كورونا

تطورات انتشار “كوفيد- 19”.. وانعكاساته على المشهد الداخلي الروسي

يجتاح “كوفيد 19” العالم، فتتوالى الأحداث الجنونية، أو بمعنى آخر، يتوالى وقوع كل الأحداث التي لم يكن يخطر لبشر من قبل أن تعبر أمام عينيه عبر الشريط الإخباري على شاشة التليفزيون، إلا فقط في حالة أفلام الخيال العلمي.

واليوم خرج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطاب متلفز حتى يعلن لشعبه تمديد فترة – العطلات المدفوعة الأجر- حتى نهاية شهر ابريل الجاري ، مشيرا إلى أن الأوضاع في بعض مناطق البلاد أكثر خطورة من مناطق أخرى.

وأقر بوتين بأن السلطات الروسية لم تتمكن بعد من إحداث تغير جذري في أوضاع انتشار الفيروس في العاصمة موسكو ، مؤكدا أنه من الممكن أن يتم تقليص فترة العطلة المدفوعة وفقًا لتطورات المشهد. وكما جرت العادة في جميع الدول التي تطبق إجراءات العزل المنزلي، يستثنى من هذه القرارات مؤسسات الحكم والشركات ذات الإنتاج المستمر وجميع الخدمات الأساسية والمستشفيات والمحال الغذائية والصيدليات.

وأعلن بوتين منح رؤساء الأقاليم الروسية صلاحيات موسعة، مطالبا إياهم بإعداد حزمة الإجراءات الواجب اتخاذها لمنع تفشي كورونا نظرا للوضع الوبائي في مناطقهم، ويندرج ضمن بالدرجة الأولى إقامة نظام خاص بتحركات المواطنين ووسائل النقل، بالإضافة إلى تحديد قوائم المؤسسات والمنشآت التي ستواصل العمل خلال العطلة الاضطرارية.

وذكر الرئيس الروسي أن مندوبيه سيتولون العمل على تنسيق الإجراءات المضادة لـ”كوفيد-19″ في جميع أقاليم البلاد، عبر لجنة التنسيق الخاصة التابعة لمجلس الوزراء، مشددا على ضرورة تنسيق التدابير التي تتخذها السلطات المحلية مع توجيهات الجهات الصحية والوبائية المختصة.

إقالة.. أم استقالة؟! كيف يدير بوتين المشهد؟!

تتصاعد الأحداث بشكل متسارع وغير متوقع كما لم يسبق لنا من قبل أن نراه. وعلى الرغم من الطريقة التي ينفجر بها الشريط الإخباري في ثاني مرة يظهر بها بوتين خلال فترة زمنية قصيرة، للحديث عن مستجدات انتشار الفيروس في بلاده. إلا أن هذه المرة انفجر الشريط بالفعل ولكن جلب مع انفجاره أنباء جديدة لم تكن متوقعة، لم تكتف فقط بالإعلان عن توقيع الغرامات المالية على المخالفين لقرارات العزل المنزلي، ولكن تعدتها إلى ما هو أبعد من ذلك. وفي ساعات قليلة بعد الخطاب الثاني لبوتين، ظهرت أنباء استقالة إيجور أورلوف رئيس منطقة أرخانجيليسك، وسيرجي جابليكوف رئيس جمهورية كومي. وبالفعل قَبِل الرئيس بوتين استقالتهما وعين بديلين مؤقتين لهما.

تجدر الإشارة في هذا السياق، أن عدد مصابي فيروس كورونا المستجد قد ارتفع بشكل حاد في منطقة كومي خلال الأيام الأخيرة حتى وصل الى 56 حالة. مما دفع جابليكوف رئيس جمهورية كومي الى الظهور في رسالة مصورة والإعلان عن استقالته من منصبه – بشكل اختياري- بدون أن يبدي أسبابا للإستقالة واكتفى فقط بأن أشار إلى أن هذه الإستقالة تأتي بالتزامن مع ظروف محفوفة بالمخاطر.

وعلى الرغم من أن المسئولين المذكورين لم يعترفا -علانية- بتعرضهما لأي ضغط لاعلان استقالتهما من مناصبهما في هذه الظروف الحرجة، إلا أن الطريقة التي يُدار بها المشهد الداخلي في روسيا هذه المرة لاتزال مألوفة وغير بعيدة عن الأذهان.

 ففي وقت قريب استقال ديميتري ميدفيدف رئيس وزراء روسيا لسنوات متتالية، وظهر فجأة مرشح آخر قوي لمقعد رئيس الوزراء. وكان جليًا كيف فسر الجميع رغبة بوتين في تغيير الحكومة واستبدالها بأخرى، وما تلى ذلك من الحديث عن تعديلات دستورية. وبمعنى آخر، المقصود هنا هو أن هذه هي نفس الطريقة التي يُدير من خلالها بوتين المشهد الداخلي في بلاده، خاصة عندما يرغب بإزاحة مسئول ما عن موقعه، إنه عادة ما لا يقيل ولكنهم من يستقيلون أو على الأقل هكذا تبدو الأمور.

ولكن بوتين هذه المرة لم يقيل الرجلين بسبب التعديلات الدستورية ورغباته في التغيير كما حدث في مواقف سالفة الذكر، ولكنه فقط يريد أن يبعث بعدة رسائل للداخل الروسي. بحيث يرغب بوتين كعادته في أن يبدو بمشهد الرجل القوي الواثق من الفوز، حتى لو كان العدو هذه المرة كائن غير مرئي وغير ملموس، فهو يرفض الظهور في مشهد المستسلم. وهكذا نرى كيف يتصرف في حالة اضطراره الى الخروج على شعبه حتى يعلن عليهم كيف أن الفيروس يخرج بالفعل عن السيطرة من ناحية، فهو من ناحية أخرى سوف يعلن  –  وفي نفس اللحظة- عن خطوات لها دلالات تؤكد احكامه السيطرة تمامًا داخل البلاد.

والدليل على ذلك، أنه لن يقبل أبدًا أن يكون هناك أي تهاون من قبل أي مسئول فيما يتعلق باجراءات مواجهة فيروس كورونا، وعن هؤلاء المستبعدين فيرى بوتين أنهم بالفعل –مقصرون- إذا ما المانع من تسديد ضربة مزدوجة ومعاقبتهم من ناحية، ومن ناحية اخرى اتخاذهم بمثابة – العصا- التي يلوح بها أمام بقية المسئولين، وفي نفس الوقت، يبعت بوتين بهذه الطريقة لمواطني بلاده رسالة طمأنينة مضمونها، “أن الرئيس لن يتهاون في حماية أمن وسلامة شعبه”.  

كيف تأهب الاقتصاد الروسي لمواجهة متغيرات فيروس كورونا؟!

يواجه الإقتصاد الروسي في الوقت الحالي، تحديين رئيسيين، أولهما جائحة انتشار فيروس كورونا وما صاحبها من متغيرات، وثانيهما التقلب في أسعار الطاقة وأسواق الأسهم.

وترتب على ذلك، أن بدأت الحكومة الروسية تتخذ عدة اجراءات استباقية من شأنها أن تقلل من حدة تأثيرات هذه الأزمة على النظام المالي في روسيا. وفي هذا السياق، وافقت الحكومة الروسية على خطة الإجراءات ذات الأولوية لضمان التنمية المستدامة، ما أعلن البنك المركزي الروسي عن حزمة كاملة من الإجراءات لدعم المواطنين والاقتصاد الروسي على حد سواء، بما يكمل ويعزز من الإجراءات الحكومية. بحيث تعمل الحكومة الروسية مع البنك المركزي على التوصل الى حلول بشأن مهمتين مترابطتين، أولهما منع انخفاض حدة الإقتراض للقطاع الإقتصادي، وثانيهما دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة.

وكان ميخائيل ميشوستين، رئيس الوزراء الروسي، قد صرح خلال اجتماع حكومي له بشأن الأوضاع الإقتصادية، أن الحكومة تراقب ترتيبات الإنتقال الى وضعية العمل عن بعد، محذرا الشركات من فصل العاملين لديها.

 وأكد أن من يُقدم على استغلال الأوضاع الحالية لفصل موظفيه، فإنه سوف يتعرض لفحوصات من قِبَل مفتشية العمل، ودائرة الضرائب الفيدرالية ومكتب المدعي العام، كما حذر كذلك أرباب العمل من تأخير إصدار الرواتب. ولكن كل هذه التحركات على الرغم من جودتها، لا تزال تفتقر الى تقديم الحماية والدعم لفئات كثيرة متضررة عبر البلاد. من ضمنها، وكالات السفر والفنادق الصغيرة ومصففي الشعر وغيرها. فضلاً عن رجال الأعمال، وهي الشريحة التي تختبر اليوم ما يمكن أن يُطلق عليه كارثة علانية بفعل ما يحدث حول البلاد.

ولهذا السبب وجهت هذه الفئة تحديدًا دعاوى للحكومة الروسية، يحثونها من خلالها على نقل البلاد الى وضع الطوارئ. وفي رأيهم، سوف يكون هذا الوضع قادرا على انقاذ الشركات الصغرى والمتوسطة من الدمار. وذلك، لأن هذه الشركات تعجز اليوم بفعل الظروف القهرية من الوفاء بالتزاماتها في التوقيتات المتفق عليها مسبقًا، مما يعرضها الى الخطر التقاضي أمام المحاكم ودفع تعويضات كبرى لعملائها المتضررين.

والمحاكم الروسية في هذه الحالة لا يمكن أن تعترف بعدم قدرة الشركة على الوفاء بالعقد نظرًا، لأن ما يجري في البلاد من الناحية القانونية إلا بعد –الإعلان الرسمي- عن وضع الطوارئ. وعندها فقط ستعترف المحكمة أن العقد تم انهاؤه أو تعطيله بفعل ظروف قهرية، ولكن حى هذه اللحظة تواجه هذه الشركات مشكلات جمة، إذ أنها ستتحمل وحدها عواقب الكارثة. مما يعني أن رجال الأعمال الروس قد يضطرون الى الحصول على قروض طويلة الأمد لأجل الوفاء بالتزماتهم المالية بعد الإنتهاء من الأزمة.

ومن المرجح أن تنتقل الحكومة الروسية للإعلان عن دخول البلاد في وضع الطوارئ، خاصة وأن مجلس الدوما كانت قد تبنى –في وقتِ قريب- مرسومًا يمكن الحكومة من خلاله الإعلان عن هذا النظام، نظرًا لقائمة طويلة من الأسباب التي يأتي من ضمنها، أنتشار مرض يشكل خطرًا على حياة المواطنين، كما هو الحال في الوقت الراهن.

فيروس كورونا وانعكاساته على التحركات الروسية

على الصعيد الداخلي، روسيا في هذا الأمر شأنها، شأن سائر بلدان العالم، فقد تسبب انتشار الفيروس في إلغاء جميع العناوين السياسية تقريبا من على أجندتها الداخلية والخارجية، ولم يبق شيء ليتم مناقشته سوى تفشي الجائحة وكيفية مجابهاتها.

وعلى الرغم من أن روسيا تعتبر من أولى البلدان التي اتخذت اجراءات احترازية مبكرة لمواجهة تفشي الفيروس، مثل اغلاق الحدود الروسية مع الصين، والحد من عدد الرحلات الجوية بين البلدين بالإضافة الى فرض قيود على المواطنين الصينيين الذين يحتمل أن يكونوا حاملين للعدوى. لكن مع ذلك، تظل روسيا بالنسبة للكثيرين دولة متأخرة في اللحاق بركب العزل المنزلي وفرض قيود عامة على حركة المواطنين على غرار ما فعلته الكثير من الدول حول العالم، والتي كانت تسارع لأجل محاولة وقف أو ابطاء تفشي الفيروس لديها.

كما تم اتخاذ القرار الصعب، الذي حاولت موسكو جاهدة عدم اتخاذه بقدر المستطاع، وهو تأجيل التصويت على التعديلات الدستورية في إطار الإجراءات الإحترازية. كما أننا خلال الأزمة، رأينا مسئولون روس تركوا مناصبهم، رأينا آخرون سطع نجمهم، مثل رئيس بلدية موسكو سيرجي سوبانين الذي بدا اسمه في صدارة المسئولون المحليون اللذين يتخذون الإجراءات السليمة في سبيل مواجهة الفيروس.

وعلى الصعيد الخارجي، بوتين لم يخرج عن إطار السياسي المحنك، الذي يسعى جاهدًا لإستغلال كل فرصة –حتى لو كانت جائحة- لأجل تحقيق منافع خاصة لبلاده. فقد دعا بوتين الى التخلي عن العقوبات الدولية لأجل تيسير الإمداد المتبادل للأدوية والغذاء والمعدات والتكنولوجيا.

ويرى بوتين أنه ينبغي في الوقت الراهن الإنصراف عن الدواعي السياسية وراء فرض العقوبات الدولية، والتركيز فقط على القضايا الإنسانية وكل ما يمكن وصفه بكلمة “مسألة حياة أو موت”. كإشارة الى الرغبة الروسية في وقف العقوبات الإقتصادية المفروضة ضدها منذ أزمة ضم شبه جزيرة القرم في 2014. وعليه، يظل تفشي الفيروس بمثابة اختبار حقيقي، لمدى كفاءة وفاعلية مؤسسات السلطة ونظام الحكم، الذي بناه بوتين.

وفي هذا السياق، تجدر الإشارة الى أن النظام الروسي قد نجح خلال السنوات الأخيرة في التكيف تقريبًا مع كافة التهديدات الخارجية والداخلية التي واجهته. فقد نجح في إعادة هيكلة الإقتصاد الوطني وجعله أكثر مقاومة للعقوبات، واتبع سياسة خارجية أكثر حزمًا على الساحة الدولية، وأطلق برنامج وطني لتحسين مستويا المعيشة.

لكن تظل مشكلة مواجهة فيروس كورونا، بالنسبة لروسيا شأنها في ذلك كشأن سائر دول العالم، تمثل التحدي الحقيقي والمفاجئ والذي سوف يسمح لنا مع الوقت باكتشاف من هو الشخص الحقيقي الذي كان الأكثر قدرة على التكيف والملائمة واستغلال الأزمة لأجل اثبات قدرته الناجحة على قيادة بلاده بنجاح.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

داليا يسري

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى