمؤسسات.
إلا أن بقاء الجيش المصري صامدا وقدرت٩ه للحفاظ على كيانه وسلاحه وتدريبه وتطويره أخل بالمعادلة الاستراتيجية التي كان يراد لها أن تحل مكان النظام العربي والإقليمي الذي كان موجودا قبل تلك الثورات بغض النظر عن الجدل العقيم حول تلك الثورات وأسبابها ومبررات فشلها هذا ليس موضوعنا لانا نتعامل مع نتائج على الأرض لا علاقة لها بأحلام انهارت على أيدي قوى تيار الإسلام السياسي ومن ساندها من الليبراليين واليساريين على حدا سواء.
تحول الإقليم إلى رقعة شطرنج تتساقط عليه القطع واحدة تلو الأخرى انتظارا للوصول حيث تقف مصر وجيشها منذ مئات الآلاف من القرون ليقول لها من يتحداها وفقا لقاموس الشطرنج “كش ملك”؛ لذا كانت المقدمات التي سبقت الموقف الحالي ضرورية من وجهة نظر الخصوم في اللعبة بعد انهيار حلم صعود تيار الإسلام السياسي وتوليه مقاليد الحكم فى معظم دول الإقليم بعد حقبة الأنظمة التي ثار عليها شعوبها، وتم التحرك فيها على مسارين متوازيين، الأول؛ داخليا من خلال استمرار جماعة الإخوان ومن يتعاطف معها ويناصرها قولا وفعلا بتصعيد موجة العنف ودعم الإرهاب وإفشال كل مناحي الحياة بداية بحرق وتعطيل أعمدة الكهرباء ومحطات المياه والشرب وصولا للتفجيرات والعمليات الإرهابية التي تستهدف الجيش والشرطة والمواطن، والثاني؛ إقليميا بالتمدد والالتفاف لرعاة المشروع بالدعم العسكري واللوجيستي للمليشيات المسلحة في سوريا والعراق واليمن وليبيا وسيناء وغزة وتونس والسودان لفرض واقع جديد بعد أن أعلنت تلك الجماعات ولاءها للرئيس التركي رجب طيب أردوغان وإن كان البعض منها بايع ما عرف بأبو بكر البغدادي أو أيمن الظواهري مع التحرك لإنشاء قواعد عسكرية دائمة على امتداد البحر الأحمر وعند مدخل مضيق باب المندب وفى جزيرة سواكن السودانية “وقت حكم البشير” وعلى الساحل الغربي الليبي، مع دعم واضح لكل المشروعات الإقليمية التى تهدد وتشل الحياة في مصر وتظهر نظامها السياسي على أنه فشل فى إدارة أمور الحياة فوق أرض المحروسة ونموذج ذلك تقديم الدعم السياسي والأمني لأثيوبيا فى مشروع سد النهضة مساندة لمواقفها المتشددة في كل مراحل التفاوض فضلا عن تشكيل عقيدة لدى المفاوض وصانع القرار الأثيوبى تتأثر بالعقلية التركية في مسألة بيع المياه للدول كمورد خاص بها.
دهشتي من جدل السوشيال ميديا وأولويات النخبة أنها تنظر للأمر على أنه “ترف اختيار” للدولة المصرية ما بين أن تواجه التطرف والتمدد التركي في ليبيا أو أن تركز في مواجهة إثيوبيا في تعنتها بخصوص ملف سد النهضة أو تترك لخصومها الإقليميين حرية الحركة في البحر الأحمر أو تترك الالتفاف والتحدي التركي الطامع في مواردنا من الغاز والبترول في المنطقة الاقتصادية المصرية في شرق المتوسط وتتغافل تلك النخبة عن قصد أو عن قلة معلومات أو عن جهل بأن من ينافسك ويفرض عليك أحيانا قواعد اللعبة يفكر ويتحرك وفقا لرؤية استراتيجية تفرض عليك تلك المواجهات الحتمية والمترابطة في آن واحد.
التشدد والغطرسة والاستفزاز الإثيوبي لا ينفصل عن تكثيف التواجد العسكري التركي في ليبيا التي أرادت أن تستغل انشغال مصر بملف نهر النيل وحياة المواطن في أن تستولى على منطقة الهلال النفطي المجاورة لمدينة سرت وكذلك قاعدة الجفرة الجوية وما بعد من قواعد جوية فى الشرق لتكون نقطة انطلاق قريبة تسمح بتحليق طيرانها فوق أراضينا أو على القرب منها على الحدود فضلا عن ترسيخ وجود نظام سياسي موال من الفصائل الإسلامية المتشددة لتتحول ليبيا بكاملها إلى إمارة “إسلامية” تستهدف دعم ذلك التيار في الداخل المصري وفى سيناء تحت راية الخليفة العثماني.
ولتحدثني النخبة في هذا المقام عن شكل حياة يتدفق فيها النيل بغزارة تحت وطأة حكم نظام سياسي وجيش ومؤسسات تابعة لأردوغان وأمثاله.
أنني لا أهاجم أشخاصا بقدر ما أهاجم أفكارا تنقصها الرؤية والمتابعة وتصدق دعاية الجزيرة وقنوات الشرق ومكملين والوطن التي تتحدث عن عدم جاهزية الجيش المصري لأي مواجهة وأنه سيخسر في أي مواجهة عسكرية حقيقية ويتناسون أن هذا الجيش يتدرب منذ بداية التسعينيات على المناورة الاستراتيجية “بدر” التي تفرض على الجيش وكل أسلحته سيناريو التحرك في توقيت متزامن على كل الجبهات في حرب أسلحة مشتركة ونقل قوات ومعدات ورماية وهو ما ساهم في اكتمال الرؤية الاستراتيجية للحاجة إلى نوعيات من السلاح البحري والجوي والبري والصاروخي الذي يخدم تلك الرؤية بتقنية عالية تصل إلى الجيل الرابع والخامس من تلك الأسلحة والذخائر ونظم إدارة النيران؛ وما يتطلبه هذا من برامج تدريب وتأهيل العنصر البشري المقاتل وإضافة بعض الفرق والوحدات الخاصة والنوعية التي تلتزم بواجبات ومهام محددة حتى وصلنا إلى تلك الدرجة من الاحترافية التي تمكن الجيش من حماية حدوده ومصالحة وموارده على كافة الاتجاهات دون أن تؤثر على كفاءة أي اتجاه بل أن هناك فائض وفوائض من القوة والقدرة والإمكانيات يتم توجيهها إلى المساهمة في المشروعات التنموية التي كانت مصر بحاجة لها بعد توقف الحياة وتراجع الاقتصاد على أرضها لسنوات.
أتمنى قبل الجميع أن لا تحدث أي مواجهة عسكرية فى المنطقة وأن تحل مشكلة سد النهضة للابد وفق اتفاقيات وقواعد دولية وأن تنسحب تركيا والمرتزقة من الغرب الليبي وأن تتخلى كل الدول الطامعة في الثروات الليبية عن تدخلاتها وأن يتخلى أردوغان عن استفزازاته فى مياه شرق المتوسط ودعمه للإخوان فى مصر ومحيطها؛ إلى أخره من الملفات المفتوحة التي تفرض الحرص واليقظة والاستعداد؛ إلا أننى مع أن تفرض مصر خطوطها الحمراء وتعلنها وتحذر من توجدها؛ وأن تستمر سياسة الدعم والتحديث للجيش لأن “الردع” هو ما يمنع المواجهة التي يخشاها الجميع ويحذر من عواقبها؛ والمناورة بالقوات المعدات وإظهار مدى قدرتها ومداها هو ما يمنح المصداقية لخطوطنا الحمراء لأنك ترسمها وفقا لقدرة ومدى ومرمى نيرانك.
تلك السطور ليست كما يقال على صفحات السوشيال ميديا من باب “الهبد” ولكنها محصلة خبرات مهنية وأكاديمية لدراسة الاستراتيجية والأمن القومي في مصر والخارج؛ ودراسة العلاقات الدولية والإعلام الدولي في مصر والخارج والعمل أكثر من 15 سنة مراسلا حربيا ميدانيا في مصر وقمت بتغطية عدد من الصراعات في الصومال والبوسنة وجنوب لبنان والعراق والشيشان وأدرك ما معنى الحرب والثمن الذي يدفع فيها؛ وأنها خطوة أخيرة لا مفر منها للدفاع عن الحق في الحياة من أجل قطرة ماء أو من أجل العيش بكرامة في دولة لا يحكمها أردوغان ومرسي وأمثالهما..