كورونا

الحروب البيولوجية .. ما بين بكين و واشنطن

تبادل الاتهامات المتكررة  بين الحين والأخر، من جانب بكين وواشنطن، بشأن المتسبب الرئيسي في تفشي وباء كورونا، ربما يكون من النتائج الطبيعية لكارثة مثل هذه، لكنه في نفس الوقت يسلط الضوء على الاستثمار السياسي الفاضح من كلا الجانبين لتلك المأساة.

الرئيس الأمريكي لم يفوت فرصة واحدة، دون ان يصف فيها هذا الفيروس بأنه (الفيروس الصيني)، كما أن أصواتًا صينية عديدة من بينها المتحدث باسم الحكومة الصينية، تحدثت عن أمكانية تسبب الجنود الأمريكيين الذين شاركوا في مهرجان الألعاب العسكرية الدولي لعام 2019 في الصين، في نشر هذا الفيروس في مدينة ووهان.

في هذا الأتجاه، تحدث عدد من الخبراء، منهم الخبير البيولوجي الروسي، والعضو السابق في اللجنة الدولية الخاصة بالسلاح البيولوجي والكيماوي “ايغور نيكولين”، الذي كشف مؤخراً عن وجود 25 مختبرا أمريكيا سريا لإنتاج الاسلحة الجرثومية تحيط بالصين، مؤكدا قناعته أن فيروس كورونا هو سلاح جرثومي أمريكي يستهدف دولًا بعينها، لكنه أصبح الآن خارج السيطرة ولو بشكل مؤقت.

لكن بغض النظر عن هذا السجال، لو راجعنا دروس التاريخ، سنجد عدة مفارقات، من بينها أن الصين كانت دومًا هي الضحية للهجمات البيولوجية، في حين أن الولايات المتحدة كان ومازال لها برنامج نشط في هذا الأتجاه، بل وقامت بتجارب بيولوجية على البشر، وهو تصرف لم يسبقها إليه سوى اليابان في حقبة الحرب العالمية الثانية. فما هو تاريخ هذه الدول وغيرها في مجال الحرب الجرثومية؟

عصور ما قبل الميلاد

جيوش قديمة كثيرة، منها جيش مملكة سكيثيا، التي أستوطنت منذ أوائل القرن السادس قبل الميلاد، شبه جزيرة القرم ومناطق أخرى حول البحر الأسود، كانت وحدات رماة السهام فيها، تقوم بغمس سهامها في بعض سموم الثعابين أو الجثث المصابة بأوبئة، من أجل نقلها إلى أجساد أعدائهم أثناء القتال.

خلال المعارك بين الكلدانيين والآشوريين، أستخدم الآشوريين نوعاَ أنواع من الفطر السام، وهو فطر (الإرجوت) الذي يهاجم حبوب نبات الجاودار، لتلويث آبار المياه في مناطق تواجد الكلدانيين، خاصة في الفترة بين عامي 710 و702 قبل الميلاد، وذلك في محاولة لإنهاء التمرد الذي قاده الملك الكلداني (مردوخ أبلا إيدنا الثاني)، وحاول من خلاله استعادة سيطرته على مدينة بابل ومحيطها، وقد أصبح استخدام الفطر السام في الاغتيالات سمة من سمات عصور ما قبل الميلاد، ومن أمثلة ذلك، اغتيال الإمبراطور الروماني (كلوديوس) عام 54 ميلادية ، على يد زوجته الرابعة (إجربينا).

في عام 1155، أتبع الأمبراطور الروماني (فريدريك الأول)، نفس إستراتيجية الآشوريين في تسميم آبار المياه، وذلك خلال حصار مدينة (تورتونا) الإيطالية، في سياق المعارك الطاحنة التي دارت بين فصيلي (غويلفيون) و(غيبلينيون) على الأراضي الإيطالية، لكنه هنا استخدم جثث الجنود والخيول، من أجل بث الأوبئة في مياه الآبار، وجعلها غير صالحة للشرب، مما أدى إلى سقوط المدينة خلال شهرين فقط.

كان للمغول تجربة أيضاً في هذا الصدد، ففي شبه جزيرة القرم جنوبي أوكرانيا، قامت قواتهم عام 1342، بحصار مدينة (كافا) المعروفة الآن بمدينة فيودوسيا، ومدينة (تانا) المعروفة حالياً بإسم أزوف، بعد أن ذاع صيتهما خلال السنوات السابقة، نتيجة تصدرهما حركة التجارة المتجهة إلى أوروبا، وذلك من خلال أتفاق تجاري سابق، عقدته جمهورية جنوة مع الملك المغولي السابق (أوزبك خان) عام 1339. 

خلال هذا الحصار الذي دام نحو خمس سنوات، ضرب مرض الطاعون بعنف كافة الوحدات المغولية، بشكل دفعها إلى أن تقذف بشكل يومي، مئات الجثث فوق أسوار المدينتين، وذلك بواسطة المنجنيق، بهدف التخلص من هذه الجثث وما تُسببه من روائح كريهة وانتشار للوباء، ومن ناحية أخرى بهدف نقل الوباء إلى أهالي المدينتين.

لكن رغم مئات الجثث التي تم إلقاؤها على المدينتين، أضطرت القوات المغولية، بقيادة الملك المغولي (جاني بيج)، إلى أن تنهي هذا الحصار، وتعود أدراجها بعد أن فقدت أعدادًا هائلة من جنودها بفعل هذا الوباء، وقد كان لهذا الحصار، الدور الأكبر في انتقال مرض الطاعون إلى كافة دول أوروبا، عبر التجار الذي غادروا مدينة كافا بحرًا، باتجاه صقلية وجنوة وجنوب أوروبا. 

جدير بالذكر أن هذه الإستراتيجية أتبعها سابقًا الملك المغولي (جنكيز خان)، خلال القرن الثالث عشر، فبجانب أنه لجأ  إلى قذف جثث الحيوانات والجنود الموبوءة، على المدن التي يحاصرها، كان يقوم بتسريب أعداد من الماشية المصابة بالطاعون، إلى داخل هذه المدن، من أجل نقل الوباء إلى الخيول والحيوانات المتواجدة داخلها.

التجربة البريطانية في الحرب الجرثومية

يسجل التاريخ أن بريطانيا كان لها السبق في إستخدام العوامل البيولوجية، خاصة الجراثيم، أستخدامًا حربيًا محضًا، وقد كانت البداية خلال الفترة ما بين عامي 1763 و1767، حين استهدفت القوات البريطانية سكان الولايات المتحدة الأصليين، المعروفين بإسم (الهنود الحمر)، بسلسلة من الأوبئة على رأسها فيروس الجدري، حيث نفذ السير “جيفري أمهرست”، قائد الجيش البريطاني في أمريكا الشمالية، هذه الخطة، التي بموجبها تم منح هؤلاء السكان، أغطية وألبسة، ملوثة بفيروس الجدري، وذلك في محاول لإنهاء التمرد المعروف بإسم (بونتياك)، والذي خلاله توحدت معظم القبائل الموجودة على الأراضي الأمريكية، وتحديداً في منطقة البحيرات الكبرى، التي تضم ثمانية ولايات أمريكية، وأجزاء من مقاطعتي كيبيك وأونتاريو الكنديين. 

وبالفعل أنتشر المرض في كافة هذه القبائل، وهو ما مكن الجيش البريطاني من السيطرة الكاملة على منطقة البحيرات الكبرى، وقد أدى ذلك إلى توطن مرض الجدري في الأراضي الأمريكية، وحدوث موجات وبائية أخرى له، خلال الفترة ما بين عامي 1817 و1840، وعامي 1890 و1910، وهو ما أدى في النهاية إلى اندثار آثار السكان الأصليين للولايات المتحدة بشكل شبه تام.

لكن لم يكن هناك شكل واضح للمجهود البريطاني في مجال الحرب البيولوجية، إلا في منتصف عام 1941، خلال الحرب العالمية الثانية، حيث بدأت في إجراء تجارب على بكتريا (الجمرة الخبيثة)، وذلك أعتمادًا على نتائج أبحاث تم التوصل إليها في مركز بحثي بمنطقة (بورتون داون)، الواقعة قرب مدينة (سالزبوري) بمقاطعة (ويلتشر) جنوبي غرب البلاد، وهو من أقدم المراكز البحثية البريطانية المتخصصة في هذا المجال، ومازال قيد التشغيل حتى اليوم، وقد تمت التجارب في جزيرة (جرونارد) في أسكتلندا، طيلة فترة الحرب العالمية الثانية، وتمحورت حول إنتاج قنابل جوية يتم تحميلها ببكتريا (الجمرة الخبيثة).

أختيار البريطانيين لهذه البكتريا تحديدًا، جاء بسبب خصائصها الفريدة، التي تتيح لها التحوصل خلف قشرة سميكة، والبقاء في حالة خمول لسنوات طويلة، دون أن تموت أو تتأثر بعوامل خارجية، وقد أسفرت هذه الأبحاث والتجارب عن أنتاج جهاز لملء القنابل بهذه البكتريا، وتحوير بعض أنواع القنابل الجوية، إلى قنابل جرثومية، تمت تجربتها على الحيوانات في جزيرة (جرونارد)، وكذا تم اختبار القنابل الجوية في مناطق عدة على ساحل ويلز.

عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، أنتقل المجهود البحثي البريطاني، إلى مستعمراتها في (أنتيجوا)، حيث أبحرت إلى هناك ثلاث سفن تابعة للبحرية البريطانية، مجهزة كي تقوم بأبحاث وتجارب في إحدى الجزر هناك، وهي تجارب استمرت طوال فترة الخمسينيات.

التجارب الألمانية في مجال الحرب البيولوجية

كان لألمانيا النازية، وقبلها ألمانيا القيصرية، نشاط مبكر في هذا الصدد، ففي فترة الحرب العالمية الأولى، نشطت  ألمانيا وحدة خاصة للحرب البيولوجية، كانت تستهدف بشكل أساسي القطاع الزراعي للدول المعادية لألمانيا، وقام العملاء الألمان في هذا الصدد، بأنشطة متعددة على الأراضي الأمريكية والروسية والإيطالية، لنشر أوبئة حيوانية مثل الحمى القلاعية، وأوبئة بشرية مثل الطاعون والكوليرا. 

ومن أمثلة ذلك انتشار الآفات الزراعية في مناطق عدة في فنلندا، والتسمم الواسع الذي أصاب الخيول في الإمبراطورية الروسية القيصرية، بالإضافة إلى إرسال الألمان لطرود ملوثة بالجمرة الخبيثة بالبريد إلى العديد من المسئولين في الأرجنتين والولايات المتحدة، وأستهداف الماشية والمحاصيل، التي يتم تجميعها في الموانئ الأمريكية والأرجنتينية، من أجل التصدير.

النشاط الجدي للألمان في مجال الحرب البيولوجية، بدء في عام 1933، حين أجرى بعض الخبراء الألمان، تجارب في كل من باريس ولندن، أستهدفت قياس كيفية تنفيذ هجمات جرثومية، على محطات قطارات الأنفاق في كلا الدولتين، وذلك من خلال بث بعض الفيروسات والبكتيريا، عبر الطائرات، بحيث تنتقل هذه العوامل إلى داخل محطات القطارات التحت أرضية، عبر أنظمة التجديد الهواء الخاصة بها، وبالتالي يتم من خلال دراسة كيفية انتقال البكتيريا والفيروسات في الهواء، ومن ثم معرفة طريقة تحرك تيارات الهواء في الأنفاق الخاصة بالقطارات، ومن ثم يمكن حينها تحديد مدى تأثر المدن الأوروبية، وتحديداً المدن البريطانية والفرنسية، بأية ضربات كيماوية أو بيولوجية.

وقد نفذ العملاء الألمان في هذا الصدد تجربتين أساسيتين، استخدموا فيهما بكتريا عصوية غير ضارة، تم إطلاقها عبر السيارات، وتمت التجربة الأولى في ميدان (كونكورد) بالعاصمة الفرنسية، والثانية قرب محطة قطار سيرك (بيكاديللي) في لندن، وقد حققت هذه التجارب نجاحاً معقولاً، بعد أن وجد العملاء الألمان مئات من مستعمرات البكتريا، في أطباق تم وضعها في محطات مترو قريبة من موضع بث البكتريا العصوية من السيارات، وهو ما يعني عمليًا نجاح أي هجوم بيولوجي سواء عن طريق الجو أو عن طريق المدفعية،  ولم يتوسع الألمان بشكل كبير في هذا البرنامج نظرًا لظروف الحرب العالمية الثانية ونتائجها، لكن كانت هناك فكرة مبدئية، لإستخدام الصواريخ الألمانية من نوعي (أف-1) و(أف-2)، لبث الأوبئة والجراثيم في المدن الإنجليزية.

الإمبراطورية اليابانية .. إنجازات في مجال أبحاث الحرب الجرثومية

كان للجيش الإمبراطوري الياباني، خلال حُقبة ما قبل الحرب العالمية الثانية وأثناءها، الإنجازات الأكبر في مجال أبحاث الحرب الجرثومية، وتفوق بذلك على البريطانيين والأمريكيين والكنديين وحتى الألمان، وبدأ البرنامج الياباني للأبحاث الجرثومية مبكرًا، وتحديدًا عام 1935، وذلك بعد أن ألقى اليابانيون القبض على مجموعة من الجواسيس السوفييت، الذين تسللوا إلى الصين، حاملين معهم بعض الأنابيب التي تحتوي على عوامل بيولوجية وبائية، مثل الكوليرا والدوسنتاريا. 

هذه الحادثة ألقت الضوء على هذا السلاح الفتاك، ومن خلالها بدأ اليابانيون مطلع عام 1936، في أختبارات وأبحاث مكثفة في هذا المضمار، قامت بها وحدة خاصة تم تشكيلها تحت أسم (الوحدة 371)، وترأسها الطبيب والبيولوجي المتفوق (شيري إيشاي)، وكان مقرها الأساسي في قريتي (بينج فينج) و(بيهين) الواقعتين جنوبي مدينة (هاربين) في إقليم منشوريا بالصين.

“ايشاي” كان من المهتمين بكيفية استخدام العوامل البيولوجية في النزاعات العسكرية، واكتسب خبرة كبيرة في التعامل مع الأوبئة، بعد أن كان ضمن الفريق الطبي الذي قام بفحص المرضى في جزيرة (شيكوكو) اليابانية عام 1924، الذين أصيبوا بوباء غامض نتج عنه مقتل أكثر من 2500 شخص،  وعمل “ايشاي” كذلك لفترة كأستاذ للمناعة في الأكاديمية الطبية العسكرية اليابانية، حتى أغسطس 1932، الذي بدأ فيه أبحاثه في ما يتعلق بالاستخدامات العسكرية للعوامل البيولوجية، وذلك في مختبره الذي تم تخصيصه له في الكلية الحربية بالعاصمة اليابانية.

أبحاث “ايشاي” تركزت في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، على استخدام وباء (الحمى الصفراء) في هجمات بيولوجية، وقد حاول عملاء يابانيون مرتين، الحصول على عينات من هذا الميكروب، من معهد روكفلر للأبحاث الطبية في الولايات المتحدة، دون تحقيق نتيجة، ولكن مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، بدأت وحدة “إيشاي” في إجراء تجارب على تلويث مياه الآبار والأنهار، وتجارب أخرى تمت على الحيوانات والسجناء الأجانب، بتعريضهم لمسببات بعض الأوبئة مثل التيفود والدوسنتاريا والكوليرا والطاعون والجمرة الخبيثة. 

ثم توسعت تجاربها، لتشمل تنفيذ عمليات حربية بإستخدام العوامل البيولوجية، وتمت اولى هذه العمليات في أكتوبر 1940، حين أغارت طائرة يابانية على قرية (شوسين) الواقعة في مقاطعة (شيانج) جنوبي شنغهاي الصينية، وألقت خلال هذه الغارة كميات من حبوب القمح والأرز، الموبؤة ببراغيث ناقلة للميكروب العصوي المسبب لمرض الطاعون الدملي، فانتشر هذا المرض في معظم أنحاء القرية، وتعددت الغارات المماثلة خلال عامي 1940 و1941، على مقاطعات صينية عدة، مثل (جيجيانج) و(هونان). 

يضاف إلى هذا، نجاح هذه الوحدة، في تصنيع ثمانية أنواع من القنابل الحاملة للعوامل البيولوجية، مثل قنبلة (يوجاي)، بالإضافة إلى مناطيد خفيفة، كان يراد من خلالها إرسال بعض العوامل البيولوجية إلى السواحل الأمريكية، وتمت عدة محاولات في هذا الصدد، لكن أنتهاء الحرب العالمية الثانية، واستسلام اليابان، أنهى بشكل كامل البرنامج الياباني، ومثل في نفس الوقت فرصة ذهبية للولايات المتحدة، كي تستفيد من خبرات “إيشاي”، الذي ظل لسنوات يعمل ضمن البرامج البحثية للجيش الأمريكي في مجال الحرب البيولوجية.

البرنامج البيولوجي الأمريكي … تاريخ حافل

بدأت ملامح البرنامج البيولوجي الأمريكي في التشكل، عام 1942، بفعل المخاوف من استهداف أراضيها أو قواتها، بعوامل بيولوجية ألمانية ويابانية، عبر قرار من الرئيس الأمريكي حينها “فرانكلين روزفلت”، ببدء البرنامج العسكري البيولوجي. 

ففي البداية أعدت وزارة الدفاع الأمريكية لجنة أكاديمية وطبية لبحث التهديدات المحتملة ومدى أمكانية أستخدام العوامل البيولوجية عسكريا، ومن ثم تشكيل ما يعرف بإسم (خدمة بحوث الحرب ABC)، برئاسة “جورج ميرك” وهو مدير احدى شركات الأدوية في ولاية نيوجيرسي، وكان مقر هذه اللجنة في الأكاديمية القومية للعلوم في واشنطن،  وبحلول ديسمبر 1942، بدأت عملية إعداد المعسكر الأساسي للأبحاث والتصنيع والتجارب لهذه اللجنة، وكان مقره في معسكر سابق للحرس الجوي الأمريكي، يقع في مدينة فريدريك بولاية ميريلاند الأمريكية، على مساحة تبلغ 90 فدان.

في خلال عام واحد، أصبح هذا المعسكر الذي تمت تسميته (معسكر ديتريك)، مقرًا لعدد من الوحدات الإنتاجية، المسئولة عن تخزين وتصنيع مجموعة كبيرة من الجراثيم والميكروبات، مثل الجمرة الخبيثة والحمى بأنواعها،  وقد قاد عمليات التصنيع والأختبار كل من ويليام باتريك وإيرا بالدوين، اللذان أشرفا على الاختبارات التي تمت على الحيوانات المختلفة، في جزيرة (هورن)، الواقعة على نهر المسيسيبي في نيو أورليانز. 

أعتمد الأمريكيون في عمليات تصنيع واختبار قنابلهم البيولوجية، على ما توصل إليه البريطانيون في هذا الصدد، وتفوقوا عليهم بشكل جعل رئيس الوزراء البريطاني تشرشل، يطلب من رئيس اللجنة الأمريكية، تصنيع خمسمائة ألف قنبلة جوية عنقودية، مملوءة بمسببات مرض الجمرة الخبيثة، وتباطأ هذا البرنامج لفترة عقب أنتهاء الحرب العالمية الثانية، لكن استمرت الأبحاث بشكل حثيث.

اندلاع الحرب الكورية، عام 1950، أعاد النشاط إلى البرنامج البيولوجي الأمريكي، وقد أستخدم سلاح الجو الأمريكي، العوامل البيولوجية في قصف الأراضي الكورية الشمالية والصينية، بقنابل محملة بوسائط ملوثة بالجدري، وكذلك بحاويات مليئة بالفئران المصابة بالكوليرا والطاعون، خاصة خلال عام 1952، الذي شهد حوادث عديدة من هذا النوع، منها غارات استهدفت قرية (مين تشانج) شمال شرق الصين، وقرية (كوان تين) في منطقة لياتونج الصينية.

عقب أنتهاء الحرب الكورية، أقدمت الولايات المتحدة في الفترة ما بين عامي 1955 و1975، على تنفيذ سلسلة من التجارب البيولوجية، تحت أسم (دي-22)، أستخدمت فيها كميات هائلة من الحيوانات، بجانب متطوعين من جنود الجيش الأمريكي، المنتمين لطائفة (السبتيين) الدينية، بجانب سجناء مدانين، وقد تمت هذه التجارب بشكل أساسي في مختبر (داجواي)، الذي يقع في ولاية يوتا الأمريكية، ومعسكر تابع لسجن (سان كوينتين) في كاليفورنيا.

وبلغ إجمالي عدد الأشخاص الذين تم أجراء هذه التجارب عليهم، 2200 شخص، تعرضوا للحقن بميكروبات متنوعة، كذلك تم في ديسمبر 1957، تنفيذ عدة عمليات جوية، لإطلاق جزيئات من سلفات الزنك والكادميوم، وقياس مدى انتشارها في الجو وعلى الأرض، وذلك في عدة مناطق منها جنوبي داكوتا، وأوهايو وتكساس إلينوي.

وفي أغسطس 1959، استوحت وزارة الدفاع الأمريكية في التجارب النازية السابقة، تجربة قامت من خلالها بقياس مدى مناعة وفعالية نظام التهوية الخاص بمبنى البنتاجون، وتكررت هذه التجارب في مناطق أخرى، من بينها ميناء ساوثهامبتون، ومناطق على ساحل سان فرانسيسكو، وذلك باستخدام بكتريا غير ضارة، وقد توسع هذا البرنامج، ليشمل المساهمة في خطط أغتيال بعض القادة والزعماء، مثل باتريك لومومبا في الكونغو، وفيدل كاسترو في كوبا.

أستمرت هذه التجارب خلال فترة الستينيات، إلى أن قام الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، في أواخر مدته الرئاسية عام 1969، بتجميد هذا البرنامج بشكل عام، وتم إتلاف بعض العوامل البيولوجية التي تم إنتاجها على مدار السنين، لكن ظل بعضها الأخر مخزناً، والمفارقة هنا، أن مختبر (داجواي)، كان هو السبب في الكشف عن استمرار تواجد هذه العوامل البيولوجية في حوزة الولايات المتحدة، ففي عام 2016، قال مسؤولون بوزارة الدفاع الأميركية، أن اخطاء أجرائية في هذا المختبر، نتج عنها إرسال جراثيم حية من الجمرة الخبيثة الى 192 مختبرا في الولايات المتحدة وخارجها.

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى