<<روسيا وافريقيا>>..مسار العودة إلى القارة السمراء
تعود جذور العلاقات الروسية الإفريقية إلى عهد الدولة السوفيتية، والتي تبنت سياسات تهدف إلى حماية مصالح شعوب العالم المضطهدة، ورعاية حقوقها في تقرير المصير وانشاء دول مستقلة، مما جعل “الكفاح ضد الاستعمار” في افريقيا يتحول إلى مكون طويل الأمد بالنسبة للسياسة السوفيتية قبل الحرب العالمية الثانية وكذلك في فترة ما بعد الحرب.
وبحلول عام 1984 كان للاتحاد السوفيتي علاقات دبلوماسية مستقرة مع 46 دولة من أصل 53 دولة أفريقية، بالإضافة إلى مساهماته في تشغيل أكثر من 330 منشأة بنية أساسية تحتية وصناعية في عديد من دول افريقية. كما نفذت روسيا في نفس الوقت، عشرات من مشروعات الاستكشاف الجيولوجي في أكثر من 20 دولة أفريقية.
نقطة تحول.. ماذا حدث بعد مسار كامل من ازدهار العلاقات؟!
بمجرد انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك الكتلة السوفيتية، في التسعينيات، بدأت العلاقات الروسية الأفريقية تتجه نحو الانهيار السريع، مما نتج عنه أن وجهت القارة السمراء أنظارها بعيدا صوب الحضارة الغربية.
في حين انقطع الاهتمام الاستراتيجي الروسي بالقارة “فعليا” على المستوى السياسي والاقتصادي والدبلوماسي، حتى أن الاتصالات السياسية الوثيقة التي تم تطويرها على مدى سنوات عديدة تمزقت بشكل غير مدروس.
وبحلول عام 1992، كانت روسيا أغلقت 9 سفارات و4 قنصليات في أفريقيا، فضلا عن انهيار شبكة المراسلين الروس المنتمين لوكالات الأنباء والصحف الروسية داخل القارة لمدة سنوات عديدة، وهو ما ترتب عليه غياب الوعي لدى القيادة الروسية والشعب الروسي بطبيعة ما يدور داخل القارة من تطور الأحداث.
ومما لا شك فيه أن تراجع الدور الروسي في القارة الأفريقية بتلك الفترة، لعب دورا محوريا في إتاحة المجال أمام دول أخرى لأجل تحقيق مصالحها الخاصة هناك، بما في ذلك نمو الشركات السياسية والاقتصادية العملاقة في افريقيا مثل شركات الصين والهند والبرازيل.
لماذا ترغب روسيا في العودة إلى افريقيا؟!
في منتصف التسعينيات، بدأت الحكومة الروسية تدرك حجم الخطورة الكامنة وراء اقتراف هذا الخطأ الكبير “مغادرة افريقيا”، ولهذا السبب بدأت الدولة تخطط وتبذل الجهود لأجل استعادة العلاقات المفقودة مع القارة، والتي أثرت بدورها على محور العلاقات التجارية والصناعية والعسكرية كذلك.
وبحلول عام 2000، ظهر مفهوم جديد مرتبط بالسياسة الروسية في أفريقيا يشير هذا المفهوم إلى أهمية المشاركة بكثافة في المشروعات التجارية المشتركة في القارة، لكلا من شركات القطاع العام والخاص الروسي، على أن تتم هذه المشروعات تحت رعاية ودعم من وزارة الخارجية الروسية، لأجل العمل على منع التوجه نحو نظام عالمي أحادي القطب وما له من مخاطر جمة على المصالح الروسية في أفريقيا.
وكان الدافع الرئيسي دائما وراء أهمية افريقيا لدى روسيا وسائر الدول يتركز في حجم الثروات المعدنية الاستراتيجية المملوكة للقارة، والتي في نفس الوقت لا تملك روسيا مخزونا كافيا لها، حيث تتمتع القارة بشكل رئيسي بالمنجنيز واليورانيوم والكروم والتيتانيوم والبوكسيت والذهب والماس. كما أن القارة أيضًا تعج بالنزاعات المسلحة، مما يحولها إلى سوق مثالي للٍأسلحة، وهو ما تبحث عنه روسيا بصفتها دولة مصنعة ومصدرة للأسلحة.
الوجود العسكري الروسي في افريقيا
مما لا شك فيه، أن أوجه التعاون العسكري بين الدول تعتبر من أهم القواعد الحاكمة لسبل العلاقات السياسية بينها وبين بعضها، ولهذا السبب ليس من الممكن أن يتم النظر إلى أبعاد العلاقات الروسية الافريقية والبحث في توجهاتها في معزل عن النظر إلى حجم التواجد العسكري الروسي في القارة. وهناك أوجه مختلفة للانتشار العسكري الروسي في عمق القارة.
ولقد عاودت روسيا في العقد الماضي، استكمال أنشطتها بصورة متزايدة في أسواق الأسلحة في أفريقيا، لأنه لايزال هناك كثير من مناطق الصراع في القارة، والتي تحتاج إلى توريد أنواع حديثة من الأسلحة العسكرية لأجل حماية السكان من التهديدات الإرهابية وتعزيز سيادة الدولة، ولهذا السبب تتزايد معدلات الطلب على الأسلحة العسكرية الروسية عالية الجودة لدى عديد من البلدان الأفريقية.
واحتلت روسيا المرتبة الأولى من حيث شحنات الأسلحة إلى افريقيا بمعدل 30% في الفترة ما بين 2011-2015، حيث تعمل روسيا بشكل أساسي على تزويد القارة الأفريقية بأسلحة صاروخية ومدفعية واسلحة صغيرة وسيارات، فضلاً عن مروحيات الهليكوبتر والتي تصدرت قائمة المعدات التي يتم تصديرها إلى القارة السمراء من روسيا.
وتشارك روسيا بصفتها عضوا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، في انشاء وتنظيم وتنفيذ معظم عمليات حفظ السلام في القارة.
ما يعوق روسيا من العودة إلى افريقيا بكثافة
لا تزال روسيا توجد في مكانة أقل شأنا من منافسيها بالنسبة لأفريقيا، فيما يتعلق بحل أزمات القارة الساخنة من خلال تنفيذ مشروعات البنية التحتية الكبرى هناك، كما أن شركات القطاع الخاص الروسي والدولة الروسية نفسها لاتزال لا تملك حاليا الامكانيات المالية اللازمة لمثل هذه المشروعات.
ولا بد من الاعتراف بأن روسيا لم تبلغ بعد مستوى الاختراق الاقتصادي للقارة السمراء، بالمقارنة مع دول مثل الصين أو الولايات المتحدة الأمريكية، والتي بلغت معدلات التجارة معها مائة مليار دولار في عام 2015، بينما سجل معدل التجارة الصينية مع القارة 300 مليار دولار في نفس العام.
تبقى روسيا بعيدة عن تلبية متطلبات معظم البلدان الأفريقية في شتى المجالات، بحيث تتركز الصادرات الروسية إلى إفريقيا على منتجات التكنولوجيا الفائقة حتى الآن بشكل أساسي في مجال الأسلحة والمعدات العسكرية، وكذلك صيانة المنشآت الصناعية الكبيرة التي بناها الاتحاد السوفيتي في إفريقيا منذ أكثر من ربع قرن، وهي جميعها أمور تعوق القدرات الروسية على المشاركة في عمليات التنمية الكثيفة الأخرى داخل القارة. مما يعني أن هناك مدى محددا للطريقة التي من الممكن أن تتدخل بها روسيا في مشكلات وأزمات القارة، خاصة فيما يتعلق بتقديم الدعم الحكومي لمشروعات بعينها هناك، ويعتبر ما حدث في أعقاب القرار الذي اتخذه ميدفيدف بشأن الأزمة الليبية في 2011، خير مثال على مدى المخاطر التي تحيط بإمكانيات التدخل الروسي السياسي في القارة، فقد خسرت روسيا لهذا السبب استثمارات تصل إلى 2 مليارات دولار بسبب خسارة الشركة الروسية للسكك الحديدية لمشروع سكة جديد بنغازي-سرت.
وتعتبر هذه الحالة بمثابة مؤشر خطير للغاية بالنسبة لأفريقيا، حيث أنه في القارة، التي تعج بالصراعات، لا يمكن التقليل من شأن المخاطر العسكرية السياسية للمشروعات الكبرى إلا إذا كانت هذه المشروعات مدعومة بشكل لا غبار عليه من قبل كل سلطة داخلية بالإضافة إلى سلطات الدول متعددة الأطراف كذلك.
ومن خلال الطرح السابق، نرى أنه لا يمكن القول إن الدولة الروسية تفعل كل ما بوسعها في هذا الصدد لأجل توسعة اعمالها في افريقيا، ويبدو أن ما تفعله روسيا اليوم من أجل تحقيق هذا الأمر سواء بمبادرة منها أو على مستوى الإجراءات المشتركة مع قوى دولية أخرى، لا يكفي بوضوح لأجل تحقيق النجاح الحاسم والمذهل لروسيا في الاتجاه الافريقي.