تركيا

يوم ثارت تركيا على الإسلاميين.. قصة النسخة الأولى من أردوغان

المشهد التركي المحتقن على إخفاقات المشروع التركي في صناعة ولايات عثمانية داخل سوريا والعراق وليبيا، أو منافسة الدور الإقليمي المصري، إضافة الى تفشى وباء كورونا وترنح الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي، ينبئ بأحداث سبق وان شهدتها تركيا في القرن العشرين وتحديدًا ما بين عامي 1950 و1960.

في هذا العقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية الوافد الجديد للشرق الأوسط تبحث عن حلفاء لها، ومثلما جرى في الربيع العربي كانت التيارات الإسلامية جاهزة لتلعب الدور الأمريكي المطلوب منها، وكان هنالك وكلاء إقليميون لأمريكا يمكن الاعتماد عليهم، فكان الحلف العسكري الذي نعرفه اليوم بحلف بغداد.

وكان الغرض وقتذاك هو إقامة تحالف عسكري في الشرق الأوسط، يكون أمريكي الهوى ضد التمدد الشيوعي الذي يرعاه الاتحاد السوفيتي، وضد توسع حلف وارسو النظير السوفيتي لحلف الناتو الأمريكي – الأوروبي.

أعضاء هذا الحلف هم تركيا وإيران وباكستان والعراق، بالإضافة الى بريطانيا نائبة عن دول حلف الناتو، في هذا الزمن كان الإسلاميون هم من يحكمون تركيا عبر رئيس الوزراء عدنان مندريس، ورئيس الجمهورية محمود جلال بايار، علمًا بأن الدستور التركي وقتذاك يعطي الصلاحيات الحاكمة لرئيس الوزراء على حساب رئيس الجمهورية، أي ان رئيس الوزراء هو الحاكم الفعلي لتركيا.

مندريس وبايار أسسا الحزب الديموقراطي التركي في 27 يناير 1946، وفي الانتخابات التركية العامة في 14 مايو 1950 ظفر الحزب الديمقراطي الإسلامي المحافظ بالأغلبية، فانتخب البرلمان بايار رئيسًا للجمهورية ومندريس رئيسًا للوزراء.

مهندس ضم تركيا إلى الناتو.. مؤيد العدوان الثلاثي على مصر

هرول إسلاميو تركيا الى أمريكا، وهندس مندريس عملية دخول تركيا الى حلف الناتو، ثم وضع يده بيد الحكومة البريطانية التي كانت تناصب مصر العداء وقتذاك على ضوء ثورة 23 يوليو 1952 وسعي مصر للظفر بالجلاء وخروج الاحتلال البريطاني من محافظات إقليم قناة السويس، ولما قام العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وكانت بريطانيا في مقدمة العدوان، كان مندريس من أهم مؤيدي العدوان، ولم ينسحب من حلف بغداد الذي تأسس عام 1955 رغم مطالبة العالم الإسلامي للدول الإسلامية الموجودة في الحلف بالانسحاب الفوري.

ويلاحظ انه حينما كان الغرب راضيًا عن حكومة إيران، كان الإسلاميون السنة يتحالفون مع شاه طهران دون أن نرى الخطاب التكفيري للشيعة، أو التصادمي مع إيران كما جرى لاحقًا.

جذور مطامع أردوغان في سوريا

خلال عام 1957 جرى صراع على سوريا شديد الشبه بما جرى خلال الربيع العربي، حيث كان الشيوعيون في سوريا قاب قوسين أو أدنى من الظفر بحكم سوريا، بينما أمريكا كانت ترفض ان يمدد الاتحاد السوفيتي نفوذه الى دمشق، ووضعت المخابرات البريطانية والامريكية مخططا ً لصناعة فوضى في لبنان والأردن عبر عناصر محسوبة على النظام السوري من أجل أن تتخذ تلك الفوضى ذريعة لقيام كلٍ من العراق وتركيا بغزو سوريا.

سال لعاب مندريس حيال سوريا وشمالها تحديدًا، تمامًا كما يفعل الإسلاميون في تركيا اليوم بقيادة رجب طيب أردوغان، ووضع مندريس يده في يد النظام الملكي في العراق، ورجله القوى نوري السعيد صاحب الفكر القومي العربي، رغم أن التيار الإسلامي كان في حالة حرب مع هذا التيار في مصر وسوريا، ولكن حينما يكون العروبي مواليًا للغرب يصبح صديقًا للإسلاميين، والعكس صحيح. فشلت المؤامرة بسبب تماسك الجبهة الداخلية السورية وتوحدها خلف هدف واحد الا وهو الوحدة العربية مع مصر.

وفي 14 يوليو 1958 قام الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم بثورة يوليو العراقية الشهيرة فأسقط النظام الملكي، وقام العراقيون بسحل وقتل نوري السعيد في الشارع وتمزيق جسده إربًا، منذ فجر هذا التاريخ أصبح حلف بغداد في ذمة التاريخ، وإن بقي صوريًا فحسب، ورغم أنه أصبح بلا فاعلية الا أن مندريس أشرف على عملية إعادة هيكلته ليصبح الحلف المركزي ونقل قيادته من بغداد العراقية الى انقرة التركية.

كان هذا إرث التجربة الأولى للإسلاميين في تركيا، تحالف مع إيران الشيعية و العراق الملكي الذى يقوده رجل قومي مثل نورى السعيد، مع بريطانيا في زمن العدوان الثلاثي ومع أمريكا في زمن المؤامرة الامريكية الأولى على دمشق ، قبلوا بانضمام تركيا إلى حلف الناتو، وحاولوا دحر نفوذ موسكو في الشرق الأوسط خدمة لأمريكا ، وضرب المشروع المصري للاستقلال عن الاملاءات الغربية بزعامة الرئيس جمال عبد الناصر بل والوقوف في وجه التيار القومي العربي اليساري برمته، وقبل بإرسال قوات تركية للقتال جنبًا إلى جنب مع الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب الكورية.

إملاءات أمريكية في الإصلاح الاقتصادي

رغم التجربة الثرية لمندريس على الصعيد الاقتصادي في تركيا، إلا أن اهتمامه بالتآمر على جيرانه العرب قد كلفه الكثير، فراح الاقتصاد التركي يتداعى، ولم يحاول أن يرضي طبقة الفلاحيين الذين صنعوا شعبيته، بل تفاجأ الجميع بعدنان مندريس يطبق أفكارًا رأسمالية بإملاءات أمريكية للإصلاح الزراعي أدت الى فوضى اقتصادية ومالية.

كان أول المستفيدين من الإصلاح الزراعي هم كبار ملاك الأراضي والفلاحين من أصحاب الملكيات الزراعية المتوسطة، أما الفلاحون الفقراء فقد ازدادوا فقرًا لعجزهم عن شراء الأسمدة ودفع أجور الجرارات الزراعية، كما أن إعطاء الحرية الكاملة للقطاع الصناعي أوقع تركيا في حالة تضخم نقدي، ففي عام ١٩٥٥، أصبحت الخزينة التركية خالية الوفاض من النقد الأجنبي، ولم تتمكن الدولة الوفاء بديونها الخارجية.

على ضوء ارتفاع الأسعار ارتفعت الأصوات المطالبة باستقالة رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، فقرر الإسلاميون الأتراك كبح الحريات، في خطوة غير معتادة على المجتمع التركي الذي اعتاد على المساحة التي صنعها الزعيم المؤسس مصطفى كمال أتاتورك.

وأمام الغليان الشعبي، قام رئيس الجمهورية السابق عصمت إينونو رئيس حزب الشعب الجمهوري، الذى أسسه اتاتورك و يعتبر الى اليوم معقل تياره السياسي ، بالدعوة إلى التظاهرات وإسقاط نظام الحزب الديموقراطي ، وبالفعل انطلقت الثورة وسادت الفوضى شوارع تركيا ، وأمام انزلاق البلاد الى هوة التفكيك قام الجيش التركي في 27 مايو 1960 بالانحياز للشعب وثورته ، حيث قام بعزل محمود جلال بايار رئيس الجمهورية وعدنان مندريس رئيس الوزراء ، و ترأس الدولة قائد الجيش الجنرال جمال كورسل الذى جمع بين مناصب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ووزير الدفاع لحين إجراء الانتخابات البرلمانية .

وفي عام 1961 عقدت الانتخابات البرلمانية وفاز حزب الشعب الجمهوري بالأغلبية ما مكن رئيس الجمهورية الأسبق ورئيس الحزب عصمت اينونو من ترؤس الوزارة التركية.

إعدام النسخة الأولى من أردوغان

تم اعتقال كافة أعضاء الوزارة الإسلامية، حيث انتحر وزير الداخلية نامق جيداك، بينما حصل رئيس الجمهورية على عفو صحي عام 1964، وتوفى عام 1986 عن عمر يناهز 104 عامًا، أما عدنان مندريس رئيس الوزراء وفطين زورلو روستو وزير الخارجية إضافة الى حسن بولاتكان وزير الداخلية فقد حكم عليهم بالإعدام شنقًا بتهمة الخيانة العظمي ونفذ الحكم في سبتمبر 1961.

شكل سقوط التجربة الأولى للإسلاميين في تركيا غصة في حلق الإسلاميين حتى اليوم، ولم يتركوا مناسبة إلا وأنكروا أن ما جرى في تركيا عام 1960 كان ثورة وادعوا أنه انقلاب عسكري خالص، وأن التيار القومي الأتاتوركي تآمر مع الغرب رغم سجل عدنان مندريس الحافل في خدمة المشاريع الإمبريالية الأمريكية والبريطانية، والحفاظ على أمن دولة إسرائيل وتمشيط الشرق الأوسط من النفوذ السوفيتي، وجرى كل هذا على حساب أمن واستقلال وسلامة مصر وسوريا والعراق ولبنان بل وحتى تركيا.

+ posts

باحث سياسي

إيهاب عمر

باحث سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى