ليبيا

سيطرة مليشيات الوفاق على الساحل الغربي.. دوافع ومسارات

تتسارع الأحداث على طول خطوط المواجهة بين قوات الجيش الوطني الليبي ومجموعات المرتزقة والحشد المليشياوي المدعومة من حكومة الوفاق في ليبيا، وبرزت خلال الـ (72) ساعة الأخيرة عدة تحولات ميدانية في نطاق المنطقة العسكرية الغربية، والتي أعقبت المحاولة الفاشلة لمليشيات “أسامة الجويلي” آمر المنطقة الغربية بالوفاق للسيطرة على قاعدة الوطية الجوية، وانتهت بدخول قوات الجيش لمدينة “زلطن” وفرض سيطرتها عليها. وقد نجحت مجموعات الوفاق، بإسناد من مليشيات متطرفة وعصابات إجرامية بمدينة “الزاوية” وغطاء جوي وقصف بحري تركي، من دخول المدن الممتدة على طول الخط الساحلي الغربي، وإطلاق سراح العناصر الإرهابية والاجرامية من سجون تلك المدن.

وشكل استعادة الحشد المليشياوي والمرتزقة للسيطرة على مدن “صرمان” و”صبراته” و”العجيلات” وباقي مناطق ساحل غرب طرابلس فصلًا جديدًا من خرق حكومة الوفاق للهدنة التي تم إعلانها يناير الماضي، واتجاهًا -بالغ التهديد- لتفعيل استراتيجية مفادها إطلاق أيدي التنظيمات والعصابات بتلك المناطق مقابل ولائها للمجلس الرئاسي. ويتناول هذا التقرير قراءة في الحالة الميدانية بمناطق غرب طرابلس، وأهداف حكومة الوفاق من العملية الأخيرة، وصولًا الى استشراف الخطوة التالية لأطراف النزاع الليبي.

ميدانية الصراع الليبي في مناطق الغرب

ظل غرب ليبيا نموذجًا للمدن الواقعة تحت سيطرة المليشيات المسلحة منذ عام 2011 ولأعوام متتالية، وتعاقبت السيطرة المليشياوية بين مجموعات مناطقية وأخرى تكفيرية وإرهابية، ومع تصاعد خطر تلك التنظيمات جاءت عمليات الجيش الليبي للقضاء على تلك التنظيمات، ونجح الجيش الليبي في فرض سيطرته عام 2017 على تلك المدن والقبض على قيادات وعناصر التنظيمات الإرهابية والمليشيات والعصابات الإجرامية بالغرب. وحتى 12إبريل الجاري توزعت السيطرة في الغرب بين الجيش الوطني المسيطر على مدن (صرمان وصبراتة والعجيلات والجميل ورقدالين وزلطن والجميل والعسة) فيما سيطرت مليشيات الوفاق على مدن (جنزور والزاوية وزوارة وأبو كماش معبر رأس جدير)، وظل الجيش الوطني محافظًا على سيطرته على قاعدة (الوطية) الجوية.

وفي أعقاب هجوم مركز لمليشيات الوفاق، 13إبريل2020، تمكنت تلك المجموعات من فرض سيطرتها على امتداد الساحل الغربي من مدينة جنزور وحتى أبو كماش، بعد سقوط المدن التي كانت تحت سيطرة الجيش الوطني، وتراجعت عناصر الجيش جنوبًا الى قاعدة الوطية الجوية للدفاع عنها وإعادة ترتيب صفوفهم. ووردت عدة تقارير حول استعدادات وتحشيدات يجري الإعداد لها من قبل مجموعات الحشد المليشياوي لمحاصرة قاعدة “الوطية”، وبالفعل حاولت بعض المجموعات المسلحة من مدينة “جادو” التقدم باتجاه القاعدة ولكن تم استهدافها عبر طيران الجيش. وفي ظل وجود تحشيدات للوفاق من مدينة “زوارة” والساحل الغربي تتحرك باتجاه القاعدة، تحركت وحدات تابعة للجيش من منطقة “الرجبان” لدعم القاعدة، كما توجه اللواء “إدريس مادي”، قائد المنطقة الغربية بالجيش، للقاعدة على رأس قوة كبيرة، وتعهد باستعادة مدن الساحل الغربي فيما يمكن اعتباره ايذانًا بعمليات قتالية واسعة.

دوافع حكومة الوفاق للسيطرة على غرب ليبيا

شرعت حكومة الوفاق وميلشياتها للبدء في عمليات عسكرية على جبهة الغرب الليبي مدفوعةً بعدة عوامل مُلحة، يرتبط بعضها بمناطق الدعم والسيطرة خاصة التي يمتلكها الجيش، وعلى رأسها إسقاط قاعدة الوطية كونها نقطة الارتكاز والدعم الرئيسية للقيادة العامة بالغرب. والبعض الاخر يتصل بسير العمليات العسكرية المستمرة منذ فترة تجاوزت العام، ومنها تخفيض الضغط على محاور القتال بجبهات العاصمة ومصراتة، وتلافي الوقع بين شقي الرحى إذا ما فتح الجيش جبهة جديدة غرب طرابلس، بالإضافة الى تعويض خسائرها الميدانية وتراجعاتها المتعاقبة، وفيما يلي نوضح تلك الدوافع:

  • خفض الضغط على جبهة الشرق: تشتعل المواجهات على محاور القتال شرق وجنوب طرابلس وشرق مصراتة، ومع سيطرة الجيش على مناطق جديدة بتلك المحاور، وتكشف بوادر انحسار التوافق بين قيادات الوفاق في طرابلس ومصراتة، وتزايد الحالات المصابة بفيروس “كورونا” بمناطق سيطرة الوفاق. هي كلها عوامل أفضت الى بروز ضرورة فتح جبهة قتال جديدة أمام الجيش الوطني، تكون أكثر بعدًا عن المحاور السابقة، ويسهل المواجهة فيها نسبيًا عبر الدعم التركي -بالطيران المسير وقصف البوارج- وتوظيف العصابات التشادية والمرتزقة السوريون بمناطق يمكنهم فيها التمرس وتحقيق نتائج إيجابية بعد الإخفاقات السابقة، وهي ذات الأسباب التي وجهت حكومة الوفاق لإطلاق عملية “عاصفة السلام”، والتي نجحت قوات الجيش من قبل في صدها وملاحقة عناصرها.
  • استباق التحشيدات: اتجهت القيادة العامة للجيش الوطني لتحشيد بعض وحداتها القتالية بمناطق الساحل الغربي، وهو ما كشفه دخول كتيبة “طارق بن زياد المقاتلة” لمدينة “زلطن” عقب نجاح وحدات تأمين قاعدة “الوطية” الجوية في صد هجوم “عاصفة السلام” وملاحقة المجموعات المهاجمة شمال غرب القاعدة، واستمرت التحشيدات بشكل متزايد ما دفع الوفاق للتحرك استباقًا لاتجاه الجيش لفتح محاور قتال جديدة ضد مدينة “زوارة”، والتي يصعب دعمها في ظل سيطرة القوات المسلحة على مدن الساحل الغربي، وتمثل خسارتها حصارًا لحكومة الوفاق وفقدان لسيطرتها على معبر رأس جدير مع تونس، بالإضافة الى كونه تمهيد بالغ الخطورة لبدء عمليات القيادة العامة ضد مدينة “الزاوية” البوابة الغربية للعاصمة طرابلس.
  • تعويض الخسائر: تكبدت مليشيات الوفاق بمحاور قتال العاصمة خسائر كبرى، ووردت العديد من التقارير حول وجود حالة من عدم الرضا عن آداء مسلحي الوفاق والمرتزقة السوريين، كذلك انسحاب بعض كتائب مصراتة من القتال بجانب المرتزقة والعناصر التركية. وفي ظل خسائر الوفاق المتتالية وعدم تقدمها منذ استعادة مدينة “غريان” جنوب العاصمة، فضلًا عن الضغوط المالية التي يعاني منها المجلس الرئاسي بسبب أزمته الجارية مع المصرف المركزي بطرابلس، تحتم على حكومة الوفاق إحداث تغير ميداني يعوضها عن خسائرها المستمرة، ويمكنها من حشد موقف مؤيد لها تمهيدًا لاستثمار هذا التأييد للضغط على المصرف المركزي لاعتماد بنود الصرف والميزانية التي تطالب بها، وإظهارها بالقوة القادرة على تحقيق تقدم عسكري أيًا كان حجمه.
  • قطع خطوط الإمداد: تمثل قاعدة “الوطية” الجوية أهم مراكز الدعم والاسناد لقوات الجيش الوطني المتمركزة بمحاور العاصمة ومدن المنطقة الغربية، وسعت مليشيات الوفاق لإطلاق هجمات عبر الطيران المسير وعناصر المرتزقة للسيطرة عليها تارة، ولتحييدها وإيقاف إقلاع الطائرات منها واليها تارة أخرى، وكان أخر تلك المحاولات هو الموجة الأولى من عملية “عاصفة السلام” والتي نجحت قوات الجيش في صدها. ومما سبق، فان قطع خطوط إمداد ودعم قوات الجيش الوطني بالمنطقة الغربية يتوقف بشكل كبير على تحييد قاعدة “الوطية” عن مجريات الصراع، وأول خطوات ذلك إنهاء سيطرة الجيش على المدن الساحلية، ثم يليه محاصرة القاعدة ونصب منظومات دفاع جوي ضد طيران الجيش، بالتزامن مع استهدافها عبر راجمات الصواريخ والطيران التركي المسير تمهيدًا لإسقاطها.

مستقبل العمليات العسكرية في الغرب الليبي

كشفت التحولات الميدانية الأخيرة عن وجود تيار داخل معسكر “الوفاق” يتمسك بحتمية إنهاء الأفضلية التي يتمتع بها الجيش الوطني في المنطقة الغربية، والتي تتيحها قاعدة الوطية الجوية والتحشيدات العسكرية في تلك المناطق، لذلك فإن السيطرة على الشريط الساحلي الغربي ومدنه، تتجاوز توسيع رقعة النفوذ والسيطرة وإظهار قدرات الوفاق على تحقيق تقدم ميداني أمام الجيش، بل تستهدف إنهاء التحركات والتمركزات الاستراتيجية لقوات القيادة العامة في كامل المنطقة الغربية وعلى رأسها مدينة “ترهونة”، والسيطرة على قاعدة “الوطية” الجوية. ووفقًا لهذا الطرح يمكن تناول أبرز مسارات تطور العمليات العسكرية بالمنطقة الغربية بين قوات الوفاق والجيش الوطني كما يلي:

  • التقدم نحو “ترهونة” وقاعدة “الوطية” الجوية: يرتبط هذا المسار برغبة حكومة الوفاق في التصعيد والاستمرار في تقدمها على تلك الجبهة، وزيادة الضغط على القيادة العامة عبر إلحاح الحاجة لتوجيه دعم وإسناد كبير لصد الهجوم المحتمل على القاعدة، وتأمين مركز إدارة عملياتها بالغرب في مدينة “ترهونة”. وهو ما ذكره رئيس مجلس الدولة “خالد المشري” أن الوفاق ماضية لتحرير بقية المدن كـ “ترهونة”، وأكدته الضربات الجوية للجيش التي استهدفت ارتالًا عسكرية تابعة للوفاق كانت تتقدم باتجاه قاعدة” الوطية”، بل كشف تقارير حول محاصرة مليشيات الوفاق للقاعدة وشروعها في مفاوضات على تسليم القاعدة مع كتائب مدينة “الزنتان” التابعة للجيش.
  • وقف العمليات العسكرية مرحليًا لتثبيت التقدم: يتوقف هذا المسار على عدة عوامل كحجم ونوعية القوة المتاحة توظيفها لدى الوفاق في محاور بعيدة عن طرابلس، ومدى رغبتها وقدرتها على مواجهة الوحدات المُكلفة بتأمين القاعدة والاسناد والدعم الذي سيجري توجيهه من القيادة العامة لها، بالإضافة الى الضغوط الداخلية والخارجية التي ستمارس ضد التصعيد الأخير على الجانبين. ويمكن أن تلجأ حكومة الوفاق لهذا المسار؛ لدرايتها بحجم المجهود الحربي المطلوب لاستمرار القتال، في ظل الضغوط المالية والصحية والسياسية التي يمر بها معسكرها، ووجود احتمالية كبيرة لتوظيف الجيش الوطني لاتجاهها لخوض معارك بالغرب للتقدم بشكل أقوى في محاور العاصمة.
  • انهيار جبهات الوفاق وبدء الجيش هجوم مضاد: رغم تقدمات مليشيات الوفاق بالغرب ورسائل الدعاية المكثفة لحشد الدعم والتأييد لتحركاتها، إلا أن جبهة الشرق -شرق مصراتة وجنوب وشرق العاصمة- شهدت تقدمات قوية لصالح قوات الجيش؛ إذ نجح في السيطرة على البوابة الغربية لمدينة “أبوقرين” الواقعة بين مصراتة وسرت وفرض السيطرة الكاملة على المنطقة، بالإضافة الى منطقة “أبوسليم” جنوب طرابلس. وفي ظل اتساع مساحات المواجهة وتعدد الجبهات يُتوقع ألا تستطيع مليشيات الوفاق -التي فشلت في مواجهة تقدم الجيش لأكثر من عام في طرابلس- أن تتمكن من التمدد غربًا وحفظ تماسك جبهتها الشرقية، وهو ما يُمكن أن يُفضي الى تراجع أو سقوط إحدى أو كلتا جبهتي الوفاق شرق وغرب العاصمة، بل ويمكن في ضوء الوضع الحالي تفعيل القيادة العامة لهجوم مضاد كبير ضد قوات وتمركزات الحشد المليشياوي والمرتزقة، وخصوصًا إذ تم صد هجومها سريعًا في محيط قاعدة “الوطية” أو مدينة “ترهونة”.

وختامًا، يمكن القول إن التحولات الميدانية الأخيرة بالساحل الغربي الليبي تؤكد أن الصراع سيستمر بضراوة رغم كافة الدعوات الدولية للتركيز على احتواء خطر فيروس “كورونا”، وهو ما يهدد بخطر تفشي الوباء بشكل كبير في الدولة المنهكة. وأن لجوء وتحالف الوفاق مع التشكيلات المسلحة والارهابية مستمر وفي تصاعد، لاسيما مع ظهور العديد من المطلوبين أمنيًا محليًا ودوليًا في صفوف القوات المهاجمة لمدن الساحل، ما يقود للاعتقاد باستمرار النمط غير النظامي في إدارة الموقف بمناطق سيطرة حكومة الوفاق. كذلك ستتجه المواجهات للتحول الى نمط أكثر جهوية وقبلية، وخصوصًا مع ارتكاب عناصر المرتزقة والمليشيات جرائم ضد المكونات العربية بتلك المدن، وهو ما ينذر بتعمق أزمة الهوية والممارسات الانتقامية التي تُؤثر على فرص التسوية والتعايش بين مكونات الدولة الليبية. وأخيرًا، فإن تقدمات المليشيات الأخيرة، واقترابها من محاصرة قاعد “الوطية” الجوية، ستعجل بتبني الجيش استراتيجية قتالية تميل الى تكثيف العمليات العسكرية بالجبهات الأخرى، وربما تقود الى توظيف تكتيكات قتالية ضد الأهداف التركية والمرتزقة والمليشيات -لاسيما قاعدة معتيقية- والتي ستؤدي الى رفع الضغوط على كاهل المدنيين بمناطق سيطرة الوفاق.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى