
أزمات غير متوقعة.. لماذا اشتعلت الإحتجاجات في الولايات المتحدة؟
من واشنطن ونيويورك إلى شيكاغو ولوس أنجلوس، عمت الفوضى والاضطرابات الولايات المتحدة الأمريكية على خلفية وفاة مواطن أمريكي من أصول إفريقية، خنقا تحت قدم شرطي أثناء محاولة توقيفه في مينيابوليس، لتكون الحادثة بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس وأشعلت فتيل العنف، لتعيش الولايات المتحدة أكبر اضطرابات عرقية واحتجاجات أودت بحياة ما لايقل عن خمسة أشخاص واحتجاز ما يزيد عن أربعة آلاف شخص حتى الآن. وانتشار الآلاف من جنود الحرس الوطني، وفرض حظر التجول في عدد من الولايات، وإغلاق أنظمة النقل الجماعي لإبطاء تحركات المتظاهرين، لكن ذلك لم يفعل الكثير لمنع الفوضى في العديد من المدن.
يواجه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عصيانا مدنيا هو الأخطر في ولايته مع احتجاج آلاف الأمريكيين على العنف الذي تمارسه الشرطة والعنصرية. ولكن ما يحدث في الولايات المتحدة الآن ليس جديدا فالاضطهاد العرقي الناتج عن تعامل الشرطة مع الأمريكين ذوي الأصول الأفريقية، يكاد يحدث يومياً، ولكن هناك عدد من العوامل المواتية التي ساهمت في تأجيج الأحداث واضطرابها منها:
- تصوير الحادثة ونشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أنتشر فيديو يُظهر تثبيت شرطي يدعى “ديريك شوفين” وهو يضغط بقدمه على عنق “جورج فلويد”، لأكثر من ثماني دقائق بينما كان يتلوى من الألم ويتوسل “لا أستطيع التنفس” وتوفي فلويد بعد ذلك بفترة وجيزة. وهو ما أثار استياء ورفض لوحشية الشرطة، خاصة وأن الشرطي أبيض اللون ما أضفى ظلالًا عنصرية على الواقعة، وعلى الاضطرابات التي أعقبتها.
- فشل الرئيس ترامب في احتواء الأزمة وعدم تقديم خطاب تصالحي يهدأ من سخونة الأحداث، وشرع في مهاجمة المحتجين ووصفهم بالصعاليك ودعا إلى إطلاق النار عليهم، وطالب حكام الولايات من الديمقراطيين بأن يكونوا “أقوياء” في مواجهة “الفوضويين”، ودعاهم إلى الاستعانة بقوات الحرس الوطني في ولاياتهم. واعتبر أن الاضطرابات التي وقعت في واشنطن “وصمة عار” مطالباً بضرورة التحرك بسرعة وبشكل حازم “لضبط الشارع” ووقف دوامة العنف.
- توقيت الحادثة، وقعت في وقت يكافح فيه الاقتصاد الأمريكي للخروج من حالة السبات الذي فرضه فيروس كورونا المستجد، وأودى بحياة ما يزيد عن مائة ألف أمريكي وما يقرب من مليوني حالة إصابة. ووصول معدل البطالة إلى أعلى مستوياته منذ الحرب الحرب العالمية الثانية مسجلاً 20%، بالإضافة إلى وجود 50 مليون عامل فقدوا وظائفهم أو لديهم تخفيضات في الأجور. فضلاً عن أن 39% من الوظائف التي يشغلها الأمريكيون السود معرضة لخطر الإجازات أو تسريح العمال بسبب عمليات الإغلاق، كما كشف الفيروس أيضًا عن المعاناة التي يعيشها الأمريكيون السود حيث يسجلون المعدل الأكبر لعدد الإصابات والوفيات ويفتقدون الرعاية الصحية وتلقي العلاج. وعلى سبيل المثال، وصلت نسبة المصابين بكورونا في ولاية مينيسوتا -حيث قتل جورج فلويد- إلى 20%، في الوقت الذي لا تتخطى فيه نسبة السود هناك حاجز 7% فقط من إجمالي السكان.
الفوضى تعم الولايات المتحدة
بينما كانت المدن والشوارع الأمريكية مهجورة بسبب حظر التجول المفروض للحد من تفشي وباء كورونا، إلا أن موجة من الغضب والدمار عمت الولايات المتحدة، تراوحت فيها ردود الفعل بين المظاهرات السلمية وبين أعمال الشغب والعنف.
واندلعت الاحتجاجات في 140 مدينة وولاية على رأسها نيويورك وواشنطن وبوسطن في الساحل الشرقي وسان فرانسيسكو ولوس أنجلوس وسياتل في الساحل الغربي، وشيكاغو في الوسط، وأمام البيت الأبيض والمحكمة العليا بنيويورك، حيث بدت السلطات غير قادرة إلى حد كبير على وقف الاضطرابات. مما دفع إلى انتشار 16 ألف عنصر من قوات الحرس الوطني والقوات الجوية في 21 ولاية على الأقل. وإلقاء القبض على حوالي 4 آلاف شخص في 24 مدينة.
وانتشر الحرس الوطني بكامل قوته في ولاية مينيسوتا للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية بعد أربع ليال من أعمال الحرق والنهب والتخريب في أجزاء من مينيابوليس، وكذلك في مدينة سان بول المتاخمة.
وأندلعت أعمال العنف في معظم الولايات خاصة تلك التي يسيطر عليها الديمقراطيون، وتم فرض حظر التجوال في 40 ولاية، بينما لم يتم الالتزام به، ووقعت أعمال سرقة ونهب في عدد من المتاجر، واشتبكت شرطة مكافحة الشغب مع المتظاهرين في نيويورك وشيكاغو وفيلادلفيا ولوس انجلوس، وأطلقت الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي لتفريق المتظاهرين.
وعلى إثر هذه الأحداث، دعا الرئيس الأمريكي حكام الولايات ورؤساء البلديات الليبراليين أن يكونوا أكثر صرامة وإلا ستتدخل الحكومة الاتحادية وتفعل ما يجب القيام به. الأمر الذي دفع البنتاجون إلى وضع وحدات عسكرية خاصة في حالة استنفار. والحديث هنا يدور حول الفرقة 82 المحمولة جوا في قاعدة فورت براغ في كارولينا الشمالية لنقلها الى أي ولاية في حالة انهيار الأوضاع. ومن مهام هذه الفرقة التحرك إلى أي مكان في العالم في ظرف لا يتعدى 18 ساعة إذا دعت الضرورة.
وكانت آخر مرة تم نشر هذه الوحدة في الولايات المتحدة سنة 2005 لاحتواء أعمال النهب إبان كارثة كاترينا، ومن قبلها في لوس أنجلوس سنة 1929 للسيطرة على الأوضاع في أعقاب المواجهات بين الأمريكيين السود ضد اللاتينيين والآسيويين. كما انتشرت كتيبة شرطة عسكرية، تتألف من حوالى 200 إلى 250 من العسكريين في واشنطن لتوفير الأمن، وليس مخول لها تنفيذ مهام القانون، مثل اعتقال واحتجاز المتظاهرين أو مثيري الشغب.
ومع توالي الاحتجاجات واتساع رقعتها هدد الرئيس الأمريكي بنشر قوات الجيش لإنهاء الاضطرابات التي تشهدها بلاده، وجاءت تهديدات ترامب بعد ساعات من إعلان التقرير الرسمي لتشريح جثة فلويد والذي أكد أن الوفاة “جريمة قتل.
وأشار التقرير النهائي إلى أن الوفاة جاءت “نتيجة توقف عضلة القلب أثناء عملية الاعتقال والضغط على العنق أثناء تقييده”. وأجرى التشريح الرسمي للجثة بناء على عريضة اتهام بحق الضابط شوفين بارتكاب جريمة من الدرجة الثالثة وهي “قتل” جورج فلويد.
ولمواجهة هذه الاضطرابات ومحاولة نزع فتيلها يتحرك الرئيس ترامب عبر ثلاث مسارات: الأول، إدانة مقتل فلويد والوعد بتطبيق العدالة. الثاني، طلبه من المدعي العام ويليام بار القيام بإجراءات قضائية سريعة ضد المرتكبين لجرائم عنف وسرقة خلال هذه الاحتجاجات، الثالث، وضع حكام الولايات أمام مسئولياتهم وتحملهم الدفاع عن مؤسساتهم وأخذ الإجراءات اللازمة للسيطرة على الشارع.
كيف تحولت الاحتجاجات إلى العنف
أتخذت المظاهرات الأمريكية في بدايتها طابع السلمية واقتصرت على عدد محدود من المتظاهرين من ذوي الأصول الإفريقية في مينيابوليس. ولكن سرعان ما تحولت السلمية إلى مظاهر عنف ووحشية وانتشرت الاحتجاجات والاضطرابات في شتى أنحاء البلاد لعدد من الأسباب يعود أبرزها إلى:
تكرار الحادثة: تطابقت واقعة فلويد مع حادثة وقعت في ولاية نيويورك في عام 2014، توفى على أثرها رجل أسود أثناء تعرضه لقبضة خانقة من قبل رجال الشرطة. كما جاء مقتل فلويد بعد بضعة أشهر فقط من مقتل رجل أسود في فبراير الماضي، في أتلانتا، لكن لم يكن ذلك على يد الشرطة. وبالتالي مثلت الحادثة تجربة مشتركة لأعداد كبيرة من المواطنين حول العلاقة بين الشرطة ومجتمع السود. وأدى تعاطف المحتجين في المدن المختلفة مع بعضهم البعض بسبب خلفياتهم العرقية المشتركة، أو بسبب كرههم المشترك لقوات الشرطة إلى اتساع رقعة الاحتجاجات وتمددها.
تعامل الشرطة: يأتي تعامل الشرطة مع الاحتجاجات في بدايتها العامل الأبرز فيما ستئول إليه هذه الاحتجاجات، ومدى قدرتها على خفض التصعيد وتجنب اندلاع أعمال العنف. وما حدث في مينيابوليس وغيرها قد خرج عن نطاق السيطرة بسبب استخدام الشرطة الطلقات المطاطية والغاز المسيل للدموع ورذاذ الفلفل لفض الاحتجاجات، كل هذا من شأنه مفاقمة الموقف المتوتر أصلا، ما دفع بالمتظاهرين للاشتباك مع قوات الشرطة، وإضرام النيران في سياراتهم، وتحطيم الممتلكات ونهب المتاجر. ونشير في هذا السياق إلى الاحتجاجات التي لم تتطور إلى أعمال عنف في الولايات المتحدة، كتلك التي شهدتها بلدة كامدن في ولاية نيو جيرسي والتي سار فيها رجال الشرطة جنبا إلى جنب مع المتظاهرين احتجاجا على العنصرية.
سيطرة عناصر خارجة عن القانون: شن الرئيس الأمريكي وعدد من المسئولين الجمهوريين والديمقراطيين هجوماً على مجموعات يسارية خارجة عن القانون وقفت وراء تأجج أعمال العنف مثل “أنتيفا (Antifa) وبوغالو (Boogaloo). وتقوم عقيدة هذه الجماعات على الفوضى والعنف ومواجهة السلطة، ويعتبرون أن حربهم ضد النظام الرأسمالي والسلطة التي تدعمه. وقامت حركة “انتيفا” بإنشاء حسابات وهمية على وسائل التواصل الاجتماعي تشجع على خطاب العنف والكراهية. وحذف تويتر حساب يدعى “@ANTIFA_US” نشر تغريدة قال فيها: “الليلة الليلة أيها الرفاق ننتقل إلى المدينة.. الخوذ البيضاء.. نأخذ كل ما لدينا” مع صورة لقبضة يد بنية اللون. وعلى إثر هذه الوقائع أعلن ترامب أن الولايات المتحدة ستصنف أنتيفا منظمة إرهابية. وجاء إعلان ترامب، بعدما أشار وزير العدل ويليام بار، بأصابع الاتهام إلى المنظمين المناهضين للفاشية وحملهم مسؤولية الفوضى التي أعقبت وفاة فلويد.
انتشار الشائعات: لعبت الشائعات عاملاً حاسماً في تأجيج الاضطرابات الأمريكية واتساعها، بهدف بث الإرباك والرعب خلال هذه الفترة. حيث ظهرت مقاطع فيديو قديمة لاحتجاجات سابقة وقعت في الولايات المتحدة وخارجها تظهر مدى عنف الشرطة ضد المواطنين، ومقاطع أخرى لاحتراق اقسام الشرطة.
و تصدرت شائعة قطع الإنترنت هاشتاجات على موقع تويتر، تزعم أن هناك تسترا وتعتيما على المظاهرات في واشنطن، وأن المتظاهرين يتم إسكاتهم بطريقة ما، وأن هناك مشاكل في خدمة الإنترنت في الولايات المتحدة فيما وظهرت شائعات أخرى تزعم تدخل دول أجنبية في الاحتجاجات مثل تورط روسيا في وفاة جورج فلويد، كجزء من عملية عسكرية أو مؤامرة مدروسة. كما كانت هناك ادعاءات بأن المتظاهرين المؤيدين للاستقلال من هونج كونج، متورطون بطريقة أو بأخرى.