
مصر والحملات الصليبية المتأخرة.. يوم حاربنا في المحيط الهندي
من ضمن التجريف الثقافي العثماني ثم التركي الذي جرى في تاريخنا هو الادعاء بان الدولة المصرية في ختام عصر المماليك قد شهدت اضمحلالًا، وهو ادعاء خاطئ تمامًا؛ إذ يكفي أن نعرف أن مصر في هذه السنوات قد نجحت في رد الاستعمار البرتغالي عن البحر الأحمر عمومًا وموانئ الحجاز خصوصًا، بل أن البحرية المصرية قد تعقبت الأسطول البرتغالي وصولًا إلى سواحل الهند وتم هزيمة البرتغاليين هناك.
في نهاية القرن الخامس عشر، وعقب سقوط الأندلس عام 1492 جرى في نفس العام اكتشاف القارة الأمريكية، وتحديدًا في 10 أكتوبر 1492 وصل البحار الإيطالي كريستوفر كولومبوس (1451 – 1506) بتكليف إسباني الى أمريكا الوسطي وظن أنها القارة الآسيوية وأنه وصل الهند، ولكن الرحالة الإيطالي أمريكو فسبوتشي (1454 – 1512) بتكليف برتغالي هو الذي أكد أنها قارة أخرى غير القارة الآسيوية حيث أعلن هذا الاكتشاف عام 1507 بعد عام من وفاة كولومبوس و15 عام من وصول السفن الغربية إلى سواحل القارة الأمريكية.
وقام العالم الجغرافي الألماني مارتن فالدسميلر بإطلاق اسم أمريكا على هذه القارة من اسم الرحالة أمريكو فسبوتشي، واصفًا إياه بالمكتشف الحقيقي للقارة الأمريكية. وإلى جانب إبحار أمريكو فسبوتشي إلى القارة الأمريكية فأن الرحالة فاسكو دا جاما بدأ رحلة الالتفاف حول افريقيا، بمعني الإبحار بمحاذاة سواحل افريقيا الغربية ثم الجنوبية وصولًا إلى مضيق باب المندب وخليج عمان وخليج عدن وبينهم بحر العرب ثم مضيق هرمز والمحيط الهندي وصولًا إلى سواحل شبه الجزيرة الهندية فيما يعرف بطريق رأس الرجاء الصالح، علمًا بأن قناة السويس لم تكن موجودة في هذا الزمن للربط بين البحر المتوسط والبحر الأحمر.
وكما فعل كولومبوس فأن دا جاما كان يرى في رحلته حملة صليبية جديدة وكانت سفن رحلته ترفع رايات الصليب على نفس شاكلة الحملات الصليبية ووصل الهند عام 1498، وفي طريقه ارتكب العديد من المذابح بحق الدول المسلمة على السواحل الأفريقية سواء قصف إحدى دول موزمبيق بالمدافع، أو إغراق سفن الحجاج المسلمين في خليج عمان أو التجار المسلمين بالمحيط الهندي، كما نزلت قواته إلى البر لجمع المعلومات في بعض الحالات وفي جزيرة كيلوا ذات الأغلبية المسلمة هدم دا جاما 300 مسجد، وعلق على رحلته بالقول “الآن طوقنا المسلمين ولم يبق إلا أن نشد الخيط”.
قام دا جاما بحملة بحرية صليبية ثانية عبر طريق رأس الرجاء الصالح عام 1502، وفي كل مرة كان يقوم بقصف المدن الساحلية المسلمة في جنوب وجنوب شرق القارة الافريقية بالمدافع، ويقرصن سفن الحجاج ويقوم بإحراقها وترك ركاب سفن الحجاج يصارعون المياه والنيران لمدة أربع أيام متواصلة كما جرى في بعض الحالات.
الحرب المصرية البرتغالية (1505 – 1509)
ولم تتنبه القاهرة للحملات الصليبية البحرية البرتغالية إلا عام 1502، حينما بدأت البرتغال الدخول عبر مضيق باب المندب إلى البحر الأحمر، فاستولت على أجزاء من إثيوبيا ثم هاجمت سفنهم سواحل مصر والحجاز وحاول البرتغاليون كسب تعاطف باقي أوروبا معهم بإكساب حملتهم على دولة المماليك بعدًا صليبيًا وأعلنوا أن هدفهم الرئيسي هو الأراضي المقدسة في مكة والمدينة.
السلطان قانصوه الغوري (الأشرف أبو النصر قانصوه الغوري) حكم مصر ما بين
عامي 1501 و1516، تصدى للإمبراطورية البرتغالية في سعيها للسيطرة على البحر الأحمر، وبدأت معارك بحرية عنيفة عام 1505 نجحت فيها البحرية المصرية في طرد السفن البرتغالية من البحر الأحمر والاحتفاظ به كبحيرة مصرية مغلقة وحماية مصر والحجاز خاصة مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة من خطر الاستعمار الصليبي البرتغالي.
ثم تقدمت سفن البحرية المصرية وهاجمت القلاع البرتغالية على سواحل اليمن وعمان وإيران وشرق أفريقيا عبر مضيق باب المندب وخليج عدن وبحر العرب وخليج عمان وصولًا إلى المحيط الهندي أمام السواحل الهندية، ثم طورت هجومها باتجاه المستعمرات البرتغالية في الهند وهزموا البرتغاليين بالفعل في معركة شاول (معركة شاول الاولي) في مارس 1508، مصر وسلطنة كجرات المسلمة (1407 – 1573) في الهند Gujarat Sultanate هزما الأسطول البرتغالي في المحيط الهندي على سواحل الهند.
ورغم الانتصار المصري التاريخي على البرتغال قبالة سواحل الهند في المحيط الهندي إلا أن قوة البرتغال في الهند ظلت قائمة وتفهم السلطان قانصوه الغوري هذه الحقيقة فتطالب بإمدادات ومساعدات بحرية وعسكرية من الدولة العثمانية، وجمهورية فينيسيا (البندقية الإيطالية) وجمهورية راجوزا (جزء من كرواتيا اليوم) وسلطنة كاليكوت الهندية، وبالإضافة إلى سلطنة كجرات المسلمة الهندية خاض معركة ديو (معركة شاول الثانية) في 3 فبراير 1509 ، وهزمت مصر وحلفائها في هذه المعركة والتي فتحت الباب أمام الاستعمار البرتغالي للتمدد في افريقيا والهند لسنوات طويلة.
خسرت مصر في هذه الحرب أسطولها البحري كاملًا، حيث غرق في المحيط الهندي، وعلى ضوء هزيمة مصر في الهند طمع إسماعيل شاه الصفوي حاكم الدولة الفارسية وسليم خان حاكم الدولة العثمانية في مصر.
ورغم الهزيمة المصرية في المحيط الهندي أمام سواحل الهند، إلا ان البرتغال وباقي القوى الأوروبية تفهمت أن البحر الأحمر ما هو إلا بحيرة مصرية لا يمكن اقتحامها، فلم تفكر البرتغال وبعدها كافة الدول الغربية في اقتحام البحر الأحمر من الجنوب مرة أخرى، وحتى في سنوات الاحتلال العثماني لمصر ثم إعلان الاستقلال والنظام الجمهوري ثم الجلاء، ظل البحر الأحمر لقرون بحيرة مصرية خالصة على ضوء انتصار الاسطول المصري على البرتغاليين في معركة شاول الأولى مارس 1508، إلى جانب حماية مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة والطائف في الحجاز من آخر حملة صليبية تضرب الشرق الأوسط.
باحث سياسي


