أوروبا

حزب العمال ينتخب زعيمًا جديدًا.. عودة اليسار الليبرالي لقيادة المعارضة البريطانية

في الوقت الذي تعلن فيه نشرات الأخبار نقل بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني إلى المستشفى على ضوء إصابته بفيروس كورونا، كان حزب العمال الاشتراكي المعارض ينتخب قائدًا جديدًا خلفًا لرئيسه المستقيل جيرمي كوربين.

وأسفرت الانتخابات عن فوز السير كير ستارمر Keir Starmer برئاسة الحزب متغلبًا على أربع سياسيات شابات، ويُعدُّ هذا الاختيار تحولًا جديدًا وعودة تاريخية لحزب العمال إلى تيار اليسار الليبرالي الذي يقوده ستارمر داخل الحزب، وهو التيار الذي سيطر على الحزب في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، ويأمل العمال أن ينجح تيار اليسار الليبرالي في إعادتهم للحكم في انتخابات 2024 بعد غياب بدأ منذ انتخابات 2010 وحتى اليوم.

التحولات الفكرية داخل المعارضة البريطانية

تأسس حزب العمال عام 1900، وبحلول عشرينيات القرن العشرين أصبح القوة الحزبية الثانية في البرلمان، وشكّل مع حزب المحافظين الثنائية الحزبية التي تحكم بريطانيا حتى اليوم.

وقد انتقل الحزب بين أغلب المدارس الفكرية اليسارية، التوجه الأول كان “الديموقراطية الاشتراكية” المؤسسة للحزب، وطبقها عن جدارة رامزي ماكدونالد حينما شكّل الوزارة البريطانية تارة في العشرينيات، وتارة أخرى في ثلاثينيات القرن العشرين، كذا كلمنت اتلي في الأربعينيات والخمسينيات حينما شكّل أول وزارة بريطانية عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية.

والمدرسة الثانية هي “اليسار الليبرالي”، التي ظهرت في الغرب أواخر الستينيات ووصلت للذروة في السبعينات وشاركت في صناعة كافة مظاهر العولمة رغم رأسمالية هذه المنظومة، مثل الثورة الجنسية والصوابية السياسية وحقوق الإجهاض وتعاطي المخدرات والحريات الجنسية والمثلية والنسوية. وكان قادة هذا التيار في الحزب هما هارولد ويلسون وجيمس كالاهان، والأول عُدَّ منظرًا حقيقيًا لهذا التيار، خصوصًا حينما ربطه باندماج بريطانيا في الوحدة الأوروبية والنظام العالمي الرأسمالي مع تطبيق أفكار يسار الوسط الليبرالي.

أما كالاهان فإن وزارته شهدت توترات سياسية تعرف في كتب التاريخ بـ “شتاء الغضب” عامي 1978 و1979 فسقط في الانتخابات البرلمانية خلال فعاليات صعود مارجريت تاتشر لسدة الحكم.

عانى حزب العمال منذ نهاية السبعينات من مشاكل أيدولوجية، وعدم القدرة على فرز قادة او رجالات دولة، رغم مشاركة نشطاء الحزب وكوادره في صعود بعض الأفكار داخل منظومة العولمة.

صعود توني بلير وتيار الطريق الثالث

تغير المشهد مع صعود السياسي الشاب توني بلير لرئاسة الحزب عام 1994، حيث أعاد هيكلة التوجه الحزبي إلى يسار الطريق الثالث، وهي موجة من الأفكار “شبه اليسارية” سعت الى رأسمالية أكثر رأفة بالعمال والمجتمعات.

وفى عام 1997 أعاد بلير حزب العمال إلى السلطة مرة أخرى، ليصبح خامس رئيس وزراء عمالي في تاريخ بريطانيا وأصغر رئيس وزراء منذ عام 1812، ويبدأ في تطبيق سياسات الطريق الثالث ليحقق نهضة اقتصادية وسياسية كبيرة لبريطانيا وحزب العمال.

لم يكن توني بلير هو أول من طبق أفكار يسار الطريق الثالث، ولكن يمكن القول ان الرئيس الأمريكي بيل كلنتون صاحب أهم تجربة اقتصادية في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية هو أول من تجرأ في الغرب وقام بتطبيق تلك الأفكار، ما شجع العديد من ساسة العالم على تبني الأفكار نفسها.

توني بلير يقول إن بريطانيا غارقة في الفوضى

إلى جانب بلير وآل جور نائب الرئيس الأمريكي، تضم القائمة المستشار الألماني جيرهارد شرويدر رئيس الحزب الاشتراكي الديموقراطي، ورئيس الوزراء الإسباني خوسيه لويس زاباتيرو رئيس حزب العمال الاشتراكي، والرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دي سيلفا رئيس حزب العمال الاشتراكيين، والمرشحة الفرنسية للرئاسة سيجولين رويال عضوة الحزب الاشتراكي، ورئيسة وزراء الدنمارك هيلي تورنينج-شميت ورئيسة الحزب الاشتراكي الديموقراطي، ورؤساء الحكومة الإيطالية رومانو برودي وماتيو رينزي من الحزب الديموقراطي.

انتُخب بلير ثلاث مرات متتالية لترؤس الوزارة البريطانية، وبعد عشر سنوات من توليه الوزارة وتحديدًا عام 2007 قدّم استقالته، وخلفه جوردن براون الذي سار على سياسة الطريق الثالث، ولكنه قادر حزب العمال إلى الهزيمة أمام حزب المحافظين بقيادة ديفيد كاميرون عام 2010.

سنوات التيه اليساري

عقب خسارة براون وبدء الأزمة الاقتصادية العالمية سبتمبر 2008 التي أسفرت عن انحصار يسار الطريق الثالث وظهور اليسار المتشدد الجديد، جرت مفاجئة مهمة بالتحول من التيار البليري نسبة إلى توني بلير ويسار الطريق الثالث إلى اليسار المتشدد الجديد، حيث انتخب العمال وزير الطاقة المتشدد إيد ميلباند على حساب أخيه وزير الخارجية ديفيد ميلباند الذي كان ينتمي إلى التيار البليري.

الفوز الطفيف لديفيد كاميرون على “عمال جوردن براون” عام 2010 تحول الى فوز ساحق على “عمال إيد ميلباند” عام 2015، حتى أن كاميرون الذي شكل الوزارة ائتلافيًا مع حزب الديمقراطيين الليبراليين عام 2010 لم يعد بحاجة إلى هذا الائتلاف الذي تفكك وشكل كاميرون الوزارة منفردًا.

من اليسار المتشدد إلى اليسار الماركسي

وحينما خسر العمال انتخابات بريطانيا 2015، كان المتوقع أن تلجأ قواعد حزب العمال الاشتراكي إلى الخروج من التشدد اليساري، ولكن المفاجئ أن الحزب انتقل من اليسار الجديد المتشدد إلى اليسار الكلاسيكي الماركسي عبر انتخاب جيرمي كوربين عام 2015 رئيسًا للحزب.

تعتبر سنوات جيرمي كوربين من أسوأ وأضعف سنوات حزب العمال، حيث تسبب كوربين مع ضعف وزارة تريزا ماي في تفشي الفوضى السياسية في البلاد عقب تصويت البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي صيف 2016 واستقالة ديفيد كاميرون، حيث فشل كوربين في فرض رؤية الحزب حيال التصويت على بريكست ثم مرحلة ما بعد بريكست وطبيعة العلاقة بين لندن والاتحاد الأوروبي.

C:\Users\user\Desktop\6de8b575-bd28-476d-9663-2f369d67fc29.jpg

كما قاد العمال البريطاني إلى الهزيمة الانتخابية مرتين، الأولى بفارق بسيط في الانتخابات المبكرة عام 2017، والثانية هزيمة تاريخية هي الأسوأ لحزب العمال منذ عام 1935 في الانتخابات المبكرة الثانية عام 2019، وضرب بعرض الحائط كافة الأعراف السياسية البريطانية حينما رفض الاستقالة مباشرة عقب هزيمته، وقال إنه سوف يبقى على رأس حزب العمال لفترة انتقالية!

وإلى جانب مسؤوليته مع ماي عن الفوضى السياسية التي ضربت بريطانيا ما بين عامي 2016 و2019 وتحويل مجلس العموم العريق إلى شوكة في حلق بريطانيا العظمى، أطلق كوربين سلسلة من التصريحات التي تسببت في اتهام حزب العمال ورئيسه بمعادة اليهود وتاليًا معاداة السامية.

ويمكن القول إن الاتحاد الأوروبي والغرب كان يرغب في خسارة المحافظين في انتخابات 2017 و2019 وعدم صعود بوريس جونسون لحكم بريطانيا، ولكن شريطة أن يكون هنالك يساري معتدل على رأس الحزب وليس هذا الماركسي المتشدد، ما يعني عمليًا أن بقاء كوربين على رأس الحزب خمس سنوات عطّل مخططات أوروبية وغربية لإسقاط تريزا ماي الضعيفة، أو زعيم اليمين القومي البريطاني الجديد بوريس جونسون والالتفاف حول استفتاء بريكست.

زعامة تتفق مع التوجه الأوروبي

على ضوء فوضى كوربين في حزب العمال، أتى انتخاب كير ستارمر عام 2020، ليعود “اليسار الليبرالي” مرة أخرى إلى سدة الحكم في الحزب بعد غياب يصل الى أربعة عقود.

ستارمر متفق مع التوجهات النيوليبرالية للاتحاد الأوروبي وفكرة الوحدة الأوروبية، وعارض بريكست ولاحقًا طالب باستفتاء ثانٍ عام 2019 قبل الاستسلام لحكومة جونسون التي نفذت الخروج البريطاني.

C:\Users\user\Desktop\ce52658a-84e7-4f8a-b8e9-d1e3f1e6b1af.jpg

من مواليد لندن عام 1962، انتخب عضوًا بمجلس العموم عام 2015، درس الحقوق بجامعة ليدز ثم تابع دراساته بأوكسفورد، تزوج المحامية فيكتوريا ألكسندر عام 2007 ولديهما طفلان، وهي يهودية الديانة ولها أسرة في إسرائيل، وقام ستارمر بتوظيف تلك المعلومة خلال حملته الانتخابية لبدء نفى تهمة معاداة اليهود والسامية عن الحزب، وبل وصرح قائلًا “إذا كان تعريف كونك صهيوني هو الإيمان بدولة إسرائيل، فأنا بهذا المعنى صهيوني”.

وانتقد كوربين بشكل ضمني حينما قال إنه لن يسعي الى إلهام الجميع بالاستماع إليه، ولكن تشكيل فريق يوحد حزب العمال ويعطى رسائل واضحة.

وعادة ما يشكل زعيم المعارضة في بريطانيا ما يطلق عليه “حكومة الظل”، وكانت مفاجأة ستارمر هي الاستعانة بزعيم اليسار المتشدد ايد ميلباند في تشكيلته الوزارية، ما يوضح أن حزب العمال البريطاني قرر تطبيق التوصيات الأوروبية بتوحيد أجنحة اليسار في تحالف برجماتي حتى لو كان غير متجانس ايدولوجيًا من أجل استخدام اليسار في اسقاط اليمين القومي.

C:\Users\user\Desktop\9a402b9f-63ba-4113-8e9f-c5c4e799ee62.jpg

حدث ذلك عبر تحالف اليسار الإسباني التقليدي عبر حزب العمال الاشتراكي مع اليسار المتشدد الجديد عبر حزب بودميوس في التشكيلة الوزارية التي تحكم مدريد اليوم، كذلك اليسار الإيطالي التقليدي الحزب الديمقراطي مع اليسار المتشدد الجديد حركة النجوم الخمس في التشكيلة الوزارية التي تحكم روما اليوم، إذ قررت أوروبا توحيد اليسار في وجه اليمين القومي، ما يعني أن تيار اليمين القومي وبريكست الحاكم داخل حزب المحافظين البريطاني ووزارة بوريس جونسون سوف يشهد معارضة أكثر احترافية وقوة وانسجامًا في الفترة المقبلة، بعيدًا عن كلاسيكية الماركسي العجوز جيرمي كوربين.

+ posts

باحث سياسي

إيهاب عمر

باحث سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى