
كيسنجر” في “وول ستريت جورنال”: جائحة كورونا ستغير النظام العالمي للأبد وعلى واشنطن بدء التخطيط العاجل لعصر جديد
عرض: محمد حسن
كما استنفرت جائحة كورونا حالة الطوارئ في أكثر من 178 دولة ومنطقة بالعالم، استنفرت كذلك عقول وأقلام المفكرين الاستراتيجيين حول العالم. سيلُ من الافتراضات وكثير من التنظير وتوجس قائم بينهما يعزز من حالة عدم اليقين لدي العقل الاستراتيجي للدول، ويرصد في قلق بالغ تبعات الزلزال المدوي الذي أحدثه انتشار قاتل غامض ومجهول “فيروس كورونا المستجد”. لكن ثمة واحد من هذه العقول الاستراتيجية المخضرمة، الذي صاغ أدبيات السياسة الخارجية الأمريكية المعاصرة، علي ما يبدوا استنفرت جائحة كورونا قدراته المعتبرة في التنبوء وسط حالة من الضبابية واللايقين. هنري كيسنجر المفكر المخضرم، ربما كان آخر من يتحدث عن الجائحة في مرحلتها الأولي، لكنه أضاف من خلال مقال له في صحيفة “وول ستريت جورنال”، أبعاد تبعات تفشي الوباء علي النظام الدولي القائم.. فـ إلي نص المقال:
إن المشهد السيريالي الذي نعيشه اليوم علي وقع تفشي جائحة كورونا، استعدي في ذاكرتي ما شعرت به كنت شاباً في الفرقة 84 مشاة خلال معركة “الثغرة” – تسمي أيضاً معركة غابات الأردين، كبريات معارك الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية”.
الآن، كما في أواخر عام 1944، هناك إحساس بالخطر الشديد. خطر لا يستهدف أحداً بعينه، وإنما يهاجم علي حين غرة، وبشكل عشوائي دون هوادة. ولكن هناك فرق بين تلك الفترة البعيدة وزماننا. ففي السابق كانت القدرة الدفاعية الأمريكية موجهة نحو هدف قومي. أما الآن فنحن في بلد منقسمة علي ذاتها، فإن الحاجة تتعاظم لوجود حكومة فعالة ولديها خطط بعيدة النظر للتغلب علي العقبات التي لم يسبق لها مثيل من حيث الحجم والنطاق العالمي للتأثير.
إن الحفاظ علي ثقة الجمهور أمر حاسم للتضامن الاجتماعي، وعلاقة المجتمعات ببعضها البعض للوصول للسلام والاستقرار الدوليين. كما تجدر الإشارة أن الأمم تتماسك وتزدهر حين تتمكن مؤسساتها من توقع الكارثة وتتمكن من السيطرة علي تأثيراتها وتبعاتها. وحين تنتهي جائحة كورونا، العديد من مؤسسات الدول سيُنظر إليها علي أنها فشلت ومهما كان ذلك الافتراض صحيحا أم جانبه الصواب، فإن المؤكد أن العالم لن يصبح كسابق عهده بعد أزمة جائحة كورونا.
إن الجدال والنقاش حول الماضي سيجعل من الصعب تنفيذ ما يجب القيام به الآن، حيث ضربنا الفيروس التاجي على نطاق واسع، وبشراسة وعناد غير مسبوقين. كورونا، معدل انتشاره متسارع، الولايات المتحدة تتضاعف فيها حالات الإصابة كل خمسة أيام وحتي وقت كتابة هذه السطور لا يوجد علاج له، كما إن المستلزمات والمعدات الطبية لا تكفي لاستيعاب موجات الإصابة الواسعة، وحدات العناية المركزة علي حافة الامتلاء ومن ثم الانهيار، والاختبار غير كافِ لتحديد مدي الإصابة ودائرة تعاملاتها، ولتطوير لقاح فعال وناجح يستغرق الأمر من 12 لـ 18 شهراً.
يمكنني القول، أن الإدارة الأمريكية الحالية قامت بعمل جيد لتجنب الكارثة الفورية. الاختبار النهائي والكاشف سيكون ما إذا كان لدينا القدرة علي السيطرة علي انتشار الفيروس، بل ومنعه بطريقة وأسلوب يحافظ علي ثقة الجمهور في قدرة الأمريكيين علي حكم أنفسهم. لكن يجب ألا تجهد إجراءات مواجهة الفيروس الخطط الاستراتيجية الكبرى التي يجب العمل عليها الآن في التو واللحظة للتهيئة والاستعداد لمرحلة ما بعد كورونا.
قادة العالم يواجهون أزمة كورونا من منطلق حس قومي، لكن الفيروس يضرب بلا هوادة غير آبه للحدود ولا السيادة. بينما يعتدي الفيروس علي صحة الإنسان وآمل أن يكون ذلك مؤقتاً، فإن التداعيات السياسية والاقتصادية التي أطلقها قد تستمر لأجيال ولا يمكن لأي دولة منفردة ولا حتي الولايات المتحدة أن تتغلب علي الفيروس في جهد وطني مخض. يجب أن تقترن معالجة ضرورات اللحظة في نهاية المطاف برؤية وبرنامج تعاونيين عالميين. إذا لم نتمكن من القيام بالأمرين معا ، فسوف نواجه أسوأ ما في كل منهما.
من خلال استخلاص الدروس من تطوير خطة مارشال ومشروع مانهاتن، تلتزم الولايات المتحدة ببذل جهد كبير في ثلاثة مجالات:-
أولاً: دعم المرونة العالمية تجاه الأمراض المعدية. إن انتصارات العلوم الطبية مثل لقاح شلل الأطفال والقضاء على الجدري ، أو الأعجوبة الفنية والتقنية الناشئة للتشخيص الطبي من خلال الذكاء الاصطناعي ، قد أوقعنا في حالة من الرضا عن النفس. نحن بحاجة إلى تطوير تقنيات وتقنيات جديدة لمكافحة العدوى واللقاحات المناسبة عبر مجموعات كبيرة من السكان. يجب أن تستعد المدن والولايات والمناطق باستمرار لحماية سكانها من الأوبئة من خلال التخزين والتخطيط التعاوني والاستكشاف على حدود العلم.
ثانيًا: السعي لمعالجة جراح ونزيف الاقتصاد العالمي. لقد تعلم قادة العالم دروسًا مهمة من الأزمة المالية لعام 2008. إن الأزمة الاقتصادية الحالية أكثر تعقيدًا: فالاكماش الذي أطلقه الفيروس التاجي هو في سرعته ونطاقه العالمي، على عكس أي شيء معروف في التاريخ. وتدابير الصحة العامة الضرورية مثل الإبعاد الاجتماعي وإغلاق المدارس والشركات تساهم في الألم الاقتصادي. يجب أن تسعى البرامج أيضًا إلى تحسين آثار الفوضى الوشيكة على أضعف السكان في العالم.
ثالثاً: حماية مبادئ النظام العالمي الليبرالي. الأسطورة التأسيسية للحكومة الحديثة هي مدينة مسورة يحميها حكام أقوياء، وأحيانًا مستبدون، وأحيانًا خيرة، لكنها قوية دائمًا بما يكفي لحماية الناس من عدو خارجي.
أعاد مفكرو التنوير صياغة هذا المفهوم ، بحجة أن الغرض من الدولة الشرعية هو توفير الاحتياجات الأساسية للناس: الأمن والنظام والرفاهية الاقتصادية والعدالة. لا يمكن للأفراد تأمين هذه الأشياء بأنفسهم. أثار هذا الوباء مفارقة تاريخية، وإحياء المدينة المسورة في عصر يعتمد فيه الازدهار على التجارة العالمية وحركة الناس.
تحتاج ديمقراطيات العالم إلى الدفاع عن قيم التنوير والحفاظ عليها. سيؤدي التراجع العالمي عن موازنة السلطة مع الشرعية إلى تفكك العقد الاجتماعي محليًا ودوليًا. ومع ذلك ، لا يمكن تسوية قضية الشرعية والقوة الألفية هذه، في وقت واحد مع محاولة التغلب على وباء Covid-19. ضبط النفس ضروري من جميع الجوانب – في كل من السياسة الداخلية والدبلوماسية الدولية. يجب تحديد الأولويات.
لقد انتقلنا من معركة غابات الأردين 1944 بكل ما فيها من أهوال، إلي عالم من الازدهار وترسيخ الكرامة الإنسانية. الآن، نحن نعيش فترة تاريخية، فالتحدي الرئيسي للقادة هو إدارة الازمة مع بناء المستقبل في وقت واحد .. فالفشل ممكن أن يؤدي لحرق العالم.