
هل يتغير النظام العالمي بعد كورونا!؟
لم يمر أكثر من شهرين منذ بدء الإعلان الأول عن ظهور حالات إصابة بفيروس كورونا على مستوى العالم، إلا وقد بدأت الأطروحات – خاصة الأمريكية- في الحديث عن شكل النظام الدولي وإعاده تأسيسه وفق مبادئ ومعايير جديدة. فقد ذهبت التحليلات إلى أن الفيروس سيعمل على تشكيل نظام عالمي جديد، وتوقعات تحول القيادة إلى الشرق في ظل ريادة صينية، وانتهاء أو تراجع العولمة ودخول العالم في وضع أقل انفتاحا وصعود التيار القومي وتأثيرات على استمرارية وضع التكتلات الإقليمية ومصير الاتحاد الأوروبي وآليات التكامل والتعاون الدولي.
ولم يقتصر التأثير السياسي لفيروس كورونا المستجد على مجال بعينه، إذ انعكس على كافة النظم الحياتية والسياسية بداية من النظام العالمي وعلاقاته الاقتصادية إلى المجال الخاص للأفراد. ويأتي الأثر السياسي للأوبئة في إعادة التساؤل والتقييم والتأسيس الاجتماعي القائم.
وفي فترات ظهور أمراض السل والكوليرا، تم إعادة التساؤل عن البني الاجتماعية التي خلّفت طبقات عريضة من الفقراء والذين اجتاحتهم تلك الأوبئة. الأمر الذي تم تناوله في عدد من الأعمال الفنية والروائية كقصة الكاتب الأمريكي “إدجار ألان بو” عن الطاعون وعدم تفرقته للطبقات الاجتماعية.
لكن بالنظر إلى طبيعة تلك التساؤلات، فإنها تشير إلى المستوى الوجودي بمعنى الوضع الإنساني إزاء المحيط الذي يعيش فيه ونمط علاقته بالأخرين، بما كان له مردود على التفاعلات والسياسات التي جسدت تلك الحالة الوجودية. فنتيجة السؤال عن علاقة الإنسان بالإله في القرن الرابع عشر، تم نزع السلطة البابوية في أوروبا لصالح سلطة الدولة. وبالتالي، لا يمكن مقارنة تأثير وباء كورونا – حتى اللحظة الراهنة- بقبله من الأوبئة التي غيرت مسار البشرية مثل الطاعون بسبب الألم والصدمة التي خلفها. إذ أن من المتوقع أن تستمر الاتجاهات العامة للنظام الدولي مع وجود بعض من التغيرات السياسية على المستوى الوطني.
اتجاهات مستمرة
يتسم الاقتصاد الدولي بالتشابك وشدة التعقيد والذي تكون عبر سنوات عديدة. وقد أشارت عدة تحليلات بأن العولمة ونظام الاعتماد المتبادل القائم على توفير سلاسل للتوريد سيتأثر بشكل بالغ. وذلك استناداً إلى ما حدث في إيطاليا من توقف إنتاج أحد المصانع المتخصصة بتصنيع قطع إلكترونية للسيارات، بما كان له أُثر سلبي على صناعة السيارات في غرب أوروبا بالكامل. الأمر الذي سيدفع إلى مزيد من استقطاب الصناعات بشكل كامل على داخل الدول للتحكم بشكل أكبر في الإنتاج والتغلب على فقدان السيطرة المتزايد على الوضع.
لكن الشواهد المبنية على ضغوطات سياسات الرئيس الأمريكي ترامب بنقل الصناعات إلى الأراضي الأمريكية تشير إلى العكس. إذ فشلت محاولات شركة آبل نقل إنتاج جهاز ماك إلى ولاية تكساس. فضلاً عن أن 6% فقط من الشركات الأمريكية نجحت في نقل إنتاجها للولايات المتحدة.
وفيما يخص القيادة الأمريكية، فإن اتجاه عدم تبوء الولايات المتحدة القيادة الدولية قد ظهر قبل تفشي وباء كورونا. وذلك بأن سياسات الرئيس ترامب كانت تسير في اتجاه معاكس لتعددية الأطراف في النظام الدولي وتراجع الإرادة الأمريكية في القيادة بشكا جماعي. فوفق الإعلامي والكاتب الصحفي الأمريكي فريد عن”صعود الأخرين”، أشار إلى أن الصعود الصيني أدى إلى انخفاض في الميزة النسبية للولايات المتحدة على الرغم من استمرار قوتها الاقتصادية والعسكرية في النمو، فضلاً عن فقدان الولايات المتحدة للإرادة السياسية للقيادة الدولية.
وفيما يتعلق بالحمائية والحدود التي ذهبت التحليلات إلى أن انتشار الوباء سيعمل على ترسيخها بشكل أكبر، فإن تصريحات الرئيس الأمريكي كانت تدعو إلى فرض مزيد من “الحدود” الفاصلة بين الدول وقدر أكبر من السياسات الحمائية قبيل تفشي الوباء. فضلاً عن توقعات لجوء الدول إلى فرض مزيد من إجراءات الحدود، الأمر الذي انتهجته عدد من الدول بشكل موسع. فقد استخدم بيتر نافارو، المستشار التجاري للرئيس ترامب الوضع الطبي لتهديد حلفاء الولايات المتحدة وتبرير الانسحاب الأمريكي من التجارة العالمية، استناداً إلى أن الولايات المتحدة بحاجة إلى إعادة قدراتها التصنيعية وسلاسل التوريد للأدوية الأساسية.
فضلاً عن استمرار اتجاه عدم قدرة الاتحاد الأوروبي على مواجهة الأزمات التي يتعرض لها. إذ لم تدخل الأزمة الراهنة للتصدي لتفشي وباء كورونا في نطاق مؤسسات الاتحاد الأوروبي وإنما تعامل كل دولة على حدة. إذ أن افتقار الاتحاد الأوروبي والغرب بأكمله فيما تم بلورته في مفهوم تراجع الغربية بمؤتمر ميونخ للأمن، انطلاق من أن العديد من التحديات الأمنية الراهنة مرتبطة بانسحاب الغرب وتراجع قيمه، إلى جانب فقدان الغرب لبوصلته وماهيته وغموض تعريفه لنفسه وانحسار البعد القيمي لديه في علاقاته الدولية وافتقاره لـ “رد من منظور غربي” للتحديات التي يواجهها، ارتد إلى عدم اتضاح إلى أي مدى يمكن للغرب أن يجد استراتيجية ورد مشترك للتحديات التي يواجهها. إذ أن الوضع الراهن مماثل لما حدث في أزمة الديون الأوروبية في عام 2009 وأزمة اللاجئين في عام 2015. وفي كلتا الأزمتين، كانت الاستجابة مبنية على سنوات من تصاعد الأزمات ومحاولات صانعي القرار تجاوزها لاحتواءها.
وفيما يتعلق بالريادة الصينية، فقد أدارت الصين الأزمة لإظهار مدى استعدادها للقيادة بعدما تراجعت على المستوى الدولي كنموذج بعد انتشار الفيروس على أراضيها وكتمان الحكومة المركزية للوضع. إذ ذهبت التحليلات إلى أن تعامل الصين مع الوضع رسخ صورتها للريادة الدولية وتحسين سمعتها بناء على حوكمة وكفاءة إدارتها للأزمة.
لكن على الجانب الأخر، وفي مقابل النموذج الذي تحاول الصين اكتسابه، صدرت تقارير أوروبية تفيد بأن المعدات والأدوات الطبية التي أرسلتها الصين إلى الدول الأوروبية كانت معيبة. فضلاً عن صدور عدد من التحقيقات الصحفية المتعلقة بحقيقة أعداد المصابين بفيروس كورونا في مدينة ووهان بعد النجاح في احتواء المدينة. وبالتالي، فإن ترحيب الدول الغربية بالدور الصيني لن يكون نتاجاً للحوكمة الصينية في التعامل مع الوباء وإنما بناء على البراجماتية في العلاقات الدولية. فضلاً عن أن التنافس الدولي بين الولايات المتحدة والصين ما زال قائماً، إذ حاولت الصين تصدير نموذجها في احتواء المرض مقابل قدرة الولايات المتحدة على المسح الشامل لمواطنيها، فضلاً عن إطلاق التصريحات بين الطرفين بشأن منشأ الوباء ونظرية الحرب البيولوجية.
كما لم يوجد رد فعل من الحكومات على المستوى متعدد الأطراف، الأمر الذي اتسم به النظام الدولي أثناء مواجهته للأزمات الدولية، في حين أن الأغلبية العظمى لردود أفعال الدول جاءت بشكل فردي على المستوى الوطني. فإذا لم يغير الوباء من طبيعة النظام الدولي وطرحة تساؤلات على المستوى الوجودي، فإنه سيعمل على ترسيخ الوضع القائم وبيان خريطة التفاعلات الدولية وموازين القوى الفعلية بصورة واضحة عما قبل، واعتبار التغيرات المستقبلية قد تكون على مستوى الحكومات الوطنية.
تغير دور الدولة
في الوقت الذي قد يرسخ فيه الوباء من محورية الاقتصاد على المستوى الدولي وتوضيح ملامح النظام العالمي، فإن السياسة ستكون محل المراجعات الداخلية. ففي تقرير نُشر على جريدة El Pais الإسبانية بشأن القضايا السياسية في أوروبا، توصل إلى وجود خلل في تحديد ما هي القضايا التي يتم إدراجها من قبل الدولة والاتحاد كونها سياسية، مثل قضايا البيئة والصحة. إذ عمل النظام النيوليبرالي على تراجع دور الدولة في كثير من مناحي الحياة والخدمات المقدمة ومنها المجال الصحي. وعليه، قد تكون هناك مراجعات بشأن دور الدولة ودعوات إلى مزيد من تدخل الدولة في النظم الغربية لضمان دور أكبر في المجتمع.
بالإضافة إلى أن انخراط المجتمعات والدول في تفاصيل الحياة اليومية ونمطها المتسارع بشكل كبير، قد يكون له انعكاس على الرغبة في إعادة تقييم وضع الإنسان في “الحياة اليومية” وظهور الحاجة إلى التفكير الاستراتيجي الخاص بالمستقبل وما له من مردود على الفكر الإنساني، ليمنح “الخيال” حقه في الإجابة على حالة عدم اليقين المعاشة وإعطائه الفرصة للتفاعل معها.