
كاتب بريطاني: “كوفيد-19″سيصبح نقطة تحول تاريخية؟
ستضج الشوارع المهجورة من البشر مرة أخرى، وسنترك عالمنا الافتراضي خلف الشاشات، لنعود إلى حياتنا السابقة، ولكن العالم سيكون مختلفًا عن ذي قبل، حيث نعيش نقطة تحول تاريخية. فقد انتهت ذروة عصر العولمة، وتحول النظام الاقتصادي الذي يعتمد على الانتاج العالمي وسلاسل التوريد، إلى نظام أقل ترابطًا، وسيصبح واقعنا الحقيقي أكثر افتراضية مما كان عليه. هكذا وصف الكاتب البريطاني “جون جراي” في تقرير نشرته مجلة news statesman البريطانية، العالم بعد انقضاء وباء كورونا.
أوضح الكاتب أن الدولة البريطانية التي كانت منيعة يعاد تشكيلها على نطاق أوسع عن ذي قبل، إذ تفعّل الدولة قانون الطوارئ، وتضع عقيدتها الاقتصادية في مهب الريح، فمنظومة الرعاية الصحية في وضع صعب للغاية مثلها في ذلك مثل القوات المسلحة والشرطة والسجون وخدمة الإطفاء وعمال الرعاية والنظافة، ستتم السيطرة على الفيروس، ولكن لن يكون الحظ حليفًا لكثير من الدول مثلنا. حيث ستجد الحكومات نفسها في النفق الضيق بين مكافحة الفيروس أو مجابهة خطر انهيار الاقتصاد.
نظام اقتصادي جديد يتشكل
نحاول رسم مشهد للتأثير المستقبلي لفيروس كورونا على العالم، حيث يرى المفكرون التقدميون، أن المستقبل هو نسخة مزخرفة من الماضي القريب، للقدرة على التكيف مع أشكال الحياة المختلفة، وأن المهمة المقبلة لنا جميعا هي بناء اقتصادات ومجتمعات أكثر ديمومة، وقابلة للحياة عن تلك التي تعرضت لفوضى السوق العالمية. وهذا لا يعني التحول إلى المحلية أو العودة إلى المجتمعات المغلقة، والتي لا تجدي نفعا في الوقت الحاضر في ظل تزايد عدد السكان وعدم الاكتفاء الذاتي. وقد كشفت العولمة المفرطة خلال العقود القليلة الماضية عن نقاط ضعف النظام الاقتصادي الذي تم إصلاحه بعد الأزمة المالية لعام 2008.
وفي ظل أحاديثنا عن الحرية، كانت الليبرالية في الواقع تجربة لاستبدال الممارسات التقليدية للتماسك الاجتماعي والشرعية السياسية بوعود حول ارتفاع مستويات المعيشة. وهذه التجربة بدأت الآن، حيث تتطلب مكافحة تفشي فيروس كورونا توقف الاقتصاد بشكل مؤقت ولكن عند إعادة تشغيله مرة أخرى، سنكون في عالم تتصرف فيه الحكومات لكبح السوق العالمية. والسؤال الآن، ما الذي سيحل محل ارتفاع مستويات المعيشة المادية كأساس للمجتمع؟ إحدى الإجابات التي قدمها المفكرون هي ما أطلق عليه المفكر الإنجليزي “جون ستيوارت ميل” في مبادئه للاقتصاد السياسي (1848) “اقتصاد الدولة الثابتة”. وهو أن التوسع في الإنتاج والاستهلاك لم يعد هدفاً مهيمناً.
وأكد “جراي” أن الوباء أحدث تغيرات جيوسياسية سريعة، وبالتزامن مع انخفاض أسعار النفط العالمية، فإن انتشار الفيروس في إيران من الممكن أن يؤدي إلى زعزعة استقرار نظامها الثيوقراطي، كما ستواجه الأنظمة القائمة على اقتصاد النفط مخاطر كبيرة جراء انخفاض العائدات، الأمر الذي قد ينتج عنه فوضى قد تستمر لسنوات. في المقابل، من المتوقع أن يستمر التقدم الاقتصادي في دول شرق آسيا، حيث أثبتت دول مثل تايوان وكوريا الجنوبية وسنغافورة تجارب ناجحة في السيطرة على الفيروس.
انهيار الاتحاد الأوروبي
لقد تعثر الاتحاد الأوروبي في إنقاذ إيطاليا، حيث عارضت ألمانيا وهولندا إصدار سندات مشتركة لدعم اقتصادها. وصرح رئيس الوزراء الإيطالي، جوزيبي كونتي قائلاً: “إذا لم تثبت أوروبا أنها على مستوى هذا التحدي غير المسبوق ، فعندئذٍ قد يفقد التكتل الأوروبي بأكمله أمام مواطنينا سبب وجوده”. وكان الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيك أكثر حدة وواقعية عندما قال: “إن التضامن الأوروبي غير موجود، تلك قصة خرافية. الدولة الوحيدة التي يمكنها مساعدتنا في هذه الحالة الصعبة هي جمهورية الصين الشعبية”.
وظهر خلل الاتحاد الأوروبي في عدم قدرته على أداء دوره وحماية دوله من الانهيار. فقد أصبح تفكك مؤسساته أمر وارد في ظل إغلاق الحدود وعدم حرية حركة التنقل بين أفرداه، وابتزاز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عبر ورقة المهاجرين والسماح لملايين المهاجرين بالعبور إلى أوروبا. وبالتالي فمن الصعب رؤية ما قد يعنيه التباعد الاجتماعي في مخيمات اللاجئين الضخمة والمكتظة وغير الصحية. حيث يمكن أن تؤدي أزمة المهاجرين الأخرى بالتزامن مع الضغط على اليورو إلى نهاية الاتحاد. وإذا ظل الاتحاد الأوروبي باقيًا، فقد يكون مثل الإمبراطورية الرومانية المقدسة في سنواتها الأخيرة. فهو لم يعد مركز سياسي ذي قوة رائدة، ومع وجود جزء كبير من اليسار متشبث بالمشروع الأوروبي الفاشل، سيسيطر أقصى اليمين على العديد من الحكومات لإنهاء المشروع الأوروبي.
كما سيأتي التأثير المتزايد على الاتحاد الأوروبي من قبل روسيا. التي تعمل على تعزيز مكانتها كقوة عظمى للطاقة. حيث تمد خطوط “نورد ستريم” البحرية التي تمر عبر منطقة البلطيق إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا. ومع بلقنة أوروبا، يبدو أن روسيا أيضًا على استعداد لتوسيع مجال نفوذها. مثل الصين التي تدخلت لتحل محل الاتحاد الأوروبي المتعثر، وترسل بعثات طبية وطائرات محملة بمعدات ومستلزمات إلى إيطاليا.
الولايات المتحدة في مواجهة الوباء
يرى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن إعادة فتح الاقتصاد أكثر أهمية من احتواء الفيروس. حيث يمثل الوضع الأقتصادي المتردي وانهيار سوق الأوراق وازدياد معدلات البطالة التي لم تشهدها الولايات المتحدة من قبل تهديد وجودي لحكمه. وقد أشار جيمس بولارد، الرئيس التنفيذي لبنك الاحتياطي الفيدرالي في سانت لويس، إلى أن معدل البطالة الأمريكية يمكن أن يصل إلى 30% وهو أعلى مما كان عليه في في فترة الكساد العظيم في عام 1929. من ناحية أخرى، لا يمكن للولايات المتحدة السيطرة على الوباء دون حدوث تداعيات كبيرة على الاقتصاد في ظل نظام الحكم اللامركزي للولايات المتحدة، ونظام الرعاية الصحية باهظ الثمن، وعشرات الملايين غير المؤمن عليهم، ووجود عدد كبير من السجناء، معظمهم من كبار السن، كل هذا قد يعني عدم قدرة الولايات المتحدة السيطرة على الوباء.
وعلى عكس البرنامج البريطاني، فإن خطة ترامب للتحفيز الاقتصادي البالغ قيمتها 2 تريليون دولار هي في الغالب عملية إنقاذ أخرى للشركات. كما أظهرت استطلاعات الرأي عن رضا الأمريكان على تعامل ترامب مع الوباء. والسؤال الذي يطرح نفسه ماذا لو خرج ترامب من هذه الكارثة بدعم من أغلبية أمريكية؟ سواء احتفظ بقبضته على السلطة أم لا ، فقد تغير موقف الولايات المتحدة في العالم بشكل لا رجعة فيه. فالنظام العالمي الذي تشكل عقب نهاية الحرب العالمية الثانية.
الشعوب والأوبئة
من غير المعروف حتى الآن كيف انتقل كوفيد-19 من مكانه، على الرغم من وجود شك في أن “الأسواق الرطبة” في ووهان، حيث تباع الحيوانات البرية، قد لعبت دورًا في تفشي المرض. ومع تقدم العولمة، ازداد خطر انتشار الأمراض المعدية. ومع ذلك كانت الأنفلونزا الإسبانية التي ظهرت عام 1918 وباء عالميًا في عالم خالي من النقل الجوي. وتعليقًا على كيفية فهم المؤرخين للأوبئة، يرى المؤرخ شيكاغو وليام إتش ماكنيل في كتابه الشعوب والأوبئة” أن الأوبئة ليست سوى جزء لا يتجزأ من التاريخ. وأن البشر لم يعودوا جزءًا من العالم الطبيعي ويمكنهم إنشاء نظام بيئي مستقل، منفصل عن بقية المحيط الحيوي. كوفيد- 19 يقول لهم إنهم لا يستطيعون. وباستخدام العلم فقط يمكننا الدفاع عن أنفسنا ضد هذا الوباء. ستكون الاختبارات الجماعية للأجسام المضادة واللقاح حاسمة. ولكن يجب إجراء تغييرات دائمة في أسلوب حياتنا إذا أردنا أن نكون أقل عرضة للخطر في المستقبل.
فقد تغير نهج الحياة اليومي، وأصبح الشعور بالهشاشة هو السائد في كل مكان. بعد ما أجبر وباء كورونا الناس للحجر الصحى والعزل فى منازلهم من أجل الحد من تفشى الوباء، كانت الفرصة متاحة للطبيعة أن تستعيد ما ينتمى إليها، وخرجت الحيوانات من مخابئهم، لتتجول بحرية، وأصبح مشهد تجول الخنازير البرية في مدن شمال إيطاليا، مألوفًا ومعتادًا، وتقاتل القرود من أجل العيش في لوبوري في تايلاند وقررت النزول للشواع بعد أن تضرعت جوعاً نتيجة لغياب السائحين .
واختتم الكاتب البريطاني تقريره بالتأكيد على أنه ستكون هناك احتفالات مع انحسار الوباء، ولكن قد لا تكون هناك نقطة واضحة عندما ينتهي خطر العدوى. قد يهاجر العديد من الأشخاص إلى بيئات افتراضية على الإنترنت، حيث يلتقي الناس ويتاجرون ويتفاعلون في أجسام وعوالم من اختيارهم. ميزة الحجر الصحي هو أنه يمكن استخدامه للتفكير من جديد. والتخلص من الفوضى والتفكير في كيفية العيش في عالم متغير.