
حلقة مفرغة…ماراثون مفاوضات سد النهضة
منذ استغلال إثيوبيا للأوضاع الداخلية في مصر في 2011، وتحين الفرصة لوضع حجر الأساس لسد النهضة، بدون التقيد القانوني بشرط الإخطار المسبق، وبدا الهدف واضحًا، أنه ليس لتوليد الكهرباء وتحقيق التنمية، كما تزعم إثيوبيا، وتروّج لتلك الأهداف داخليًا وخارجيًا، وإنما يكمن الهدف الحقيقي في المنافسة الاستراتيجية مع مصر؛ في سياق التنافس الإقليمي، من أجل السيطرة والتحكم في التفاعلات الإقليمية في منطقتي حوض النيل والبحر الأحمر.
وسعت إثيوبيا إلى التوظيف السياسي لسد النهضة؛ من خلال خلق دلالة ورمزية وطنية للسد يلتف حولها الإثيوبيون بمختلف انتمائاتهم وعرقياتهم؛ باعتباره مشروعًا قوميًا للتنمية والنهضة الإثيوبية، وأن كل من يحاول أن يعترض هذا المسار التنموي، فهو يعترض صعود إثيوبيا ونهضتها.
واستطاعت إثيوبيا – بناء على ما تقدم – أن تخلق عدوا استراتيجيا مزعوما من مصر، يمكنها التصعيد معه، وتوجيه الأنظار الداخلية صوبه وبعيدًا عن التحديات والاخفاقات الداخلية لأنظمة الحكم المتعاقبة؛ منذ عهد رئيس الوزراء ميليس زيناوي، مرورًا بهيلا ميريام ديسالين، وصولًا إلى آبي أحمد.
على الرغم من تبنيه سياسة “صفر مشاكل” في سياسته الخارجية تجاه منطقة القرن الإفريقي، وسعيه لإرساء السلام؛ إلى الحد الذي أدى إلى حصوله على جائزة نوبل للسلام؛ على خلفية المصالحة مع إريتريا؛ مما أثار توقعات إيجابيه تجاه هذا الرجل؛ الذي زعم أنه جاء ليرسخ السلام داخليا وخارجيا.
ولأن الخطابات والتصريحات الكلامية في السياسة الخارجية تظل رهينة الترجمة على الأرض لممارسات تعكس تلك التصريحات والعبارات الودية؛ فإن ممارسات آبي احمد وحكومته كشفت الوجه الحقيقي لها، وأثبت أنه مثل مثل سابقيه من رؤساء الوزراء الإثيوبيين، وأن السياسة الإثيوبية تجاه مصر واحدة، مبنية على التنافس الاستراتيجي؛ والتي تنطلق من قناعة مفادها، أن قوة مصر الإقليمية تنتقص من قوة إثيوبيا؛ لهذا تسعى إثيوبيا إلى تقويض مصر إقليميًا؛ من خلال توظيف ورقة المياه؛ وربما هذا ما يكشف التعنت الإثيوبي، وعدم التفاوض بحسن نية؛ رغبة منها في إجهاد الدولة المصرية في ماراثون تفاوضي لا أفق له ولا هدف يتم التوافق بشأنه؛ إذ أن الهدف الإثيوبي بات التفاوض من أجل التفاوض نفسه واستهلاك الوقت؛ لا الوصول لشيء.
ماراثون المفاوضات…حلقة مفرغة
بالفعل دخلت إثيوبيا ماراثون التفاوض مع الجانب المصري بمبدأ المراوغة والتسويف وعدم الجدّية منذ اليوم الأول. وبالفعل استهلكت إثيوبيا قرابة الخمسة أعوام في مفاوضات لا سند قانوني لها، بل أنها كانت أقرب للاخطار أقرب منها إلى التفاوض؛ إذ أن التفاوض في مثل تلك الحالات، التي تشرع فيها دولة شريك في مجرى مائي دولي، عند القيام بأعمال من شأنها التأثير على مصالح بقية الدول ذات المصالح المشتركة، يجب أن يكون تفاوضًا سابقًا لأية أعمال فعلية، بمعنى قبل حدوث تغير جوهري في الظروف، إعمالًا لمبادئ ” الإخطار المسبق، وعدم إلحاق الضرر، وحسن النية”. غير أن إثيوبيا، قامت بإنهاء دراسات فنية منفردة، استندت وفقًا لها في الشروع في وضع حجر الأساس للسد في ” إبريل 2011″، مستغلة حينذاك ما كانت تمر به الدولة المصرية من أحداث داخلية، ومباركة النظام السوداني، الذي كان قائمًا عليه نظام الإنقاذ.
وفقًا لذلك السياق، ومع شروع إثيوبيا في تشييد السد، دون إخبار الجانبين المصري والسوداني، عقدت زيارات متبادلة بين رئيس الوزراء المصري، عصام شرف، والإثيوبي، هايلي مريام ديسالين، آنذاك، في مايو 2012، بعدما قررت إثيوبيا إخبار الجانب المصري بعد عام من وضع حجر الأساس للسد.
واستمر الوضع هكذا، حتى وصول الرئيس السيسي، وإدراك القيادة المصرية أن هناك مماطلات من الجانب الإثيوبي في الجوانب الفنية؛ ما دفع الدولة المصرية إلى ضرورة وضع إطار قانوني جديد، يكون ملزمًا لكافة الأطراف، وهو ” اتفاق إعلان المبادئ”، والذي يتم توقيعه في مارس 2015. ومنذ ذلك الحين وحتى أواخر عام 2017، ظلت المفاوضات تأخذ الطابع الفني، مقتصرة على وزارات الريّ للدول الثلاث ( مصر- إثيوبيا – السودان)، وظل مبدأ حسن النية من الجانب المصري، إلى أن استشعر عدم جدّية الجانب الإثيوبي؛ ما دفع الجانب المصري إلى المطالبة بانضمام البنك الدولي للمفاوضات، فضلًا عن انضمام وزراء الخارجية وأجهزة استخبارات البلدان الثلاثة.
واستمر الوضع هكذا طيلة عام 2018، وحتى أغسطس من عام 2018؛ عندما سلمت وزراة الريّ المصرية رؤيتها بشأن “قواعد الملء والتشغيل للجانب الإثيوبي”، والتي رفضها ورأى أنها تراعي المصالح المصرية فحسب، ما أدى إلى إعلان مصر فشل المفاوضات الفنية.
ومع هذا الوضع بدأ فصل جديد باتجاه مصر نحو تدويل الأزمة، بعرض الرئيس السيسي القضية على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، في أواخر سبتمبر، 2019، والتي أوضح خلالها موقف مصر بشأن التنمية لدول وشعوب حوض النيل، وأن النهج الإثيوبي من شأنها تهديد الاستقرار الإقليمي والسلم والأمن الإقليميين.
وعليه، عرضت الولايات المتحدة رعاية المفاوضات بين الأطراف الثلاثة كوسيط، وبالفعل جرت أربع جلسات للتفاوض على النقاط الخلافية بشأن قواعد الملئ والتشغيل للسد، إلى أن جاء وقت الجلسة النهاية للتوقيع على وثيقة الاتفاق النهائي ” وثيقة واشنطن”، في آواخر فبراير الماضي، إلا أن الوفد الإثيوبي اعتذر عن الحضور، معلناً أنه بحاجة لمزيد من الوقت للتشاور، والغريب أن الوفد السوداني هو الآخر امتنع عن التوقيع حينها، معلًا موقفه فيما بعد بعدم الرغبة في استشعار الطرف الإثيوبي بأنه أمام الأمر الواقع.
منذ ذلك الحين الذي تعثرت فيه المفاوضات بسبب الطرف الإثيوبي، وتصاعدت التصريحات من المسؤولين الإثيوبيين بأن السد سدهم والمياه مياههم وأنه لا توجد قوة تمنعهم من الملء وأن الولايات المتحدة والبنك الدولي انحازا لمصر على حسابهم. كما أعلنوا أيضًا عن سعيهم لبدء الملء في الأول من يوليو مع بداية موسم الأمطار المقبل.
ساهمت كل هذه المواقف المتعنتة في كشف حقيقة المراوغة الإثيوبية، ما دفع مصر إلى إجراء جولات دبلوماسية إقليمية ودولية لتوضيح الموقف في مارس الماضي، وهو النهج الذي حذت حذوه إثيوبيا أيضًا وقامت بجولات موازية، في إطار ماراثون المنافسة مع الجانب المصري. واستمرت حالة التصعيد هذه، مع سعي الجانب السوداني لاستئناف التفاوض مرة أخرى، وإرجاع الطرفين لطاولة التفاوض.
ومع الاتصالات المصرية بالجانب السوداني، وجدنا موقفًا سودانيًا مغايرًا لما سبق؛ إذ مع اتجاه مصر لمخاطبة مجلس الأمن في الأول من مايو الماضي، في خطوة تصعيدية جديدة، والرد بالرفض على الخطاب الذي أرسلته الحكومة الإثيوبية، وجدنا موقفًا سودانيًا مطابقًا للموقف المصري.
إذ رفض السودان هو الآخر الخطاب الإثيوبي، وقام هو الآخر بمراسلة مجلس الأمن لمناشدته بحثّ إثيوبيا على ضرورة الملء بدون التوصل لاتفاق، وهي الخطوة أيضًا التي تبنتها إثيوبيا، فقامت بمراسلة مجلس الأمن، بخطاب يحوي من الادعاءات والأكاذيب أكثر ما يحوي من الحقائق.
مفاوضات بلا أفق
أخيرًا، وجهت وزارة الريّ السودانية الدعوة للأطراف الثلاثة لاستئناف التفاوض بجولة تمهيدية، يتم من خلالها الاتفاق على الجلسة القادمة. والحقيقة أنه منذ توجيه السودان الدعوة إلى بقية الأطراف لاستئناف التفاوض، لم تتوقف إثيوبيا عن مساعيها الأحادية الجانب، فعلى الرغم من حثّ الاطراف الدولية ( مجلس الأمن – الاتحاد الأوروبي – الاتحاد الإفريقي) على استئناف التفاوض بمبدأ حسن النية؛ إلا أن إثيوبيا لم تتوقف عن التحركات الداخلية والخارجية التي تعكس تحركاتها الأحادية وأنه لا جدوى للتفاوض مع طرف ماضٍ في طريقه دون أية قيود. فربما كان الإعلان الإثيوبي في 30 مايو عن حاجته لألفي موظف يقومون بأعمال التطهير خلف السدّ، استعدادًا للملء في يوليو، كما صرّحت من قبل؛ إشارة قوية إلى أنها عازمة بالفعل على الملء وليست مجرد تصريحات للاستهلاك المحلي.
ومع ذلك ومع قبول مصر بالجلوس مرة أخرى، إلا أن الأغرب هو أنه في نفس اليوم الذي وجهت فيه وزارة الريّ السودانية الدعوة إلى الأطراف الثلاثة، ألقى آبي أحمد خطابًا في البرلمان الإثيوبي؛ أكدّ خلاله أن قرار الملء لا رجعة فيه، وشحذ العواطف الوطنية بخطاب التنمية، والتأسف على السنوات التي أضاعتها الحكومات السابقة، دون العزم على استكمال هذا المشروع القومي النهضوي؛ ما يعكس الروح الغير إيجابية في التفاوض، وأنها تسير في اتجاه موازي للتفاوض بالأساس.
وبالفعل عقدت جلسة التفاوض يوم 9 يونيو، والتي ركزت على الجوانب الإجرائية دون الخوض في أية تفاصيل حقيقية، والتي عكست أيضًا الرغبة الإثيوبية في فتح النقاش من جديد، وليس الاستناد إلى مرجعية واشنطن، وهو الأمر الذي رفضته مصر وأكدت ضرورة الاستناد إلى مرجعية واضحة، وأن هناك سقفا للتفاوض لا يجب تخطيه.
ويبقى الجديد هو اتساع نطاق المراقبين، في حضور كل من الاتحاد الأوروبي، وجنوب إفريقيا ممثلة عن الاتحاد الإفريقي، وهو الأمر الذي من شأنه كشف ادعاءات إثيوبيا على الجانب المصري بأنه ضد التنمية، وأنها هي الطرف المراوغ في حقيقة الأمر.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية