
كيف صمد اقتصاد مصر مع تداعيات فيروس كورونا المستجد على الأسواق العالمية؟
تتخذ دول العالم إجراءات اقتصادية جذرية باتجاه التيسير المالي وذلك لمواجهة الآثار الاقتصادية المُدمرة لجائحة كورونا، من بين أكبرها حزمة التحفيز المالي التي أعلنت عنها الإدارة الأمريكية من حزمة تحفيز اقتصادي بأكثر من 2 تريليون دولار تضخها في شرايين القطاعات المُتضررة وعلى رأسها الطيران المدني، وتجارة التجزئة، وصناعة السيارات وغيرها، كذلك عمد الفيدرالي الأمريكي إلى تخفيض مُعدلات الفائدة مرتين مُتتالين خلال شهر مارس بإجمالي 100 نقطة أساس، ما أبقاها عند مستوى 0.25%.
نفس الإجراءات اتخذت في أوروبا، وذلك على الرغم من أن المركزي الأوربي لم يُخفض أسعار الفائدة إلا أنه توسع في عمليات السوق المفتوحة بهدف توسيع عرض النقود، والداخل الألماني قدمت الحكومة حزمة مُساعدات بما يُقارب 750 مليار يورو، واكتفت الحكومة الفرنسية بنحو 45 مليار يورو.
كذلك أعلن وزير الخزانة البريطاني عن حزمة مُساعدات بنحو 350 مليار إسترليني منها 330 مليار تُقدم على هيئة قروض، كما خفض البنك المركزي البريطاني 150 نقطة أساس على مرحلتين في مارس، مما أبقى مُعدلات الفائدة عند مستوى 0.10%.
وفي الصين قام البنك المركزي بزيادة القروض المتاحة للبنوك بمقدار 500 مليار يوان (71 مليار دولار) وخفض الاحتياطي الإلزامي لها، مما وفر 550 مليار يوان للبنوك لضخها في السوق. تهدف جميع هذه الحزم على اختلاف مقدارها إلى مُساعدة الشركات والمؤسسات على الاحتفاظ بالعمالة وحثها على عدم تسريح موظفيها، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى ارتفاع مُعدلات البطالة وبالتالي انخفاض الدخل، الذي يصاحبه انخفاض في الإنفاق، فمزيد من الانكماش، وهي النتيجة التي تتحسب منها جميع الاقتصادات العالمية والمُنظمات الدولية، حيث إن انزلاق الاقتصاد العالمي إلى ركود قد يتحول بسرعة إلى انكماش لن يزول في المدى القريب إذا قد يستمر من ثلاثة إلى خمسة أرباع (سنة وثلاثة أشهر).
أدت هذه الإجراءات إلى خفض القوة الشرائية للعُملات الورقية بسبب زيادة المعروض منها في السوق في ظل ثبات المعروض من السلع، وقد كان الدولار الأمريكي من بين أبرز المُتأثرين فبعد ارتفاعه من أدنى مستوياته خلال العام عند 97.87 على مؤشر الدولار في التاسع من مارس الماضي إلى أعلى مستوياته خلال العام في العشرين من الذات الشهر إلى مستوى 103.5 نقطة، مُتأثر بالطلب الشديد عليه باعتباره ملاذ أمن في للاستثمار في ظل الانتشار الوبائي لكورونا وانسحاب الاستثمارات من الأسواق الناشئة. عاد ليتراجع من جديد إلى مستوى 99.6 نقطة خلال الأول من إبريل، ومن المتوقع في ظل تسارع ذات الإجراءات التحفيزية اتجاهه إلى مزيد من الانخفاضات.
اتجه اليورو إلى الانخفاض كذلك من أعلى مستوياته أمام الدولار عند 1.14 دولار لليورو، إلى 1.09 دولار، في الأول من إبريل، على العكس من ذلك ارتفعت أسعار السلع الغذائية الأساسية مثل القمح الأمريكي إلى مستويات 561.3 دولار للطن في الأول من إبريل، وذلك من مستويات 496 دولار في 16 من مارس.
برنامج الإصلاح يقي مصر تأثير الصدمة
هذه الارتفاعات في أسواق السلع العالمية تؤدي إلى رفع أسعار الغذاء في العالم وبخاصة في الدول النامية، والتي تواجه بالفعل أزمات حادة نتيجة لتفشي الوباء، ومن ثم من المتوقع أن تزيد مُعاناة هذه الدول كُلما امتدت الأزمة واتخذت الدول المُتقدمة مزيدًا من الإجراءات التحفيزية لدعم اقتصادها.
وتأتي مصر على رأس دول العالم النامي التي تعتمد على تأمين جزء من غذائها على الخارج، حيث تُعاني مصر في المُجمل من فجوة غذائية مُتنامية بسبب ارتفاع مُعدلات النمو السُكاني، وانحصار مساحة الأرض الزراعية، وتلجأ مصر إلى الأسواق الدولية لسد الفجوة بين العرض والطلب، وكُلما اتسعت هذه الفجوة تكلفت خزانة الدولة مزيدًا من النفقات، وارتفعت الضغوط على احتياطيات العُملة الصعبة المصرية.
ويأتي على رأس قائمة السلع الغذائية التي تستوردها مصر “القمح”، حيث بلغ الاستهلاك المصري منه في عام 2018 تقريبًا 21.3 مليون طن، أنتج منها محليًا 8.8 مليون طن، بالتالي وصل حجم المُستورد منه 12.5 مليون طن. يليه الذُرة التي اُستهلك منه تقريبًا 17.3 مليون طن، انتجت مصر منه 7.3 مليون طن، فيما بلغت الواردات 10 مليون طن، وقد استوردت مصر في المُجمل سلع غذائية في العام 2018 بما يُساوي 8.09 مليار دولار.
كان لا بد إذن أن تواجه مصر كغيرها من دول العالم النامي والمُتقدم أزمة غذائية طاحنة تؤدي إلى سحب جميع المعروض منها في السوق وأن تتصدر صور الأرفف الخاوية في متاجرها الصحف ووكالات الأنباء والقنوات الفضائية العالمية، لكن ذلك لم يحدث بفضل الاحتياطي الاستراتيجي المصري من السلع الأساسية والتي عملت مصر على مراكمته خلال سنوات الإصلاح الاقتصادي، ولعل المثل الأقرب إلى ذلك ما حدث من تطوير شامل لصوامع القمح والتي جرى تطوير القديم منها من ناحية والتوسع في إنشاء عدد كبير منها ليوفر لمصر شبكة حماية من الصدمات الاقتصادية والتي يشهد العالم واحدة من أسوأها على الإطلاق في ظل ضغوط كورونا، نجح الاقتصاد المصري إذن حتى الآن في الهروب من صدمة كارثية تعرض غذاء المصريين نفسه للخطر.
من جانب آخر أدت الانخفاضات في أسعار الفائدة التي بدأت البنوك المركزية في تنفيذها إلى خفض تكلفة الاقتراض وتقليل أسعار الفائدة، مما أدى من ناحية لانخفاض تكلفة خدمة الدين المصري في الوقت الحالي، وانخفاض أسعار الفائدة التي ستقترض بها مصر في المُستقبل وهو ما تجلى في انخفاض تكلفة التأمين على الديون السيادية لمصر أجل 5 سنوات بمُعدل 71 نقطة أساس لتصل إلى 579 نقطة في تداولات يوم الاثنين الماضي، مقابل 650 نقطة أساس الخميس الماضي.
هذه الصدمة التي يبدو حتى الآن أن الاقتصاد المصري يتفادى أشد أضرارها، كانت لتقضى على البلاد لولا التضحيات الضخمة التي بذلها الشعب المصري للتضامن مع قيادته في سبيل إنجاح برنامج الإصلاح الاقتصادي، رغم خفوت الأضواء الإعلامية المُسلطة على هذه التضحيات في الوقت الحاضر، إذ ما كان للبنك المركزي أن ينجح في رفع احتياطيه من العُملات الأجنبية لتوفير الاعتمادات اللازمة للحكومة لرفع احتياطيها الاستراتيجي من السلع الغذائية لولا هذا البرنامج وهذا التضامن.