مقالات رأي

أوبنهايم العرب.. المستشرق الألماني صانع الجهاد الإسلامي ضد بريطانيا

نشأت فكرة استغلال القوى الغربية لتنظيمات الإسلام السياسي في وقت مبكر من الصراع الإسلامي الأوروبي، حيث حاول بعض القوى الأوروبية التواصل مع بعض القوى الإسلامية قبل مئة عام من بدء الحروب الصليبية، ولقد شهدت فترة الحكم الصليبي الأوروبي في الشام والأناضول أثناء تلك الحملات بعض أشكال التعاون بين أوروبا وبعض الفرق الإسلامية أو حتى بعض حكام المنطقة، ولكن هذه الحقب لم تشهد عملًا حقيقيًا ومنظمًا بين الغرب والفرق الإسلامية، ثم انخرطت أوروبا بعد ذلك في عصور الإصلاح والنهضة والتنوير واكتشاف القارة الأمريكية والثورة الصناعية الأولى.

وفى القرن الثامن عشر بدأت بريطانيا في فكرة تصنيع إسلام سياسي موالٍ لها، في إطار الصراع الدولي بين الغرب والدولة العثمانية، حيث وجدت بريطانيا أن اختراق المجتمعات العثمانية تلزمه حركات إسلام سياسي مصنعة من الألف للياء.

أوائل سبعينات القرن التاسع عشر حدث تطور فريد في أوروبا، حيث اندلعت الحرب الألمانية الفرنسية (1870 – 1871) حينما تحالفت الولايات والممالك والدوقيات الألمانية والكونفدرالية الألمانية لردع الإمبراطور نابليون الثالث، وانتهت الحرب بإسقاط الإمبراطورية الفرنسية الثانية وإعلان الجمهورية الفرنسية الثالثة ودخول القوات الألمانية العاصمة الفرنسية باريس في 28 يناير 1871.

ومن قلب قصر فرساي في باريس أعلن توحيد الأمة الألمانية للمرة الأولى منذ انهيار الإمبراطورية الرومانية المقدسة للأمة الجرمانية (962 – 1806) على يد نابليون بونابرت، وهكذا ظهرت ألمانيا إلى الوجود بعد سنوات من التشرذم، لتنضم إلى موكب القوي العظمي، وانسحبت برلين من باريس عقب موافقة الجمهورية الفرنسية الجديدة على ضم إقليمي لورين وألزاس إلى ألمانيا.

وعلى ضوء تطور الصراع الدولي بين ألمانيا وجيرانها الروس والأوروبيين، سعت برلين إلى ضرب نفوذ بريطانيا وفرنسا وإيطاليا في الشرق الأوسط، لأن هذا الاستعمار الغربي لم يكن سوى أكبر عملية نهب لخيرات هذه المنطقة والسيطرة على الخطوط التجارية ومصادر الطاقة (الفحم ولاحقًا النفط) والمياه والمعابر التجارية الرئيسية المسيطرة على التجارة الدولية، وحال تجريد لندن وباريس وروما من هذه المكاسب الاستعمارية فإن حسم الصراع الدولي لصالح برلين سوف يصبح مسألة وقت.

هكذا تحالفت برلين مع الدولة العثمانية لتقوية دعائمها في وجه النفوذ البريطاني والفرنسي والإيطالي، والبحث عن نفوذ موازٍ في الولايات العثمانية، عبر إنشاء سكة حديد الأناضول وسكة حديد الحجاز، والاتفاقيات التجارية والصناعية والاقتصادية إضافة إلى إرسال المستشارين العسكريين الألمان إلى مجلس الحرب العثماني حينما كانت الدولة العثمانية تخوض حروبها.

التقارب الألماني العثماني لازمه تقارب ألماني – إسلامي، وهو ما برع فيه الإمبراطور الألماني فيلهلم الثاني حتى أسماه المسلمون الحاج جليوم الثاني، وقد زار دمشق ولبنان والقدس في جولة شامية عام 1898 ليصبح أول حاكم أوروبي يدخل المدن الثلاث سلمًا دون حرب، وأصر على زيارة ضريح السلطان صلاح الدين الأيوبي والمسجد الأموي في دمشق، ووضع إكليل من البرونز على قبر الأيوبي وظل في مكانه إلى أن سرقه لورانس العرب بعد ذلك بعقدين من الزمن.

وكانت ألمانيا وقتذاك تحظى بسمعة طيبة بين المسلمين على ضوء أنها بلا ماضٍ استعماري في البلدان الإسلامية ولا تحكم أي بلد إسلامي عدا زنجبار في شرق إفريقيا. وفى عام 1908 أسست ألمانيا معهد هامبورج المعهد الكولونيالي الذي تحول إلى جامعة هامبورج لاحقًا، وأسندت رئاسته إلى كارل هاينريش بيكر أستاذ تاريخ الشرق والدراسات الإسلامية، وكان هدف المعهد هو دراسة فكرة الجهاد وكيفية توظيفها للمصالح الألمانية.

ولكن خلف هذا الدفء الإسلامي العثماني – الألماني كان هنالك مجهود استخباراتي رفيع، لم يحظ بالدعاية السينمائية والثقافية الكبيرة مثل التي حصل عليها جون فيلبي وغيره من مستشاري آل سعود البريطانيين.

أوبنهايم العرب

مثلما كان أغلب رجالات الآثار الفرنسيين والبريطانيين ضباط مخابرات حتى مع إنجازاتهم الأثرية، فإن ألمانيا قدمت للبحث العلمي والأثري العالم الجليل البارون ماكس فون اوبنهايم (1860 – 1946) المؤرخ والأثري والدبلوماسي وسليل أسرة أوبنهايم المصرفية، اكتشف منطقة تل حلف الأثرية وانتشلها من التراب عام 1899 أثناء عملية استخباراتية لتحديد طرق سكة حديد بغداد – البصرة، وظل أوبنهايم حتى عام 1929 ينقب في المنطقة وينقل آثارها إلى متحف تل حلف في برلين، وهو المتحف الذى سوته غارات التحالف بالأرض أثناء الحرب العالمية الثانية.

C:\Users\m.abdelrazik.ecss\Desktop\00edac7b-798b-4807-85de-32006e02ee02.jpg

ورغم أن آل أوبنهايم كانوا يهودًا إلا أن والده تحول إلى الكاثوليكية للزواج من بولين انجلز، ووصل أوبنهايم إلى القاهرة عام 1896 للعمل ملحقًا بالسفارة الألمانية بالقاهرة كتغطية على نشاطه الاستخباراتي وظل بالقاهرة 13 عامًا حتى عام 1910 حينما خرج من السلك الدبلوماسي برتبة وزير.

ويشير المستشرق النمساوي ستيفان كرويتسر Stefan Kreutzer في كتابه “الجهاد من أجل القيصر الألماني” Dschihad für den deutschen Kaiser عام 2012 أن شائعة تحول القيصر الألماني للدين الإسلامي سرًا ودعمه الخلافة الإسلامية كانت من أفكار أوبنهايم، كما أنه كان مهندس التقارب الألماني العثماني وزيارة القيصر إلى سوريا ولبنان وفلسطين وحرص أوبنهايم على أن تتضمن الزيارات تفاصيل توضح قرب قيصر الألمان من الدين الإسلامي. كما كان أوبنهايم هو مهندس الدعاية الألمانية التي نشرت شائعة أن فرنسا تخطط لنبش قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ونقل الحجر الأسود إلى متحف اللوفر.

ويوضح كرويستر في دراسته أن أوبنهايم تواصل مع زعماء التنوير والإسلام في مصر والشام، مثل الشيخ عبد الخالق السادات ومحب الدين الخطيب وشكيب أرسلان والشيخ محمد عبده وسعد زغلول وجمال الدين الأفغاني، وإنهم أسهموا في صياغة أفكار ماكس فون أوبنهايم حول استعداد النخب الليبرالية لدعم الثورة ضد الدولة العثمانية وقدرتها على تشكيل ظهير نخبوي لهذه الثورات.

وتعود فكرة استخدام الإسلاميين في نسف البنية التحتية والاقتصادية للدول المستهدفة إلى أوبنهايم، حيث حرض – وفقًا لكرويستر – زعماء القبائل والعشائر من أجل تخريب مضخات وأنابيب النفط في إيران، وعشية الحرب العالمية الأولي حينما كان الخديوي عباس حلمي الثاني حاكم مصر في فيينا تواصل معه في محاولة لنسج تحالف مصري ألماني، ولكن البريطانيين استبقوا هذا التواصل ونظرًا لمعرفتهم بميول عباس قاموا بعزله وتعيين السلطان حسين كامل بدلًا منه.

سكك حديد برلين لاختراق الشرق الأوسط

ويعود إلي أوبنهايم الفضل في تحديد أغلب محطات خط قطار برلين – البصرة المعروفة تاريخيًا ببرلين – بغداد، حيث ينطلق القطار من العاصمة الألمانية وصولًا إلى قونية، ثم يخترق الأناضول وسفوح جبال طوروس وصولا إلى أضنة وحلب والموصل وبغداد والبصرة ولاحقا تم بناء خط فرعي إلى الاسكندرون شمال سوريا ليفتح الباب أمام الألمان في جنوب تركيا وشمال سوريا، بكل تنوعها الثقافي بين الآشوريين والأكراد والتركمان إضافة إلى التمدد الجغرافي للجزيرة السورية إلى العراق ما يعني أن وادي ما بين النهرين وبلاد الرافدين قد اصبح مفتوحًا أمام مصرعيه أمام النفوذ الألماني.

هذا القطار كان يفترض أن يحقق ثورة تجارية حقيقية حال اكتمال بنائه، وهو أمر لم يحدث رغم بدء العمل عام 1903، بل أن إيقافه كان من أسباب اندلاع الحرب العالمية الأولي  حتى لا تحسم ألمانيا صراع النفوذ التجاري في الشرق الأوسط بهذا القطار الذى يجنبها المرور بقناة السويس الواقعة وقتذاك تحت سيطرة الاحتلال البريطاني، وتطويق برلين لمناطق النفوذ البريطاني والفرنسي، إضافة إلى الوصول إلى الخليج العربي عبر البصرة ما يعني القدرة على الإبحار للهند البريطانية درة الاستعمار البريطاني، وتهديد النفوذ البريطاني على الساحل الغربي للجزيرة العربية (الإمارات والبحرين وقطر والكويت حاليًا).

سكة حديد برلين – البصرة كان فرصة تاريخية للصناعة الألمانية للوصول إلى أسواق تركيا وإيران وسوريا ولبنان والعراق والبلقان، كما أن قربه من القوقاز الروسي دق ناقوس الخطر في بلاط قياصرة روسيا. كما يهدد طموحات فرنسا ونفوذها في ولايات الشام العثمانية، ويسهل نقل جنود ألمان من قلب العاصمة الألمانية إلى مياه الخليج العربي أقرب نقطة استراتيجية من الهند البريطانية.

C:\Users\m.abdelrazik.ecss\Desktop\41576d3f-6d73-47a6-9465-5d1043080905.jpg

بل وكان هذا التصميم العبقري يجعل ألمانيا متصلة مع مستعمراتها في شرق أفريقيا عبر مضيق هرمز حيث كانت ألمانيا تسيطر على أجزاء مما يعرف اليوم بـ أوغندا وتنزانيا وروندا وموزمبيق وكينيا وبوروندي وبابوا غينيا الجديدة وتوجو وغانا وغينيا وجمهورية أفريقيا الوسطي وتشاد ونيجريا والكاميرون، ما يعني حسمًا ألمانيًا للعبة محاصرة النفوذ البريطاني والفرنسي والبلجيكي في القارة الأفريقية وفقًا للمؤرخ سيباستيان كونراد Sebastian Conrad في كتابه “الاستعمار الألماني.. تاريخ قصير” German Colonialism: A Short History.

ولم يكن وجود ثلاث محطات على الأقل في العراق وتحديدًا على راس الشمال العراقي في الموصل ووسعه في بغداد وجنوبه في البصرة على سبيل المصادفة، ولم يكن الامر تفكيرًا عسكريًا فحسب، ولكن بحسب المؤرخ إدوارد ميد ايرلEdward Meade Earle في كتابه “تركيا والقوى العظمي وسكة حديد بغداد” Turkey, The Great Powers, and the Bagdad Railway أنه بحلول عام 1901، أصبح الألمان على يقين بعد إرسال بعثية استكشافية جيولوجية في نهري دجلة والفرات، أن المنطقة ترقد على بحيرة نفط تمثل اليوم كافة منصات النفط في العراق وشرق سوريا.

النفط قد ظهر وقتذاك في روسيا وأمريكا، وبدأ ينافس الفحم في الثورات الصناعية، وكان الألمان أسبق الأمم الأوروبية في البحث عن النفط في الولايات العثمانية في العراق وسوريا.

وبحلول عام 1903 بدأت عمليات إنشاء الخط، بعد أن ساهم أوبنهايم بنصيب الأسد في تحديد مسارته وسط صحراء الأناضول وسوريا والعراق وضمان عدم حدوث اضطرابات مع بدو الولايات العثمانية. ولكن القاهرة لم تكن محطة اوبنهايم الوحيدة، فقد جاب حلب ودمشق، وامتاز عن لورانس العرب الذي يوضع معه في مقارنة دائمة بأنه وصل إلى شط العرب والعراق وغطى عشائر الشام وشبه الجزيرة العربية كاملة، إضافة إلى جنوب الأناضول وشرق إيران واختلط بالعرب والكرد والتركمان واليزيديين والجراكسة، وقد لخص مسيرته تلك ومنجزها العلمي والأثري في موسوعة البدو (أربع مجلدات) التي تعد حتى يومنا من اهم المراجع التاريخية لتاريخ ما يعرف اليوم بسوريا ولبنان والأردن وإيران وتركيا والعراق. وعقب انتهاء خدمته الدبلوماسية في القاهرة انتقل إلى سوريا للعمل الأثري حتى عام 1913 أي قبل اندلاع الحرب العالمية الأولي (1914 – 1918) بعام واحد فحسب.

صانع فكرة الجهاد الإسلامي لصالح الغرب

ماكس فون أوبنهايم لم يكن من اهم مهندسي التحالف العثماني – الألماني والتقارب الألماني – الإسلامي فحسب، بل هو أول مفكر أوروبي يصيغ فكرة استخدام الجهاد الإسلامي لصالح أجندات غربية، وكتب مذكرة سرية بعنوان “ثورة الأراضي الإسلامية ضد أعدائنا” تتضمن فكرة تدبير ثورة جهادية ضد الاحتلال البريطاني في مصر والسودان، والاحتلال الفرنسي في الجزائر والمغرب وتونس والاحتلال الإيطالي في ليبيا، وفى عام 1906 اتهم من قبل السلطات البريطانية في مصر بالعمل على تدبير مذابح جهادية ضد الأوروبيين في الولايات العثمانية المحتلة.

وعشية الحرب العالمية وافقت برلين على خطته وأسست جهاز مخابرات الشرق ومقره العاصمة الألمانية وأوكلته إليه رئاسته من اجل إشعال ثورة جهادية في الولايات العثمانية المحتلة، وزار عددًا من الدول سرًا.

وفى عام 1915 وبالتنسيق مع العثمانيين أرسل إلى السفارة الألمانية في إسطنبول للأشراف على الخطة الإعلامية لإعلان الجهاد العثماني، وفي نفس العام التقى الأمير فيصل بن الحسين (أول ملوك العراق لاحقًا) من اجل حشده لصالح ألمانيا القيصرية ولكن لم يحدث اتفاق. يقول المؤرخ وولفجانج شوانيتس Wolfgang G. Schwanitz في كتابه “الجهاد صنع في ألمانيا.. النزاع حول الحرب المقدسة 1914 – 1915” “Djihad ‘made in Germany’. Der Streit um den Heiligen Krieg 1914–1915” الصادر عام 2003 أن ماكس فون أوبنهايم هو المؤسس الحقيقي لفكرة الجهاد المقدس لصالح أجندات غربية، ولقبه بأبو الجهاد الإسلامي وأبو الحرب الإسلامية المقدسة، وان البريطانيين وان كانوا قد سبقوا الألمان في ابتكار الإسلام السياسي الموالي للغرب او القومية العربية من اجل فصل الولايات العثمانية الناطقة باللغة العربية عن باقي الولايات ولكن أفكار أوبنهايم طورت المخطط البريطاني وجعلته قابلًا للحياة حتى اليوم.

C:\Users\m.abdelrazik.ecss\Desktop\ada887d7-0b83-4956-b990-5793df13e3cb.jpg

الكولونيل البريطاني الشهير السير هنري مكماهون أشار في كتابه “الحرب.. المحاولات الألمانية للتأثير على الشعور الإسلامي” The War: German attempts to fan Islamic feeling إلى أن الأجهزة الاستخباراتية البريطانية رصدت أوبنهايم يخطب في مساجد تركية حرضت على إبادة الأرمن المتحالفين مع أعداء الدولة العثمانية. ولكن مجهودات أوبنهايم لم تسفر عن شيء، وفشل في صناعة الثورة الإسلامية ضد الدول الأوروبية التي تحارب ألمانيا، وهزمت برلين في الحرب العالمية الأولي ثم قامت ثورة شعبية أسقطت الحكم الملكي وأعلن النظام الجمهوري.

وقد حرص المنتصرون في الحرب على تجريد ألمانيا وشركاتها وبنوكها من ملكية خط سكة حديد بغداد وذلك في معاهدة فرساي عام 1919، أما المحطات والسكك الحديدة التي أنجزت فقد حصلت عليها كل دولة على حدة دون أن يحدث اتصال جغرافي خارج الحدود، ومن عظمة الصناعة الألمانية أن اغلب المحطات التي شيدت لا تزال في الخدمة اليوم في العراق وسوريا وتركيا، كما تم تقسيم مستعمرات ألمانيا في المعاهدة ذاتها إلى مناطق انتداب لبريطانيا وفرنسا واليابان وبلجيكا.

غادر أوبنهايم جبهات القتال العثماني عام 1917 عائدًا إلى ألمانيا، وحتى اليوم لم تفصح برلين عن وثائق القوى الإسلامية والقبائلية التي تواصل معها أوبنهايم منذ مجيئه للشرق الأوسط وحتى رحيله النهائي عشية الحرب العالمية الثانية، ولقد اعتزل العمل السياسي والاستخباراتي عقب هزيمة بلاده في الحرب العالمية الأولي ولكنه استمر في العمل البحثي. ونظرًا لقدرته الاستثنائية في الاكتشافات الأثرية وافقت سلطات الانتداب الفرنسي على أن يستأنف العمل في الأراضي السورية حتى غادر سوريا للمرة الأخيرة عام 1929، وافتتح متحف تل حلف في برلين عام 1930.

وحينما بدأت طبول الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) تدوي في القارة الأوروبية، سارع أوبنهايم مجددًا لتقديم خطته إلى الحكومة النازية، ولكن المسؤولين النازيين نظروا إلى أوبنهايم باعتباره ورقة محروقة من جهة ومن جهة أخرى كان هنالك مخطط بالفعل قد بدأه الرئيس الألماني أدولف هتلر في استخدام الإسلام السياسي لصالح برلين على حساب بريطانيا وفرنسا. عاش أوبنهايم بقية حياته مديونًا وفقيرًا خاصة في ظل حكم النازيين، وقد دمر القصف البريطاني متحفه ثم بيته، فانتقل للإقامة مع أخته في بافاريا حيث توفى عام 1946 بينما ألمانيا كانت ركامًا عقب هزيمتها في الحرب العالمية الثانية.

لورانس الفرس

وبينما أوبنهايم يعمل في الشام والأناضول، كان هنالك دبلوماسي ألماني آخر ينشط لنفس الفكرة، فيلهلم فاسموس Wilhelm Wassmuss (1880 – 1931) القنصل الألماني في بوشهر الفارسية، استطاع أن يتواصل مع شبكة من زعماء القبائل في فارس وأفغانستان الواقعتان تحت النفوذ البريطاني للهدف ذاته.

أطلق عليه لورانس الفرس، ويذكر الكاتب الإنجليزي كريستوفر سيكسChristopher Sykes (1907 – 1986) في كتابه “فاسموس لورانس الألماني” Wassmuss The German Lawrence عام 1936 أن الأخير تسبب في متاعب جمة للبريطانيين خلال الحرب العالمية الأولي، عبر تحريض العشائر على الثورة الإسلامية ونشر تكتيكات حرب العصابات بين الفرس، وقد ذهب إلى القسطنطينية للقاء مسؤولين من الخارجية الألمانية ولما عاد كان محملًا بالذهب من اجل تقديمه إلى زعماء العشائر.

نجح فاسموس في صناعة انتفاضة قبائل قشقاي التركمانية في مدينة فارس، إضافة إلى انتفاضة عشائر منطقة تنجستان الواقعة في مدينة بوشهر وركز جهده في جنوب البلاد ولكن أنباء الخسائر الألمانية على الجبهات الأوروبية جعلت العشائر الفارسية والأفغانية ترفض التعامل مع الألمان وتتفهم أن بريطانيا سوف تربح الحرب ومع رصد بريطانيا لنشاطه وزعوا نشرة بأوصافه ورصدوا مكافأة ضخمة للقبض عليه. وبالفعل اعتقل في سجن محلي جنوب فارس مرتين، نجح في الفرار في المرة الأولي ولكن في المرة الثانية اعتقل ما بين عامي 1918 و1920 في وقت كانت الحرب العالمية قد انتهت فعليًا وسيطر البريطانيين على أفغانستان وفارس (إيران حاليًا).

C:\Users\m.abdelrazik.ecss\Desktop\5c0c1e1b-27f4-4fa1-863a-690c01821c61.jpg

ولكن فاسموس لم ينس وعوده لبعض زعماء العشائر ولما عاد لبرلين طالب الخارجية الألمانية بإعطائه الذهب لتسديد “وعود ألمانيا” إلى حلفائها الإسلاميين ولكن فشل في إقناع النظام الجمهوري الجديد بذلك، ولكن فاسموس عاد إلى جنوب فارس مرة أخرى وابتاع مزرعة ضخمة وأقام بها حتى عام 1931 حينما خسر المزرعة في نزاع قانوني فعاد إلى برلين وتوفى عقب عودته ببضعة أشهر. لقبه البريطانيون والألمان معًا بــ “لورانس الفرس” بسبب الاضطرابات التي استطاع صناعتها في إيران وأفغانستان بالتواصل مع المقاومة في كلا البلدين.

يمكن القول إن فكرة استغلال الجهاد الإسلامي وان كانت تعود إلى الألمان في واقع الأمر إلا أن البريطانيين كانوا الأفضل في استخدامها عبر الثورة العربية الكبرى بقيادة لورانس العرب في الجزيرة العربية، ثم تولى الأمريكيون لواء الثورات الإسلامية في أفغانستان ضد الاتحاد السوفيتي ثم الشيشان ضد روسيا الاتحادية ثم كافة تحركات إرهاب الإسلام السياسي في سنوات الربيع العربي.

+ posts

باحث سياسي

إيهاب عمر

باحث سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى