كورونا

“أردوغان وكورونا”.. مدخل لفهم جمهورية الصمت العثماني

تشكل معالجة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لملف وباء كورونا خير مدخل لفهم عقلية تيار العثمانيين الجدد، التيار الإسلامي الحاكم في تركيا منذ عام 2002 لليوم.

استيقظ الاتراك على خبر إقالة وزير النقل “محمد جاهد تورهان”، وتعيين “عادل كارا إسماعيل أوغلو” بدلاً منه، وحمل قرار الإقالة توقيع الرئيس التركي دون أن يقدم الإعلام الرسمي تفاصيل إضافية.

تورهان كان الساعد الأيمن لأردوغان في مجلس الوزراء، ويشكل هذا القرار وطريقة إخراجه أحدث حلقة من حلقات “الغدر السياسي” للرئيس التركي بحلفائه، الذي دأب على التخلص من أصدقائه ورفقائه في حزب العدالة والتنمية، خاصة الرعيل المؤسس لحزب العدالة والتنمية الذراع الحزبي لتنظيم الاخوان الدولي في تركيا، وعلى رأسهم عبد الله جول واحمد داود اوغلو، والأخير كان المنظر الأيديولوجي للإسلاميين الاتراك ومبتكر مصطلح العثمانيين الجدد وبروباجندا عودة الخلافة العثمانية عام 2023.

ولم يتوقف غدر أردوغان على رجالات حزبه، خشية أن ينافسوه على الزعامة، بل امتد إلى حلفائه الإسلاميين، مثل الزعيم الإسلامي التركي فتح الله كولن، إضافة إلى أستاذه وأستاذ العثمانيين الجدد رئيس الوزراء الأسبق نجم الدين اربكان.

خيانة والغدر مفتاح لفهم عقلية أردوغان

“خيانة الصديق” ركن أساسي ومن أهم مفاتيح فهم شخصية أردوغان، فهو الذي تحالف لسنوات مع الرئيس السوري بشار الأسد، والضيف الدائم على القاهرة لطلب دعم الرئيس الراحل حسني مبارك (1928-2020) فيما يتعلق بملف الأكراد والصراع التركي اليوناني، إضافة الى القائد الليبي الراحل معمر القذافي، حيث أهداه الأخير جائزة القذافي لحقوق الانسان أرفع أوسمة الجماهيرية الليبية وذلك عام 2010 قبل بضعة أشهر فحسب من انضمام أردوغان إلى المخطط الدولي لإسقاط الجماهيرية الليبية.

في سنوات الربيع العربي كان أردوغان أول من طعن الإدارة المصرية في يناير 2011 والسورية والليبية في مارس 2011.

تورهان”وزير النقل المقال” كان دائماً ما يشكك في نقل جسري دورسكوي وأوداباشي التاريخيين، ضمن أعمال مشروع قناة إسطنبول، وهو المشروع الذي أعلن عنه أردوغان بالقول أن قناة إسطنبول سوف تتفوق على قناة السويس وذلك عقب إعلان إفتتاح الملاحة التجارية بقناة السويس المصرية الثانية وبدأ اهتمام الاقتصاد العالمي بالمناطق الاقتصادية في محور قناة السويس.

وكانت رؤية المعترضين على مشروع قناة إسطنبول هو أن الملاحة التجارية في المضايق التركية ليست بحاجة إلى توسيع للقناة القديمة فلا يوجد إقبال كافي، وأن مشروع أردوغان يهدر ملايين الليرة التركية لمجرد منافسة مشاريع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وهي استراتيجية لازمت الرئيس التركي منذ صعود الرئيس المصري لسدة الحكم صيف 2014.

دولة السمع والطاعة.. تركيا العلمانية سابقاً

ورغم أن تركيا شهدت من قبل عدداً من أنماط الحكم المختلفة، ولكن ظلت القيم الليبرالية هي السائدة على اعتبار أن الدستور ينص على علمانية الجمهورية التركية، ولكن في سنوات أردوغان، أسدل الأخير ستار الصمت على المجتمع التركي، وأصبغ فئات المجتمع التركي بأفكاره وتوجهاته فحسب، دون الحفاظ على التنوع المجتمعي الذي يعتبر ركيزة أساسية من حيوية أي دولة في العالم.

من غير المسموح الحديث عن مغامرات العثمانيين الجدد الفاشلة في سوريا والعراق واليمن وليبيا، وكيف أنهكت الاقتصاد التركي وجعلته أسوأ مما تسلمه أردوغان، أو كيف سقطت الليرة أمام الدولار الأمريكي في حرب العملات التي يتسلى بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كلما خالفه أردوغان في أبسط تفاصيل الملف السوري.

مع القضاء على حرية الإعلام والصحافة واستقلال القضاء وأسلمة كل ما سبق، مع حجب دائم لوسائل التواصل الاجتماعي كلما اشتد النقاش المجتمعي، حتى أصبح هذا القرار طقس موسمي في تركيا، وضياع حلم التحاق تركيا بثورة الغاز في شرق المتوسط بعد أن فشلت أنقرة حتى اليوم في اكتشاف بئر واحد في مياها الإقليمية، فإن اغتيال القيم الدستورية للجمهورية التركية كان أبرز محطات جمهورية الصمت العثماني.

انتخابات مشبوهة ودستور ممزق

ينص الدستور التركي على أن رئيس الجمهورية لا يحتفظ بانتمائه الحزبي حال انتخابه، وعليه أن يستقيل من الحزب، وحينما انتخب أردوغان للرئاسة عام 2014، قدم استقالته من الحزب بشكل صوري، ولكنه خالف الدستور التركي وظل يحكم الحزب عملياً.

ليس هذا فحسب، ولكن ينص الدستور التركي على أن رئيس الوزراء وليس رئيس الجمهورية هو الذي يرأس مجلس الوزراء، ولكن أن يترأس رئيس الجمهورية أردوغان مجلس الوزراء بحضور رئيس الوزراء “أحمد داود أوغلو ثم على يلدريم” كان خرقاً مباشراً للدستور.

لاحقاً نسف أردوغان هذا الدستور، باستفتاء شعبي على دستور إخواني في 16 أبريل 2017، كرس السلطة ودمج صلاحيات رئيس الوزراء ورئيس البرلمان وبعض صلاحيات رئيس المحكمة الدستورية مع صلاحيات رئيس الجمهورية، ليصبح أردوغان صاحب الحكم المطلق في الأناضول.

الملاحظ هنا في جمهورية الصمت العثماني أن كافة الأصوات التي عارضت تغيير الدستور لم يعد لها مكان في المشهد الصحفي والإعلامي التركي، وأن حرب الإلغاء التي شنها أردوغان بحق حرية التعبير في تركيا قد امتدت لغلق الصحف بشكل جماعي دون أن تقدم الحكومة التركية أي تفسيرات تماما كما فعلت يوم أقال أردوغان وزير النقل وساعده الأيمن.

وفى 7 يونيو 2015 جرت الانتخابات البرلمانية التركية وخسر حزب العدالة والتنمية الأغلبية البرلمانية، وبحسب الدستور التركي كان يجب على أردوغان تكليف أحد رؤساء الأحزاب التركية بوزارة ائتلافية أو التوسط لحل الخلافات، ولكن أردوغان لم يقم بدوره الدستوري ووقف متفرجاً حتى تدخل البلاد في أزمة سياسية وعلى أثرها يذهب إلى إعادة الانتخابات في 1 نوفمبر 2015 ليظفر حزبه بالأغلبية اللازمة.

ولكن الملاحظ ما بين 7 يونيو و1 نوفمبر 2015 هو اهتمام “تنظيم داعش” بغتة بالعمل جنوب تركيا خاصة المناطق الكردية، ما جعل إقامة انتخابات نوفمبر 2015 امراً صعباً في هذا المناطق.

وبالتالي فأن عشرات المناطق التي كانت تصوت ضد حزب أردوغان لم تشارك في انتخابات الإعادة بحجة أنها مناطق توتر وهكذا استرد حزب أردوغان الأغلبية التي خسرها في يونيو 2015.

يوم جاءت كورونا لبلاد الأناضول

C:\Users\hesham\Desktop\corona.jpg

ومنذ اللحظة الأولى لتفشى وباء كورونا عالمياً وهنالك علامة استفهام فيما يتعلق بتركيا، على ضوء الرحلات الدبلوماسية والسياحية التي لا تنتهي بين تركيا وإيران التي تعد المصدر الأول للوباء إلى دول الخليج العربي والجوار الإيراني، أو حقيقة أن تركيا دولة سياحية استقبلت سياح من كافة الدول المصابة بالوباء، إضافة الى الحدود المفتوحة مع سوريا.

ولقد أصبحت قاعدة عامة لدي خبراء الإعلام في الشرق الأوسط، أنه كلما صدحت القنوات الإخوانية المصرية التي يأويها النظام التركي على أرضه – بأموال قطرية وبأموال الناخب ودافع الضرائب التركي – ضد الحكومة المصرية في قضية ما، فهذا لا يعني إلا أن الحكومة التركية تعاني من هذا الشأن وتحاول اتهام القاهرة به.

وبدلاً من أن تصدر الرئاسة أو الحكومة التركية أي تدابير احترازية، كان هم أردوغان الأول طيلة يناير وفبراير ومنتصف مارس 2020، هو اتهام مصر بأنها تخفي أرقام المصابين والوفيات حيال كورونا، وما أن انتصف شهر مارس 2020 حتى انهار جدار الصمت في جمهورية العثمانيين الجدد وبدأت أرقام كورونا التركية تظهر، وهى أرقام من الصعب أن تكون وليدة يوم وليلة ولكن أبسط حسبة رياضية تشير بجلاء أن تركيا لم تعد قادرة على إخفاء الحقيقة على منظمة الصحة العالمية والمجتمع الدولي وبدأت في إخراج الأرقام الحقيقة بشكل متدرج.

يتغنى مؤيدي أردوغان بتجربته الاقتصادية، التي أهدرها لاحقا، عبر انفاق المليارات في حروب أوهام الإمبراطورية في اليمن وسوريا والعراق وليبيا ولبنان، ومحاولات صناعة أنظمة موالية لأنقرة في مصر وتونس والمغرب، وميزانيات مفتوحة دعماً لقنوات وحركات سياسية وإرهابية ضد الدولة المصرية، تعيش بحرية وبذخ في أكبر المدن التركية، وحرب العملات الهزلية مع أمريكا وروسيا وأوروبا في نفس الوقت.

بينما الشعب التركي يعاني من ستار الصمت وينهش الوباء العالمي في المدن التركية دون أن يفكر أردوغان في التعاون مع منظمة الصحة العالمية أو يعلن أرقام تركيا الحقيقة من أجل الحصول على دعم دولي، ولكن بدلاً من ذلك يواصل أردوغان محاولة لعب دور السلطان العثماني ويرسل مساعدات إلى دول أوروبية في محاولة للحفاظ على صورته الهشة أمام أنصاره.

إيهاب عمر

باحث سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى