كورونا

كورونا … الفشل الأمريكي الكامل

تستعيد هذه الأيام بعض الأوساط الأمريكية، خلال تحليلها لمستوى وتأثير رد فعل إدارة ترامب، حيال أزمة جائحة كورونا، ذكريات استحقاقات سابقة فشلت الولايات المتحدة فيها في مواكبة آثار الكوارث الطارئة، واتجهت بعض هذه الأوساط، إلى تشبيه الفشل في هذا الملف، بالفشل الأمريكي في معارك وأزمات عسكرية وسياسية وأمنية، مثل تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، والهجوم على قاعدة بيرل هاربر.

الفارق الأساسي هنا، يتعلق بأن جائحة كورونا قد ينتج عنها آلاف إن لم تكن عشرات آلاف من حالات الوفاة داخل الولايات المتحدة، وفي القواعد العسكرية الأمريكية خارجها، بجانب تأثيرات اقتصادية وجيوسياسية عميقة، قد تجبر الولايات المتحدة على دفع فواتير إقليمية ودولية قديمة، تعود إلى حقبة الحرب الباردة وما بعدها.

تحميل الإدارة الأمريكية، وتحديدًا الرئيس ترامب، المسؤولية الأساسية عن الفشل في التعامل مع هذه الجائحة، ربما يكون من البديهيات في مثل هذه الظروف، لكن هل بالفعل ترامب وحده المسؤول عن هذا الفشل، أم أن البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية للولايات المتحدة، وصلت إلى مرحلة مشابهة لما كان الحال عليه في الاتحاد السوفيتي، عشية انهياره وتفككه؟

الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية … المقارنة المؤلمة

المدخل الأساسي لقياس مدى الفشل الأمريكي في التعامل مع هذه الجائحة، ينبع من نتائج المقارنة بين تعامل واشنطن وسيول معها، خاصة وأن الحالات الأولي المصابة بهذه الجائحة على أراضيها، ظهرت في نفس اليوم، وهو 20 يناير الماضي. التناقض الصارخ بين نهجي البلدين حيال هذه الأزمة أظهر مدى الجدية التي تعاملت بها سيول، ومدى التراخي الذي شاب الإجراءات الأمريكية. الرد الأولي من واشنطن على ظهور الحالة الأولي لهذه الجائحة على أراضيها، تم بعد يومين من تشخيصها، وذلك عبر تصريح تلفزيوني للرئيس ترامب، قال فيه “لقد تمت السيطرة على الحالة الأولى التي تم اكتشافها، إنه شخص قادم من الصين، وسيكون على ما يرام”!

في نفس التوقيت، استدعت وكالة مكافحة الأمراض في كوريا الجنوبية، رؤساء نحو 20 شركة متخصصة في الأدوية والمستحضرات الطبية، وأبلغتهم ضرورة تطوير حزمة اختبار تشخيصي للكشف عن الفيروس، وبعد أسبوع من ذلك، تم البدء في إنتاج هذه الحزم، والدفع بها إلى الفرق الطبية، لتحديد الأفراد المصابين الذين يمكن بعد ذلك عزلهم لوقف تقدم المرض. والنتيجة كانت مبهرة، فبعد نحو 400 ألف اختبار، بدأ معدل الحالات الجديدة في التناقص باستمرار، حيث سجلت كوريا الجنوبية اليوم 78 حالة جديدة، من إجمالي نحو 9600 حالة تم تشخيصها حتى اليوم، تعافت منها خمسة آلاف حالة. الولايات المتحدة في المقابل، أصبحت الآن تحتل المركز الأول في إجمالي عدد الحالات المؤكد إصابتها بالفيروس، والذي تعدى 165 ألف حالة حتى اليوم.

استجابة إدارة ترامب للنصائح والمناشدات الطبية، التي بدأ إطلاقها في الداخل الأمريكي عقب اكتشاف حالة الإصابة الأولى، كانت بطيئة إلى حد بعيد، بما في ذلك النصائح الثمينة التي صاغها المسؤولون السابقون في وزارة الصحة الأمريكية، (سكوت جوتليب) و(لوسيانا بوريو)، في مقال لهما بصحيفة وول ستريت جورنال، بعد أسبوع واحد من تشخيص الإصابة الأولى، والتي كان أبرزها، ضرورة التنسيق الفوري مع القطاع الخاص، لإنتاج حزم اختبار تشخيصية، تتميز بالدقة وسهولة الاستخدام، وهو ما لم تستجب له إدارة ترامب، إلا في أواخر شهر فبراير الماضي، بعد نحو شهر ونصف من بدء تفشي الفيروس.

سلسلة الفشل الأمريكية في التعاطي مع كورونا

على الرغم من أن ترامب قرر في النهاية، السماح للمختبرات الخاصة والحكومية، بتصنيع حزم الاختبار، واستخدامها للكشف عن المصابين الجدد، إلا أن تأخره في هذا القرار، جعل كوريا الجنوبية، تتقدم بشكل واضح على الولايات المتحدة، في مجمل عمليات الاختبار

التي تم أجراؤها حتى الآن، حيث أجرت سيول خمسة أضعاف عدد الاختبارات التي أجرتها واشنطن. وتشير البيانات الحديثة إلى أنه تم اختبار حوالي 125 شخصًا لكل مليون في الولايات المتحدة، وهو رقم أقل بكثير من معظم البلدان الأخرى. في حين تمكنت كوريا الجنوبية من إبطاء معدل تزايد الحالات الجديدة، بعد أن قامت بالكشف يوميًا على عشرة آلاف شخص، وبالتالي سهل هذا من عملية رصد الاصابات الجديدة، وعزلها وتوفير البيئة المناسبة لها كي تتعافى.

حتى الآن، يتم إجراء الاختبارات في الولايات المتحدة يدويًا، إذ تقوم المختبرات الفردية بإجراء ما بين 40 إلى 60 اختبارًا فقط في اليوم. لكن خلال الأيام القليلة الماضية، تصاعدت هذه الاختبارات بصورة كبيرة في كافة الولايات، لكن كان هذا متأخرًا جدًا كما بات واضحًا. وتستهدف الولايات المتحدة حاليًا الوصول إلى مستوى 2 مليون اختبار على الأقل، كي يتم الوصول إلى حصيلة نهائية لأعداد المصابين، الذين يتوقع أن تستمر أعدادهم في الزيادة، مع تصاعد عمليات الاختبار والكشف.

هذه النقطة كانت أولى بوادر الفشل الأمريكي في التعاطي مع ملف جائحة كورونا، خاصة لو علمنا، أن أدارة ترامب كانت تفكر في أوائل فبراير الماضي، في تخفيض الميزانية الفيدرالية المخصصة لمراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها.

عدم توفر الاستعدادات الكافية من جانب القطاع الصحي الأمريكي، كان له جذور سابقة، ساهمت فيها إدارة ترامب، حين قامت عام 2018، بحل وحدة مقاومة الأوبئة التابعة لمجلس الأمن القومي، وهو ما أدى إلى تبعات سلبية، على رأسها مغادرة عدد كبير من الخبراء المتمرسين في مكافحة الأوبئة، السلك الحكومي الأمريكي، إلى مؤسسات خاصة داخل وخارج البلاد، وهو ما أثر بشكل كبير على سرعة استجابة الحكومة الأمريكية للأزمة الحالية، سواء على المستوى الكمي او النوعي. فقد أعتمد الرئيس الأمريكي في إدارة هذا الملف على مجموعة من المسؤولين، ليست لهم الخبرة الكافية للتعامل مع كوارث مماثلة.

في البداية ترأس ترامب في 29 يناير فريق التعامل مع هذه الأزمة، ثم جعل نائبه مايك بنس يتولى هذه المهمة، ثم تم تعيين (ديبورا بيركس)، في منصب منسقة جهود مكافحة تفشي الجائحة، ثم تم تكليف وكالة الطوارئ الفيدرالية، بالاشتراك مع جاريد كوشنر صهر ترامب وكبير مستشاريه بمسؤولية تحديد وإدارة التوجهات الرئيسية في التعامل مع هذا الملف. هذا التغيير المستمر في الهيكل القيادي لجهود الولايات المتحدة لمكافحة هذه الجائحة كان أيضًا من أهم مؤشرات الفشل في التعامل مع هذه الأزمة.

تتالت عقب ذلك العقبات والمشاكل، فقد كان أداء إدارة الغذاء والدواء الفيدرالية، المختصة بتنظيم عملية أخذ العينات وإجراء الاختبارات، وإدارة ملف استخدام أي عقارات متوفرة أو مستحدثة، لعلاج المصابين بهذه الجائحة، مخيبًا للآمال، خاصة عندما أعلنت اليوم، عن تصريحها للمستشفيات، باستخدام أمصال خاصة بعلاج فيروس الملاريا، مثل كلوروكين وهيدروكسي كلوروكين، لمعالجة المصابين بفيروس كوفيد-19، مع أن نجاعة هذه الخطوة لم يتم إثباتها علميًا حتى الآن، وقد يكون لها آثار جانبية خطيرة، وبالتالي كانت هذه الخطوة موجهة للاستهلاك الإعلامي، خاصة بعد أن روج له ترامب، في عدة تصريحات صحفية له.

في منتصف فبراير الماضي، صرح ترامب بأنه تمت السيطرة على جائحة كورونا بشكل كبير في الولايات المتحدة، لكن في هذا التوقيت، كان معدل تصاعد الحالات الجديدة، يصل إلى حدود قياسية، ما بين خمسة آلاف وعشرة آلاف حالة جديدة في اليوم الواحد، كما ظهرت منذ ذلك التوقيت، مشاكل أخرى تتعلق بنقص حاد في مهمات الحماية الشخصية، المتوفرة للأطقم الطبية في كافة الولايات الأمريكية، وكذلك أجهزة التنفس الصناعي، التي تعالت منذ اوائل فبراير الماضي الأصوات المطالبة بتفعيل قانون الإنتاج الدفاعي، من أجل إنتاجها؛ نظرًا للنقص الشديد فيها، إلا ان ادارة ترامب تأخرت كثيرًا في الاستجابة إلى هذه المطالبات، إلى أن قامت بالفعل بتفعيل القانون يوم 27 مارس الجاري.

من الأسباب الإضافية لهذه الكارثة التي تواجهها الولايات المتحدة، ما كشفت عنه صحيفة (واشنطن بوست)، وهو أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية نبّهت في شهري يناير وفبراير الماضيين، بشكل سري، من تحول فيروس كورونا إلى وباء عالمي، دون أن يلقى ذلك التحذير تجاوبًا من الإدارة الأمريكية.

هذا الأسلوب في تعامل الإدارة مع هذا الملف، عزز القناعة الحالية لدى كافة الأطراف داخل الولايات المتحدة، بأن رد فعل واشنطن الأولي حيال أزمة هذا الفيروس لم يكن على مستوى الحدث، وأن الأخطاء التي تم ارتكابها من جانب معظم المؤسسات الرئيسية في البلاد، من البيت الأبيض ووزارة الأمن الداخلي، إلى المرافق الصحية ومراكز السيطرة على الأوبئة والوقاية منها جعلت الشكوك تتزايد حول مدى قدرة الحكومة الأمريكية على مواجهة الأحداث الطارئة داخليًا وخارجياً، خاصة بعد أن تبين للجميع، عدم استعداد القطاعين العام والخاص في الولايات المتحدة، لمواكبة هذه الكارثة، وعدم القدرة على إنتاج المعدات والمواد اللازمة لكشف وعلاج هذا الفيروس، وقد تزايدت هذه الشكوك أكثر بعد الارتباك العام الذي ساد الأوساط الشعبية الأمريكية، نتيجة للبيانات المتناقضة الصادرة من البيت الأبيض والرئيس الأمريكي، حول هذا الفيروس ومدى انتشاره في الولايات المتحدة.

ترامب … الدعائيات لا تكفي لمواجهة الكوارث

إصرار الرئيس الأمريكي على وصف هذه الجائحة ب (الفيروس الصيني)، والادعاء في البداية، أن قرار وقف الرحلات الجوية بين بلاده والصين ساهم في تجنيب بلاده لويلات هذه الجائحة، ضرب في الصميم مصداقية إدارته، التي كان من الأجدى أن تكون سرعة استجابتها على مستوى دعم التجهيزات والإجراءات الداخلية لمكافحة هذه الجائحة، مماثلة لسرعة اتخاذها لقرار وقف الرحلات الجوية مع أوروبا والصين. يضاف إلى ذلك تمسك إدارته بعدم استيراد أية معدات أو مهمات للوقاية من الخارج، والرهان في البداية على تغطية المصانع الوطنية المدنية، لاحتياجات القطاع الصحي من هذه المهمات، إلا أن هذا الرهان كان خاطئًا بامتياز، واضطرت الإدارة بعد أن أضاعت وقتًا ثميناً، أن تفعل قانون الإنتاج الدفاعي. حتى في الوقت الحالي، مازالت إدارة ترامب ترفض فرض الحجر الصحي على مدن أو ولايات بكاملها، وهو ما قد يساهم في استمرار تصاعد أعداد المصابين بهذا الفيروس.

لكل ما سبق، تقف الولايات المتحدة الآن في موقف تحتاج فيه لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، إلى مساعدة خارجية، للتغلب على هذه الكارثة، وهذا يحدث في ظل انعدام ثقة قطاع كبير من الشعب الأمريكي، بتصريحات إدارة ترامب حول هذه الأزمة، خاصة بعد أسابيع طويلة من التصريحات الوردية، التي قللت من شأن هذه الجائحة. رون كلاين، أحد أهم الوجوه العملية الأمريكية، والتي كان لها دور أساسي في التصدي لتفشي وباء إيبولا عام 2014، وصف استجابة إدارة ترامب لهذا الوباء، بأنها “مثال واضح على الجهود الفاشلة والعديمة التأثير، يمثل إخفاقًا بنسب لا يمكن تصديقها”. كذلك وصف جيرمي كونينديك، الذي ترأس لجنة الاستجابة للكوارث والأزمات في هيئة المعونة الأمريكية، بين عامي 2013 و2017، مجمل الاستراتيجية الأمريكية في التعامل مع هذا الملف قائلًا “إننا نشهد في الولايات المتحدة واحدة من أعظم إخفاقات الرئاسة والحكومة في العصر الحديث”.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى