ليبيا

المقاتلات التركية تقترب.. مرحلة استراتيجية وعسكرية جديدة في طرابلس

بدأت تتشكل في السابع عشر من الشهر الجاري، ملامح مرحلة جديدة كليًا، على المستويين الاستراتيجي والعسكري، لكافة الأطراف المنخرطة في معارك طرابلس، وهي ملامح تعطي للفاحص لها انطباعًا واضحًا لا لبس فيه بأن هذه المعركة ستنتقل إلى مرحلة سيكون فيها التصادم بين وحدات الجيش الوطني الليبي من جهة، والجيش التركي ومرتزقته من جهة، هو الصدام الأساسي فيها، وسيتراجع تدريجيًا دور ميليشيات حكومة الوفاق، التي قد تصل قريبًا إلى مرحلة تصبح فيها محل المرتزقة السوريين، الذين توافدوا بالمئات عبر الرحلات الجوية والبحرية المدنية، على مدار الأشهر الماضية.

تركيا تستمر في استراتيجية (التدخل المباشر)

في مادة سابقة كان عنوانها (الصواريخ التركية والدعم المباشر .. هل تنتصر الميليشيات في طرابلس)، تم شرح تفصيلات المحاولات التركية التي تمت خلال الأسابيع الماضية، لتقديم دعم مباشر لميليشيات حكومة الوفاق، على خلفية المعارك التي اندلعت في الساحل الغربي الليبي، لكن تطورت هذه المحاولات بشكل أكبر بداية من منتصف الشهر الجاري، بعد أن بدأت تركيا على المستويين العسكري والاستراتيجي في تطبيق خطة مكونة من ثلاثة بنود، البند الأول يتم فيه زيادة الضغط الميداني على نقاط القيادة والسيطرة الأساسية لوحدات الجيش الوطني في معركة طرابلس، وتحديدًا قاعدة الوطية الجوية غربي البلاد، ومدينة ترهونة جنوبي العاصمة، وفي البند الثاني تتم محاولات لترغيب بعض المكونات القبلية والمحلية على سحب دعمها للجيش الوطني الليبي، وفي البند الثالث يتم الترويج لبعض الروايات التي تم استخدامها سابقًا في سوريا، وعلى رأسها (السلاح الكيماوي).

في القسم الأولى من هذه الخطة، بدأت ميليشيات الوفاق بدعم جوي من الدرونز التركية، هجومًا واسعًا على مواقع الجيش الوطني، في مدينة ترهونة جنوبي العاصمة. تم التمهيد لهذا الهجوم في السابع عشر من الشهر الجاري، بتنفيذ عدة درونز من نوع (بيرقدار)، لغارات استهدفت نقاط التمركز والحراسة الواقعة شمالي المدينة، وتم إسقاط إحدى هذه الدرونز خلال هذه الغارات، ثم بدأ في اليوم التالي، هجوم الميليشيات على المدينة، والذي استمر لمدة ثلاثة أيام.

هذا الهجوم تم على ثلاثة محاور، المحور الأول غربي مدينة ترهونة، واستهدف انطلاقًا من مدينة مسلاتة ومحيطها، منطقة الداوون. المحور الثاني شمال شرق المدينة، واستهدف انطلاقًا من منطقة ماجر شمالي سوق الجمعة، منطقة مثلث القومة. المحور الثالث شهد المعارك الأعنف خلال هذه الفترة، وهو محور شمال غرب المدينة، وفيه تقدمت الميليشيات انطلاقًا من مدينة القره بوللي غربي العاصمة، وحاولت استهداف مواقع الجيش الوطني في منطقة سيدي بن البشيري شمال مدينة ترهونة.

على الرغم من عنف المعارك التي شهدها كل من المحور الثاني والمحور الثالث، وهي معارك كان العدد الأكبر من المقاتلين فيها من المرتزقة السوريين، وسقط خلالها عدد من قادة الميليشيات، من بينهم قائد ميليشيات زليتن المدعو عبد الرؤوف الصاري، إلا أن وحدات الجيش الوطني تمكنت من التمسك بمواقعها الحالية.

ومن ثم انعكست الأوضاع، حيث باتت وحدات كتائب المشاة 210 و20 و166، بجانب كتائب أخرى تتبع اللواء التاسع مشاة، تقاتل حاليًا في التخوم الجنوبية لمدينة القره بوللي، والتي إن تمت السيطرة عليها، ستكون وحدات الجيش الوطني قاب قوسين أو أدنى من قطع الطريق الساحلية بين العاصمة ومدينة الخمس شرق العاصمة.

اللافت هنا، أن البند الثاني من الخطة التركية الجديدة في ليبيا، والذي يقتضي التأثير على بعض المكونات المحلية والقبلية، لتغيير تموضعها الحالي مع الجيش الوطني، أو حتى المشاركة ولو بصورة رمزية في المجهود العسكري لميليشيات الوفاق، لم تتمكن حكومة الوفاق من تحقيقه خلال هذه المعركة، فميليشيات مسلاتة أحجمت بشكل شبه كامل عن المشاركة في الهجوم على ترهونة، على عكس ما كان متوقعًا من جانب حكومة الوفاق.

كذلك لم تسفر عمليات قطع إمدادات المياه والطاقة عن ترهونة، في خلق حالة من التذمر داخل مكوناتها الشعبية والقبلية، أو إحداث شرخ في العلاقة الحالية بين الجيش الوطني الليبي وأسرة الكانيات. آخر هذه المحاولات كان مع مدينة بني وليد، التي أعلنت منذ فترة أنها على الحياد في ما يتعلق بمعركة طرابلس، حيث حاولت حكومة الوفاق خلال الأيام الماضية، دفع أهالي المدينة إلى قطع طريق الإمداد المتجه إلى ترهونة، وشملت هذه المحاولات، قد قصف الدرونز التركية عدة مرات، لعربات تنقل شحنات أغذية وأدوية قادمة إلى مدينة بني وليد، لكن لم تفلح هذه المحاولات في دفع المدينة إلى التخلي عن حيادها، وربما تكون المشاهد التي أعقبت دخول ميليشيات الوفاق إلى مدينتي صرمان وصبراتة غربي العاصمة، بموجب صفقة أبرمتها مع المكونات المحلية المتواجدة في المدينتين، من العوامل التي ساهمت في فشل كافة محاولات حكومة الوفاق للتأثير على بني وليد وترهونة.

الهجوم على ترهونة صاحبته هجمات مستمرة بالدرونز على قاعدة الوطية الجوية، بجانب معارك متفرقة في محور عين زارة، وضربات مكثفة لسلاح الجو الليبي على تجمعات الميليشيات في منطقة أبو قرين، شرقي مدينة مصراتة، وبوابة الـ 14 شرقي مدينة تاورغاء. لكن التطور الأبرز الذي صاحب الهجوم على ترهونة، كان في التحركات الجوية المكثفة، التي نفذها سلاح الجو التركي، في الأجواء المقابلة للمياه الإقليمية الليبية، حيث شهد يوما 17 و18 من الشهر الجاري تحليق تشكيل ضخم من الطائرات العسكرية، يشمل ثلاث طائرات للتزود بالوقود جوًا من نوع (كي سي 135)، وطائرة حرب إلكترونية من نوع (بوينج 737 بيس أيجل)، بجانب عدد يتراوح ما بين 10 إلى 16 مقاتلة من نوع (أف 16)، وقد تحرك هذا التشكيل على مدار يومين، قبالة الساحل الليبي ذهابًا وعودة، دون وجود سبب منطقي أو واضح لهذه التحركات، رغم حديث الأوساط العسكرية التركية عن (تدريبات) تتم لسلاح الجو التركي في هذه المنطقة، إلا أن التدريبات العسكرية فعليًا متوقفة بشكل تام في تركيا، بسبب التفشي المتزايد لوباء كورونا في البلاد. 

وقد أكدت هيئة الأركان العامة اليونانية، رصد هذا التشكيل يوم 17 الماضي، وانتهاكه للأجواء اليونانية حول جزيرة كريت، ووسط وجنوب بحر إيجه، وقد دفع سلاح الجو اليوناني حينها، نحو 11 مقاتلة من نوع (أف 16)، من قواعده في جزيرة كريت، لاعتراض هذا التشكيل وإخراجه من الأجواء اليونانية، وكذلك أكدت السلطات في مالطا رصد تحركات هذا التشكيل. في نفس الإطار، نشرت “صحيفة نيزافيسيمايا غازيتا الروسية”، مقالًا كشفت فيه عن استعدادات تركية لتنفيذ عمليات جوية في الأجواء الليبية، لضمان وصول الأسلحة والذخائر إليها، وربما تتطور هذه العملية لتقدم دعمًا جويًا مباشرًا في المعارك، سواء كان بواسطة طائرات الحرب الإلكترونية أو المقاتلات.

يضاف إلى ذلك، أن هذه التحركات تزامنت مع تحرك آخر لطائرتي نقل عسكري تابعتين لسلاح الجو التركي، من نوع (سي 130)، قامتا بالطيران من قاعدة قونيا الجوية، إلى قبالة مدينة مصراتة، ومن ثم قامتا في آخر لحظة بتغيير المسار والعودة إلى تركيا مرة أخرى، بسبب ما يبدو أنه مخاطر كانتا ستتعرضان لها في حالة هبوطهما في مصراتة أو طرابلس، خاصة وان المعارك بدأت تقترب حثيثًا من التخوم الشرقية لمصراتة. 

إذن بنظرة فاحصة، سنجد أن تركيا باتت تراهن بشكل أكبر على سلاحها الجوي، من أجل دعم ميليشيات حكومة الوفاق، في ظل المخاطر المتزايدة التي بدأت تطرأ على جسرها الجوي والبحري المدني، الذي يعمل منذ شهور لإيصال المرتزقة والسلاح إلى طرابلس ومصراتة، وآخر هذه المخاطر هي عملية (إيريني) الأوروبية، التي أعلنت ألمانيا منذ أيام، مشاركتها فيها بنحو 300 جندي، بالإضافة إلى طائرة استطلاع بحري من نوع (بي3 – أوريون). تفعيل هذه العملية بشكل أكبر سيضع الرحلات البحرية المدنية التي تربط ما بين موانئ جنوب تركيا وليبيا تحت تهديد إمكانية إيقافها وتفتيشها من جانب الوحدات البحرية المشاركة في هذه العملية، خاصة وأن تركيا تعتمد في إرسال الأسلحة والذخائر إلى ليبيا بشكل كامل على سفن الشحن المدنية، ويوضح الشكل المرفق، وجود أربعة سفن ترفع العلم التركي أو قادمة من موانى تركيا، داخل ميناء مصراتة الآن.

آخر ما قامت به تركيا من خطوات ضمن استراتيجيتها في ليبيا، حثها لبعض أدواتها في حكومة الوفاق في طرابلس، على بدء الترويج لرواية مفادها أن الجيش الوطني الليبي قد استخدم سلاحًا كيماويًا في المعارك بمحور صلاح الدين جنوبي العاصمة، وفي هذا عودة لسيناريو مماثل تم استهلاكه مرارًا في عدة مناطق سورية، ومن بينها محافظة إدلب. أخر من تداول هذه الرواية هو وزير الداخلية المفوض في هذه الحكومة فتحي باشاغا، الذي تناول الموضوع وكأنه على علم تام بتفاصيله، مع أنه بفحص كل ما تم تداوله حول هذا الموضوع، اتضح أن مصدر هذه الرواية هو كل من الصحفي المصري الأصل المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين عمرو صلاح الدين، والسفير البريطاني السابق في طرابلس بيتر ميليت.

عقيلة صالح والمشير حفتر … الهدف سحب شرعية حكومة طرابلس

بشكل شبه متزامن، طرح كل من المستشار عقيلة صالح رئيس مجلس النواب الليبي، والمشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني، مبادرتين تستهدفان حلحلة الوضع السياسي والحكومي في ليبيا من جهة، ومن جهة أخرى سحب الشرعية الأقليمية والدولية، التي تتمتع بها حاليًا حكومة الوفاق في طرابلس.

مبادرة المستشار صالح جاءت خلال اجتماع موسع عقده الأربعاء الماضي، مع رؤساء اللجان الدائمة بمجلس النواب، وتم فيه الاتفاق على توجيه دعوة للأمم المتحدة والمجتمع الدولي، لضرورة تبني مبادرة تنص على تشكيل مجلس رئاسي مكون رئيس ونائبين، على أن يكون كل عضو من الأعضاء الثلاثة بالمجلس ممثلًا عن إقليم من أقاليم ليبيا الأساسية، بجانب تشكيل حكومة وحدة وطنية، يكون رئيسها من غير أعضاء المجلس الرئاسي الحالي في طرابلس.

أما مبادرة المشير حفتر، فقد أعلنها خلال كلمة وجهها للشعب الليبي أمس، وطالب فيها بإسقاط شرعية اتفاق الصخيرات السياسي، وكل ما ترتب عليه من آثار سياسية، وأن يفوض الشعب الليبي من يراه مناسبًا من المؤسسات، كي تتولى إدارة المرحلة المؤقتة القادمة.

ورغم أنه قد يبدو للوهلة الأولى، أن كلا المبادرتين تتحركان في مسارين متضادين، إلا أن حقيقة الأمر أن طرحهما بهذا الشكل المتزامن، يشي بأن الهدف المراد تحقيقه يبقى في النهاية واحد، وهو إسقاط شرعية المجلس الرئاسي، التي تستند عليها تركيا في إرسالها للسلاح والذخائر إلى طرابلس، وتتحجج بها بعض الدول الأوروبية حين ترفض اتخاذ موقف حاسم تجاه الوضع الميليشياوي في العاصمة.

المستشار صالح يتعامل مع هذا الملف، بمقتضيات منصبه السياسي، وهو ما يمكن أن نصف به أيضًا تعامل المشير حفتر، لكن الأكيد أن الجمع بين المبادرتين سوف يكون منطقيًا ومحتملًا جدًا، خاصة وأن ردود الفعل الشعبية التي تلت هاتين المبادرتين، ربما جعلت الكفة تميل أكبر في أتجاه مبادرة المشير، وهذا الأخير كان دومًا حريصًا -برغم بعض التعقيدات- على إدامة العلاقة والتعاون مع كل من المستشار صالح ورئيس مجلس الوزراء عبد الله الثني.

فقد تتالت في أعقاب إعلان المشير عن هذه المبادرة، بيانات التأييد والدعم، من أطراف قبيلة مثل مجلس مشايخ وأعيان ترهونة، والمجلس الأعلى لمشايخ وأعيان ليبيا، وعدد من أعضاء مجلس النواب، بالإضافة إلى البلديات والمجالس المحلية في بنغازي وترهونة والمرج وأجدابيا والأصابعة وسلوق وطبرق والبيضاء وسرت وغيرها من المناطق، بما فيها أحياء طرابلس المحررة مثل النواحي الأربعة وقصر بن غشير. ناهيك عن تظاهرات لتأييد هذه المبادرة في مدينتي بنغازي وأجدابيا.

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى