
التداعيات الاجتماعية لـ “كوفيد 19” على السلوك البشري
تستمد الأسرة مرجعتيها في حياة الأفراد، من المنظومة الثقافية والدينية للمجتمعات الشرقية والغربية، مثل المجتمع الإسباني، الذي واجه الأزمات معتمدًا على الأسرة والتضامن العائلي والأجتماعي المستمد من قيم الكنيسة الكاثوليكية، لمواجهة الأزمة الاقتصادية والمالية الأخيرة التي عصفت بمجتمعات عدة في العالم.
لكن ما يحدث اليوم في إيطاليا وإسبانيا المركز الروحي لكاثوليك العالم وكثيرًا من الدول الاوروبية، من مشاهد “شاحنات الموت” التي تزحف وتنتشر على أحياء بلداتها التاريخية وعلى دور المسنين والمستشفيات والمنازل، تثير أسئلة متصاعدة ومضطربة حول حقيقة ما يحدث في ظل وباء كورونا وتداعياته المستقبلية على حياة الناس والعلاقات بين أفراد الأسرة وانعكاسات ذلك على التكوين المجتمعي للدول، سواء في المجتمعات المسلمة أو الغربية ذات الخلفية الدينية المسيحية واليهودية أو مجتمعات شرق آسيا ذات الخلفية الثقافية الكونفوشيوسية.
هل كبار السن الحلقة الأضعف في المجتمع؟
تفيد إحصاءات عديدة سواء من منظمة الصحة العالمية أو منظمات أوروبية حكومية وخاصة أن نسبة الوفيات بفيروس كورونا في البلدان الأوروبية هم من كبار السن، بمعدل يفوق 90 %.
ويشير بعض الخبراء، في تقرير علمي نشرته صحيفة “كوريرا دي لاسيرا” الإيطالية في عددها يوم 25 مارس الماضي، إن من أسباب ارتفاع أعداد الوفيات بسبب فيروس كورونا في إسبانيا وإيطاليا (8,6 %) مقارنة بألمانيا (0,3%) وحتى قياسا للمعدل العالمي 4 %، ليس فقط التفاوت في أداء المنظومات الصحية، ومدى استجابة المواطنين لنداءات الحكومة بضرورة اتباع الارشادات التي من شأنها الحد من تفشي الفيروس وهذا مؤكد أيضًا، بل أعداد المسنين في الدولة ونظام رعايتهم وطبيعة العلاقات الاجتماعية بين افراد الاسرة الواحدة وطبيعة عادات الافراد الاجتماعية.
ففي إيطاليا وإسبانيا تعيش نسبة كبيرة من المسنين مع عائلاتهم في منزل واحد وتعتمد عليهم في رعاية الأطفال ومرافقتهم إلى المدارس أو الأماكن العامة، الأمر الذي زاد من معدلات الاختلاط بين الاجيال الشابة والناشئة مما أدى في النهاية الى رفع حالات الإصابة والوفيات نتيجة تعرضهم للعدوى من الأبناء أو من الأحفاد.
وهذا يقود إلى الاستنتاج الآتي “بأن المجتمعات تتمكن بصرامة في تطبيق قاعدتي فصل كبار السن عن الصغار والتباعد الاجتماعي بين أفراد الأسرة المجتمع، ستكون لها مقومات نجاح أكبر في مواجهة تفشي فيروس كورونا المستجد والحيلولة دون تشكل بؤر وبائية أفقية متزايدة داخل البيوت والأحياء السكنية أو حتى داخل دور رعاية المسنين والتي لا تلقى الرعاية الكافية في الأحوال الطبيعية.
تداعيات ذلك على القيم الاجتماعية في الدول الغربية
اعتمدت الصين في مواجهتها للوباء التي هي بالأساس قائمة على إجراءات الحجر الصحي العام على عنصري قيم الطاعة والانضباط الاجتماعي مع قوة الدولة وصرامة نظامها السياسي والأمني، وهذا ما قلل من معدل تفشي المرض في الدولة، ولكن، أداء النظام بفروعه الصحية والإدارية والسياسية والاجتماعية في الدول الغربية مختلف ويميل في معظمه إلى العجز في مواجهة الوباء، بالإضافة الى اختلاف طبيعة القيم والعادات المجتمعية، ولذا أصبحت أوروبا بؤرة المرض الأولى عالميا وتشارف الولايات المتحدة أيضا على اللحاق بها وفقًا ما صرحت به منظمة الصحة العالمية.
والسبب الرئيسي هو تأرجح المجتمعات الغربية بين متطلبات الصرامة لفرض قواعد التباعد الاجتماعي وتقييد حرية التنقل والتجمع على غرار ما فعلته الصين، واعتياد هذه المجتمعات على أنماط الحياة الليبرالية الحرة بعيدا عن القيود، ويضاف إليها النزعة الفردية والنظام العائلي القائم على بنية أسرة صغيرة محدودة العدد.
وتحت وطأة انتشار الفيروس وتفشي رائحة الموت في انحاء المدن الإيطالية والإسبانية، دفعت محدودية موارد المنظومات الصحية الأطباءَ إلى سحب تجهيزات التنفس الاصطناعي ممن هم أكبر سنا، وبحسب وثيقة أعدتها وحدة إدارة الأزمة بمدينة تورينو وأصدرتها إدارة الحماية المدنية بإقليم بييمونت شمال إيطاليا، فإن مصابي فيروس كورونا المستجد البالغ عمرهم 80 عاماً فما فوق، أو من يعانون من مشاكل صحية كبيرة قد يحرمون من دخول الرعاية المركزة في حالة تزايد الضغط على المستشفيات.
وتضع هذه الوثيقة بروتوكولاً لتحديد المرضى الذين ستكون لديهم فرصة تلقي العلاج بالرعاية المركزة بسبب عدم كفاية الأماكن، حيث تقل سعة استيعاب وحدات الرعاية المركزة مع الانتشار الواسع لفيروس كورونا في إيطاليا
الحال في الدول العربية
تختلف قيمة الأسرة في المجتمعات العربية والمسلمة عن المجتمعات الغربية، حيث يتجاوز وضع الأسرة كونها نواة لكيان المجتمع، لتلعب وظيفة التآزر والتكافل والتكامل كأساس للنظام الاجتماعي والاقتصادي بل والسياسي في بعض الدول العربية، وتثير دعوة الحكومات العربية للناس إلى التزام البقاء في بيوتهم معادلة صعبة بالنسبة لوظيفة الأسرة حاليًا في مواجهة تفشي فيروس كورونا المستجد، ولمآلها في المستقبل.
وتختلف البنية الديموغرافية للدول العربية عن الغربية فمثلًا في بلدان شمال أفريقيا ذات الكثافة السكانية (مصر: 100 مليون نسمة، الجزائر: 43 مليون نسمة، المغرب: 40 مليون نسمة، تونس قرابة 12 مليون نسمة) تتسم بنيتها الديمغرافية بهيمنة الشباب، بخلاف المجتمعات الأوروبية، ويفترض أن يقلل هذا من نسبة مخاطر الوفيات بفيروس كورونا المسجلة في بلدان أوروبية.
بيد أن النظم الاجتماعية والدينية في البلدان العربية، تقوم على الترابط الواسع بين أفراد الأسرة الواحدة، بأجيالها الثلاثة أحيانا، الأجداد والأبناء والأحفاد، وفي ظل وجود نسبة ضئيلة من المسنين الذين يستفيدون من أنظمة الرعاية الاجتماعية ومحدودية أعداد دور الرعاية للمسنين في الدول العربية، فان أوضاعهم تظل مرتبطة بأسرهم، وهو ترابط لا تمليه فقط ميكانيزمات النظام الاجتماعي، بل تعززه منظومة قيم ثقافية ودينية.
ومن غير المرجح أن تؤدي إجراءات العزل الاجتماعي المتبعة في كثير من الدول العربية إلى نتائج ذات دلالة قوية فيما يتعلق بانتشار فيروس كورونا، خصوصا في الأحياء السكنية الفقيرة التي تتسم بكثافة سكانية عالية، وتكمن المعضلة الكبيرة هنا في ضعف التغطية الصحية لكبار السن والمواطنين بصفه عامة في العديد من الدول العربية ذات الدخل المنخفض خاصة تلك الدول المتأثرة بالحروب الأهلية والهجمات الارهابية.
لذلك يراهن مسؤولي قطاعات الصحة على تكثيف وسائل الوقاية من الفيروس، من أجل الإبقاء على معدل غير مرتفع من المصابين يتلاءم مع قدرات المنظومة الصحية، فيما يعرف بمخطط “تسطيح المنحنى”، كسبيل لتفادي سيناريو مشابه لإيطاليا أو إسبانيا كما يحدث في جمهورية مصر العربية.
ويبقى التساؤل: ما هو حجم الاختلاف الواقع على النظم الاجتماعية لدول العالم بعد “كوفيد 12” فيروس كورونا المستجد؟
باحثة ببرنامج السياسات العامة