السد الإثيوبي

العودة إلى طاولة التفاوض لا تعني اتفاق نهائي حول سد النهضة

لم يعد التوصل إلى اتفاق حول سد النهضة الإثيوبي يشغل الدول الثلاث ذات الشأن فقط، وإنما تخطى ذلك إلى منظمة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والمفوضية الأوروبية والاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية وعدد من الدول الكبرى، حيث شاركت الولايات المتحدة والبنك الدولي في المفاوضات الأخيرة بين الدول الثلاث. 

وطالب الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو جوتيريش” الدول الثلاث بضرورة التوصل إلى حل سلمي للأزمة بعد أن تقدمت مصر بشكوى إلى مجلس الأمن مطلع مايو الجاري، وردت إثيوبيا بخطوة مماثلة بعد أقل من أسبوعين، كما عرض كل من “تشارلز ميتشل” رئيس المجلس الأوروبي و”أورسولا فون دير لاين” رئيسة المفوضية الأوروبية دعم المفاوضات بين الدول الثلاث؛ الأمر الذي يؤكد أن قضية السد الإثيوبي تمثل مصدر قلق للجميع.

واستجابةً للدعوات السابقة، أبدت حكومتا مصر وإثيوبيا استعدادهما للعودة إلى طاولة المفاوضات من جديد بعد اتصالات من جانب رئيس وزراء السودان “عبد الله حمدوك” بنظيريه المصري والإثيوبي وبمشاركة وزراء الخارجية ومديري أجهزة المخابرات لكل دولة. 

ولكن ما الذي يمكن أن يُناقَش خلال هذه المفاوضات الفنية بين وزراء المياه للدول الثلاث؟ وهل هي استكمال لمسار واشنطن التفاوضي؟ أم إنكار لما تم التوصل إليه من قبل؟ والأهم من ذلك هو هل هناك نية لدى الإثيوبيين للتوصل إلى حل أم يستمرون في إنكار حق الغير؟

إنكار مستمر لحقوق الغير والكيل بمكيالين

ما تزال إثيوبيا تسير على خطى تركيا في التمسك بنظرية “هارمون” أو “السيادة المطلقة” في تعاملها مع قضية سد النهضة وحجز مياه النيل، فكما أضرت تركيا بموارد المياه في العراق ببناء السدود -آخرها سد “إليسو”- لتخزين المياه وتوليد الكهرباء دون النظر إلى آثار تلك السدود على دولة المصب، تسعى إثيوبيا إلى تكرار نفس السيناريو مع مصر والسودان من خلال إنشاء السد الأكبر في إفريقيا عند انتهائه بسعة تخزينية تصل إلى 74 مليار متر مكعب من المياه، وإعلان البدء في ملء خزان السد دون موافقة مصر أو السودان بالرغم من أن اتفاق “إعلان المبادئ” الخاص بسد النهضة في مادته الخامسة يمنع إثيوبيا الشروع في ملء وتشغيل السد دون موافقة دولتي المصب.

ويبعث المسؤولون الإثيوبيون برسالة واحدة مستخدمين نفس العبارات تقريباً مفادها أنهم مستمرون في ملء وتشغيل السد وفق جدول زمني محدد دون النظر إلى موافقة مصر والسودان، فقد صرح وزير المياه الإثيوبي “سيلشي بيكلي” بأن بلاده لا تحتاج الإذن من دول المصب كي تستفيد من حصتها الشرعية من المياه، وسوف تبدأ المرحلة الأولى من ملء السد في يوليو المقبل، كما أكد على نفس الفكرة وزير الخارجية الإثيوبي “جيدو أندارجاشيو” في رسالته إلى مجلس الأمن بأن بلاده لا ترى سبباً لتأجيل ملء خزان السد، أما رئيس الوزراء “آبي أحمد” فقد قال في كلمته بمناسبة احتفال إثيوبيا بالذكرى السنوية التاسعة للبدء في مشروع سد النهضة أن بلاده ستبدأ ملء السد في موسم الأمطار المقبل. وقالت رئيسة الدولة، سهلي ورك زودي، إن السد أكبر من مجرد كونه مشروعاً تنموياً، وسيبدأ ملء السد في شهر يوليو القادم، ويُستكمل بالكامل في عام 2023. من هنا، يتضح التناقض في الموقف الإثيوبي، فكيف يبدون الرغبة في التفاوض في حين يصرون على ملء السد في يوليو القادم دون موافقة مصر والسودان؟

ويمكن توضيح التناقض في السياسة الإثيوبية من خلال مثالين بسيطين، أولهما أن إثيوبيا مستمرة في الانتهاء من إنشاءات السد على أساس أن “إعلان المبادئ” ليس فيه ما يمنع استكمال البناء، وعلى الجانب الآخر بداية ملء خزان السد في يوليو المقبل متجاهلة نفس الاتفاق الذي وقع عليه رئيس وزرائها منذ مارس 2015. والمثال الآخر على الكيل بمكيالين هو موافقة إثيوبيا على الرجوع إلى اتفاقية 1902 لترسيم الحدود مع إريتريا في اتفاقية الجزائر عام 2000، أما في خلافها مع مصر حول مياه النيل، فدائماً ما يؤكد الإثيوبيون على أن اتفاقية 1902 هي اتفاقية استعمارية لا يمكن الرجوع إليها. 

استكمال لمسار واشنطن أم مفاوضات جديدة؟

لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تنفصل المفاوضات الفنية المزمع عقدها خلال الفترة المقبلة بين وزراء المياه للدول الثلاث عما تم التوصل إليه خلال الجولات التي شاركت فيها وزارة الخزانة الأمريكية والبنك الدولي؛ فقد تم التوصل إلى اتفاق حول العديد من نقاط الخلاف وكان التوقيع على اتفاق واشنطن قريباً جداً، إلا أن الوفد الإثيوبي انسحب في اللحظة الأخيرة بحجة أنهم مازالوا يحتاجون لمزيد من الوقت لدراسة كافة بنود الاتفاق. وبعد فترة وجيزة من انسحابهم، وفي موقف مضلل، اتهم الإثيوبيون الولايات المتحدة بانحيازها لمصر، ووصفوا الاتفاق الذي شاركوا في جميع خطوات التوصل إليه بأنه لا يخدم إلا المصالح المصرية.

وتجدر الإشارة إلى أن وفود الدول الثلاث كانت قد اتفقت على بعض النقاط الخلافية وهي: جدول يتضمن خطة ملء سد النهضة على مراحل، والآلية التي تتضمن الإجراءات ذات الصلة بالتعامل مع حالات الجفاف والجفاف الممتد والسنوات الشحيحة أثناء الملء والتشغيل. أما النقاط التي ماتزال موضع خلاف، ويمكن أن تكون السبب الحقيقي وراء انسحاب إثيوبيا من مفاوضات واشنطن، هي آلية التنسيق بين الدول الثلاث لمتابعة تنفيذ اتفاق ملء وتشغيل سد النهضة، وأحكام تتعلق بأمان السد والتعامل مع حالات الطوارئ، والآلية الملزمة لفض النزاعات التي قد تنشأ عن تفسير أو تطبيق هذا الاتفاق.

وقد أعلنت مصر والسودان تمسكهما بمرجعية مسار واشنطن التفاوضي، ما يقطع الطريق على إثيوبيا إذا ما أرادت البدء في مفاوضات جديدة أو الاستمرار في استخدام طرق ملتوية لإكمال سدها وتشغيله دون توقيع اتفاق ملزم لها. ترتيباً على ذلك، يتضح أن الجولة القادمة من المفاوضات لن تكون في معزل عن الخطوات التي قطعتها الدول الثلاث في مسار واشنطن التفاوضي، وإنما محاولة لإنهاء الخلاف حول بعض النقاط العالقة.

مفاوضات مشروطة ونتائج متوقعة

على الرغم من إعلان مصر وإثيوبيا استعدادهما للانخراط في المفاوضات الفنية مرة أخرى، وتشجيع الصين والولايات المتحدة للدول الثلاث من أجل الوصول إلى اتفاق سلمي، إلا أنه لم يتم الإعلان عن موعد محدد لاجتماع وزراء المياه للدول الثلاث. وبالرغم من مشاركة مراقبين دوليين في الاجتماعات الأخيرة، إلا أنها لم تفضي إلى نتائج إيجابية؛ فكيف يمكن أن تحقق اجتماعات فنية بين وزراء المياه للدول الثلاث ما لم تحققه اجتماعات موسعة شاركت فيها وزارات الخارجية وأجهزة المخابرات ووسطاء بحجم الولايات المتحدة والبنك الدولي؟ 

إن ما أظهرته إثيوبيا من تعنت وإصرار، في الجولات السابقة من المفاوضات، على تنفيذ مشروعها بشكل أحادي من شأنه الإضرار بالمصالح المصرية والسودانية يوحي بأن موافقتها على الانخراط في المفاوضات من جديد ما هو إلا إعلان ظاهري لتحقيق غرض خفي، أو أن العودة للتفاوض كانت شرطاً لتنفيذ اتفاق آخر. وقد يتمثل هذا الغرض في الحصول على مساعدات مالية من جهات دولية لمواجهة آثار جائحة كورونا، حيث أشارت “بلومبيرج” أن رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” يسعى لتوقيع اتفاق مع نادي باريس للإفراج عن رأس المال الذي تحتاجه بلاده لمواجهة آثار “كورونا”. 

والتفسير الثاني لعودة إثيوبيا لطاولة التفاوض قد يتمثل في إرضاء الصين، أكبر شريك تجاري لإثيوبيا، حيث أشار أحد المسئولين الصينيين في السفارة الصينية بأديس أبابا إلى ضرورة التوصل إلى اتفاق بين الدول الثلاث من خلال الحوار والتفاوض السلمي. يُذكر أن الصين قدمت لإثيوبيا ما يزيد عن 16 مليار دولار في صورة قروض، كما أنها تستثمر 1.2 مليار دولار في مد خط سكك حديدية بين إثيوبيا وجيبوتي، ومن الضروري أن يتم الاتفاق على تشغيل سد النهضة لتوليد الكهرباء اللازمة لتشغيل خط السكك الحديدية الجديد.

 أما فيما يتعلق بنتائج المفاوضات المزمع عقدها –إذا ما عُقدت- فمن المتوقع ألا تخرج باتفاق شامل وعادل ومنصف ونهائي يُرضي الأطراف الثلاثة. ذلك أن إثيوبيا تتمسك بموقفها في إدارة وتشغيل السد بشكل أحادي، وهو ما ترفضه مصر تماماً لما له من مخاطر كارثية على مصر والسودان. وإذا ما تم الاتفاق على شيء، فلن يكون أكثر مما تم التوصل إليه مسبقاً، بالإضافة محاولة الحصول على موافقة مصر لبدء المرحلة الأولى من ملء خزان السد بحكم أنها لن تؤثر على كمية المياه المتدفقة إلى مصر والسودان مع تقديم الضمانات الكافية لمصر بعدم تخزين كميات أكبر من المياه.

ختاماً، يمكن تفسير موافقة إثيوبيا على الانخراط من جديد في مفاوضات فنية حول سد النهضة بأنها شرط أساسي للحصول على مساعدات مالية أو إرضاء لأكبر الشركاء التجاريين لإثيوبيا. وقد تكون محاولة لاستقطاب المفاوض المصري من أجل الحصول على موافقة للبدء في المرحلة الأولى من ملء خزان السد، ولكن هذه المحاولة لابد أن تبوء بالفشل، لأن الموافقة على تخزين إثيوبيا قطرة مياه واحدة تعني التخلي عن المادة الخامسة من “إعلان المبادئ” وبالتالي التخلي عن حق مصر التاريخي في مياه النيل.

+ posts

باحث ببرنامج السياسات العامة

محمود سلامة

باحث ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى