السد الإثيوبي

“آبي أحمد” وسد النهضة.. “صبر القاهرة” أوشك على النفاد

انتهجت إثيوبيا مجموعة من السياسات خلال مفاوضات سد النهضة، تراوحت هذه السياسات بين التعنت، المراوغة، المماطلة، والعرقلة التي قوضت العملية التفاوضية ومحاولات الوصول إلى اتفاق عادل ومتوازن بشأن سد النهضة، وسعت إلى فرض سياسة الأمر الواقع، وكان الهدف العام لإثيوبيا ولا يزال الهيمنة المطلقة على مياه النيل الأزرق.            

 دخلت مصر في مفاوضات مُكثفة حول سد النهضة لما يقرب من عقد من الزمان منذ أن بدأت إثيوبيا من جانب واحد ببناء سد النهضة عام 2011، تفاوضت مصر بحسن نية والتزام سياسي حقيقي للوصول إلى اتفاق بشأن سد النهضة. مرت هذه المفاوضات بعدة مراحل وأجريت فيها العديد من المنتديات، لكن في كل جولة من المحادثات، اعتمدت إثيوبيا سياسة العرقلة التي قوضت هذه المفاوضات.   

أولاً: تعنت ومماطلة مستمرة      

  في ضوء فشل المفاوضات بين الدول الثلاث، دعت مصر الولايات المتحدة الأمريكية ومجموعة البنك الدولي للتوصل إلى اتفاق. ما أدى إلى إطلاق مفاوضات تم خلالها إحراز تقدم كبير نحو إبرام اتفاق بشأن سد النهضة، لكن لم تحضر إثيوبيا الاجتماع الوزاري الأخير الذي دعت إليه الولايات المتحدة بهدف الانتهاء من هذه الاتفاقية. كما رفضت إثيوبيا قبول النص التوافقي الذي صاغته الولايات المتحدة الأمريكية وخبراء من البنك الدولي على أساس المواقف التي عبرت عنها الدول الثلاث خلال المفاوضات. من ناحية أخرى، وانسجاماً مع رغبة إثيوبيا في إبرام اتفاق بشأن سد النهضة للحفاظ حقوق ومصالح جميع دول حوض النيل، وقعت مصر بالأحرف الأولى على الاتفاق النهائي الذي صاغته الولايات المتحدة ومجموعة البنك الدولي في 28 فبراير 2020. 

  وجاء إعلان إثيوبيا عن نيتها ملء خزان سد النهضة دون اتفاق تمشياً مع سياستها الأحادية التي تبنتها منذ أن بدأت بناء سد النهضة دون إخطار أو التشاور مع شركائها في نهر النيل، وبذلك انتهكت التزاماتها بموجب القانون الدولي. ومنذ ذلك الحين، تشارك مصر في المفاوضات مع إثيوبيا بشأن سد النهضة. وطوال العملية التفاوضية، مارست مصر مرونة كبيرة، أظهرت حسن نية لا حدود لها والتزاماً سياسياً حقيقياً للوصول إلى اتفاق بشأن سد النهضة. ومثل هذا الاتفاق سيضمن تحقيق إثيوبيا لأهدافها التنموية من خلال توليد الطاقة الكهرومائية من السد مع عدم إلحاق الضرر بدول المصب.     

 وحسب تصريحات رئيس وزراء إثيوبيا “آبى أحمد” الهدف من وراء بناء سد النهضة تنمية ورخاء شعوب إثيوبيا والخروج من دائرة الفقر، وعدم حصول أكثر من 50 مليون إثيوبي على المياه النظيفة وبدون كهرباء، ولكن ذلك لتبرير إنشاء سد النهضة، والمسؤول عن الوضع الداخلي المتردي في إثيوبيا ليست أي دولة خارجية، وإنما يرجع إلى ضعف سياسات النظم المتعاقبة وعدم استغلال الموارد الطبيعية في إثيوبيا. وجاءت هذه التصريحات من رئيس الوزراء الإثيوبي موجهة للشعب الإثيوبي للتغلب على المشاكل الداخلية خاصةً أزمة تأجيل الانتخابات للعام القادم مما أدى إلى استقالة رئيسة البرلمان الإثيوبي، وزيادة قلق مصر من وجهة نظرهم، ولكن كل ذلك مناورات سياسية إثيوبية. 

 اعتمدت إثيوبيا على التنصل من أية اتفاقيات، وكلما أوشكت المفاوضات على التوصل لاتفاق نهائي بين الدول الثلاث، تعود مرةً أخري إلى نقطة البداية، حيث ادعت إثيوبيا بأنها طلبت تأجيل موعد توقيع اتفاق واشنطن في فبراير الماضي، ولكن الأمر عكس ذلك حيث امتنعت إثيوبيا عن حضور الاجتماع في اللحظات الأخيرة دون إخطار مصر، في الوقت الذى كانت فيه الوفود المصرية والسودانية في طريقها إلى واشنطن، وبررت ذلك بأنها تحتاج إلى مزيد من الوقت للتشاور، ورفضت صيغة الاتفاق، وواصلت التعدي في أن هذه الوساطة تجاوزت مهمتها كمراقبين، على الرغم من موافقة الدول الثلاث في 14 فبراير 2020 على أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية ومجموعة البنك الدولي بصياغة ما تم الوصول إليه خلال الأشهر الأربعة الأخيرة في واشنطن. 

ثانياً: عرقلة المفاوضات بإدعاءات واهية  

  ركزت الإدعاءات الإثيوبية حول ضرورة مياه النيل لتحقيق التنمية، الادعاء الذي تحاول من خلاله عدم الاعتراف بالحقوق التاريخية لمصر في مياه النيل. حيث اتهمت إثيوبيا مصر بأنها أعاقت عمل اللجنة الثلاثية وانتهكت إعلان مبادئ سد النهضة عام 2015، في حين أن إثيوبيا هي التي تغيبت عن الاجتماع الأخير في واشنطن، وهي التي دأبت على انتهاك الاتفاقيات الدولية بما فيها إعلان المبادئ وخاصةً البند الخامس الذي ينص على التعاون في الملء الأول وإدارة السد، حيث أعلنت إثيوبيا مراراً وتكراراً بأنها سوف تبدأ في الملء دون الرجوع إلى مصر والسودان، ولها السيادة المطلقة على النيل الأزرق واستغلال مياهه لصالحها مع عدم ذكر عبارة الضرر الجسيم.

 أعنت إثيوبيا التزامها بالوصول إلى نتيجة عادلة ومربحة للجميع وعدم الإضرار بمصر، ولكن تغيبت عن استكمال مسار واشنطن، وصفت إثيوبيا مصر بأنها الطرف المتعنت طوال الوقت رغم أن مصر وافقت على التفاوض بعد تقرير لجنة الخبراء الدوليين عام 2013، وتكوين اللجان الوطنية الثلاثية تحقيقاً لرغبة إثيوبيا.

  كما وافقت مصر على أن تقتصر دراسات سد النهضة على الدراسات الهيدرولوجية والبيئية والاقتصادية والاجتماعية دون الدراسات الهندسية الخاصة بهندسة السد وأمانه، وافقت أيضاً على إعلان المبادئ عام 2015 والمكتب الفرنسي المرشح من قبِل إثيوبيا، والتقرير الاستهلالي. بينما رفضته إثيوبيا والسودان في نوفمبر عام 2017 معرقلة بذلك عمل الدراسات المطلوبة حتى الآن، ومصر الوحيدة التي وقعت بالأحرف الأولي على اتفاق واشنطن 2020.  

 وتتمسك مصر بمبدأ التفاوض رغم المراوغات الإثيوبية طوال هذه السنوات، حيث اتهمت إثيوبيا مصر بأنها تعيق تنفيذ الاتفاقية الإطارية لحوض النيل (عنتيبي) بسبب عدم التوقيع عليها، ولكن لم توقع عليها مصر والسودان وجنوب السودان، والكونغو الديمقراطية، لأن بنودها لم تحظ على موافقة جميع دول حوض النيل، كما أنها تتجاهل الاتفاقيات التاريخية والاستخدامات الحالية، ولا تشمل مبدأ الإخطار المُسبق وكذلك كيفية اتخاذ القرار الذى تريده دول المنبع بأن يكون بالأغلبية مما يضر بمبدأ التكافؤ بين طرفي حوض النيل، دول المصب ودول المنبع. 

 وكشف السجل الحافل لهذه المفاوضات التي تمت على مختلف المستويات وفي العديد من الأشكال عن نمط ثابت من السياسة الإثيوبية. سواء في اللجنة الوطنية الثلاثية أو في مواقفها بخصوص تقرير شركة BRLi الفرنسية التأسيسي أو في عملية ملء سد النهضة التي جاءت من جانب واحد، كان الهدف العام لإثيوبيا فرض سياسة الأمر الواقع وتجنب أي قيود على سير عمل سد النهضة.    

ثالثاً: تطورات جديدة        

  في التاسع من يونيو الجاري، عقد الاجتماع الثلاثي لوزراء الري بحضور مراقبين دوليين من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وجنوب أفريقيا عبر تقنية “الفيديو كونفراس” ، وجاء ذلك الاجتماع في إطار مبادرة رئيس الوزراء السوداني “عبد الله حمدوك” لاستئناف المفاوضات والتوصل لحل نهائي يأخذ في الاعتبار المصالح المشتركة ومبادئ المعاهدات والقوانين الدولية في ملف سد النهضة.          

  ناقش اجتماع وزراء الري في اليوم الأول الإجراءات المطلوبة لمواصلة التفاوض بشكل عاجل، والنقاط الأساسية العالقة، ويدور الموضوع الرئيسي في هذه الجولة حول الوصول إلى اتفاق قبل الملء أو الملء بعد الاتفاق، وطرحت وجهات نظر الدول الثلاث خلال الاجتماع، حيث تمسك الجانب المصري بوثيقة فبراير 2020 كأساس للتفاوض، فيما وعد الوفد الإثيوبي بتقديم مقترح متكامل للاجتماع وأعاد الوفد السوداني تأكيد موقفه المقدم في وثيقة الحل الوسط التي تقدم بها في الاجتماع. وعليه تستكمل الدول الثلاثة اجتماعاتها في 11 يونيو الجاري والذي تستضيفه إثيوبيا لمواصلة المفاوضات والعمل على التوصل لحلول بشأن القضايا العالقة.

  وتُعد الاجتماعات الحالية بداية لجولة سادسة بعد خمس جولات خاضتها الدول الثلاث منذ 2011 حتى الآن، وقد حدث تغير في الأطراف الدولية هذه الجولة بحضور ثلاثة مراقبين من الولايات المتحدة الأمريكية ومفوضية الاتحاد الأوروبي وجنوب أفريقيا، مما جعلها مختلفة عن الجولة الخامسة (نوفمبر2019- فبراير 2020) التي شهدت وزارة الخزانة الأمريكية ومجموعة البنك الدولي كمراقبين في بداية الأمر ووسطاء في نهاية المرحلة.  

 وفى هذا الصدد صدر بيان عن مجلس الأمن القومي المصري عقب هذا الاجتماع، جاء البيان رسالة قوية للطرف الإثيوبي لكي يكون جاداً في مفاوضات وزراء الري والمياه وتأكيداً على الثوابت المصرية في مفاوضات سد النهضة وحرص مصر الدائم على الوصول إلى اتفاق عادل ومتوازن يحقق مصالح الدول الثلاث، والتمسك بإعلان مبادئ سد النهضة 2015، وضرورة تحديد جدول زمني للانتهاء من المفاوضات وربطها بعملية الملء، كما أوضح أن فترة التفاوض ستكون من ٩ إلى ١٣ يونيو الجاري للتوصل إلى الاتفاق الكامل بشأن ملء وتشغيل سد النهضة. 

 ووفقاً لبيان وزارة الري المصرية الصادر في 10 يونيو الجاري، من الصعب وصف اجتماع وزراء المياه في مصر والسودان وإثيوبيا بشأن سد النهضة بأنه كان إيجابيا أو وصل إلى أي نتيجة، حيث عكست المناقشات وجود توجه لدى إثيوبيا لفتح النقاش من جديد حول كافة القضايا، بما في ذلك المقترحات التي قدمتها أديس أبابا في المفاوضات باعتبارها محل نظر من الجانب الإثيوبي، وكذلك جميع الجداول والأرقام التي تم التفاوض حولها في مسار واشنطن، فضلاً عن التمسك ببدء الملء في يوليو ٢٠٢٠. 

 وختاماً، يتوجب على إثيوبيا أن تثبت جديتها وإرادتها للوصول إلى اتفاق عادل لصالح الدول الثلاث، وفى حال استمرار المراوغة الإثيوبية قد تنهي هذه الجولة قبل موعدها دون اتفاق، ولكن تحذر مصر من هذا التوجه وتتمسك بمسار واشنطن وعدم الملء بدون اتفاق والتعاون في إدارة السد، حتى لا نصل لنقطة نقول إن صبر القاهرة قد نفد جراء هذه المراوغات الإثيوبية         

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى