
“جائحة كورونا” والدبلوماسية الطبية ل”كوبا”
أرسلت كوبا مجموعة من الأطباء والممرضين إلى إيطاليا في الثاني والعشرين من مارس الجاري للمساعدة في مكافحة فيروس كورونا الجديد، والتي تعد المرة الأولى التي ترسل فيها كوبا في تاريخها مساعدات طبية إلى دولة أوروبية، وذلك بناءً على طلب المنطقة الأكثر تضررا في مقاطعة لومباردي. ولم تكن إيطاليا هي البلد الوحيد الذي قدمت لها كوبا مساعداتها الطبية في ظل الوضع الراهن. إذ إن السفينة البريطانية “MS Braemar” والتي كانت عالقة في المحيط الأطلنطي وتقل 682 راكب، تم استقبالها في ميناء “مارييل” الكوبي وتم نقل الركاب الأصحاء للسفر إلى بلادهم من مطار هافانا. فضلاً عن تقديم العلاج للمصابين بفيروس كورونا في المستشفيات الكوبية والسماح لهؤلاء المرضى بالبقاء في كوبا على الرغم من قلة عدد الحالات في البلاد في ذلك التاريخ، بما قد يهدد بزيادة أعداد المصابين.
وتأتي المساعدات الطبية والعلاجية التي تقدمها كوبا ضمن إطار سياستها الخارجية والمعروفة بالدبلوماسية الطبية Medical Diplomacy، والتي استندت إليها كوبا منذ إعلان انتصار الثورة لديها عام 1959، والتي تمحورت حول إرسال البعثات الطبية والفرق العلاجية، والعمل على تطوير الأدوية والأمصال والعلاجات. ففي الآونة الأخيرة، تم استخدام العقار الكوبي الخاص بعلاج الأمراض الفيروسية وخاصة التهاب الكبد الوبائي C (Interferon Alfa-2B) لمكافحة فيروس كورونا في الصين، فضلاً عن تحويل خط إنتاج مصانعها بهدف توسيع قاعدة الإنتاج الطبي لديها.
النظام الصحي في كوبا
في أعقاب انتصار الثورة، أدى هروب وخروج العديد من الأطباء من كوبا وبقاء 16 أستاذًا طبيًا فقط في الجزيرة، إلى إيلاء النظام السياسي الأهمية لتعويض هذا النقص في المجالات الصحية والتعليمية.
وتمتلك كوبا نظامًا طبيًا أُسس وفق الفكر الاشتراكي لزعيمها الراحل فيدل كاسترو في مطلع الثورة الكوبية، والذي يضمن نفاذ الخدمات والرعاية الطبية إلى جميع المواطنين، والقائم على نظام الرعاية الأولية من خلال برنامج طبيب الأسرة، والذي تأسس في عام 1984 ويضم حوالي 30 ألف طبيب وحوالي 15ألف عيادة طبية. فضلاً عن تقدمها في مجال التكنولوجيا الحيوية وإنتاج اللقاحات والأدوية. ففي عام 2010 وضمن تقرير منظمة اليونيسكو عن حالة العلوم2010 UNESCO Science Report ، أكد أن كوبا تعتبر دولة ضمن تصنيف “الاحتراف والتخصص” Proficient في الامكانيات العلمية ومجال الطب الحيوي. ووفق أخر تقرير لمؤسسة بلومبرجBloomberg ، فقد احتلت كوبا المرتبة 30 في ترتيب الدول الأكثر صحة في عام 2019، في الوقت الذي احتلت فيه الولايات المتحدة المرتبة 35 ضمن تصنيف 169 دولة وفقًا لمؤشرات الصحة العامة.
وفي عام 2017 وفق تقرير البنك الدولي، جاءت كوبا بالنسبة الأعلى في العالم لعدد الأطباء لكل 1000 مواطن بنسبة 8,2، مقارنة بنسبة 2,6 في الولايات المتحدة ونسبة 2,4 في كوريا الجنوبية ونسبة 4,1 في إيطاليا. في الوقت الذي تقدر فيه منظمة الصحة العالمية أن هناك حاجة إلى ما لا يقل عن 2.5 من الموظفين الطبيين (الأطباء والممرضات) لكل 1000 شخص لتوفير تغطية كافية للرعاية الأولية.
إطلاق الدبلوماسية الطبية
تعتبر الأيديولوجيا الصحية الكوبية ذات بعد دولي. ففي أعقاب انتصار الثورة الكوبية، رأت الدولة أن التعاون بين دول الجنوب واجب من واجبات كوبا كوسيلة للوفاء بالدعم الذي تلقته من الآخرين خلال الثورة. ولذلك، عملت الدولة على تطوير دبلوماسية طبية، ترسل من خلالها مساعدات طبية إلى الدول النامية كعنصر أساسي في علاقاتها الدولية.
وتعد الدبلوماسية الطبية الكوبية أحد أشكال ممارستها للقوة الناعمة وأحد أسس دعم دور كوبا على المستوى الدولي وضمن أسس سياستها الخارجية، بما يضمن لكوبا كسب رأس المال الرمزي المتمثل الصورة الحسنة وحسن النية وذلك لكسب الرأس المال المادي. فبعد انتصار الثورة الكوبية، أرسلت فرقاً طبية إلى تشيلي لتقديم الدعم ومساعدات الإغاثة من الكوارث بعد أضرار الهزة الأرضية التي تعرضت لها تشيلي عام 1960. وبعد ذلك بثلاث سنوات، بدأت كوبا أول مبادرة دبلوماسية طبية طويلة الأمد من خلال إرسال مجموعة من ستة وخمسين طبيبا وعاملا صحيين لتقديم المساعدة في الجزائر في مهمة مدتها أربعة عشر شهرًا.
وفي دراسة معمقة عن عوامل دعم برنامج الدبلوماسية الطبية الكوبية، لخصت الخبيرة في الدبلوماسية الطبية الكوبية جولي م. فينسيلفر Julie M. Feinsilver تلك المحددات وهي:
- الإرادة السياسية: إذ طورت كوبا رؤية ركزت على الصحة كأحد أسس حقوق الإنسان ومسئولية الدولة. وقد شبه فيدل كاسترو صحة الفرد باعتبارها استعارة لصحة الجسد السياسي ككل.
- المؤشرات الصحية: كان من ضمن أولويات سياسة كوبا الداخلية الوصول وتحقيق أعلى المؤشرات الصحية للدول المتقدمة واعتبارها أولوية وطنية. وبدلاً من أخذ كوبا لمؤشرات الصحة من دول لها نفس المستوى الاقتصادي ومستوى التقدم لديها، اتخذتها من الولايات المتحدة. ومن بين أهم المؤشرات يأتي مستوى النظام الصحي والتغذية والخدمات الطبية والتعليم والإسكان والعمالة والتوزيع العادل للموارد والنمو الاقتصادي. ونتيجة العمل على تعزيز على تلك المؤشرات، حققت كوبا مؤشرات صحية مماثلة لتلك الموجودة في الولايات المتحدة.
- إنشاء نظام رعاية صحية: يعد أحد العوامل التي مهدت الطريق لتقدم المؤشرات الصحية بكوبا، هو إنشاء نظلم الرعاية الصحية بالمجان والمتاح لجميع المواطنين وتركيزه على آليات “الوقاية من الأمراض” وتعزيز الحالة الصحية. إذا يعد هذا النظام نموذج للامتثال لقيم وأهداف إعلان منظمة الصحة العالمية. فوفق تقرير منظمة الصحة العالمية، لدى كوبا واحد من أعلى نسب متوسط الأعمار في العالم بين الدول النامية، كما يقدم النظام الصحي مجموعة واسعة من الخدمات فوق الأساسية، ويعالج برنامج الصحة الوطني احتياجات أكثر من 95٪ من السكان، فضلاً عن تصميم كوبا الخدمات الصحية لتناسب احتياجات المجتمع.
- تخريج الأطباء: عملت كوبا على تخريج أعداد كبيرة من الأطباء وذلك في إطار تصدير الأطقم الطبية للدول. إذ تُخرّج كوبا سنوياً أعدادًا كبيرة من الأطباء بما يتجاوز احتياجاتها من نظام الرعاية الصحية وذلك من أجل إرسالها للبعثات الطبية الدولية. ففي عام 2013 تم تخريج أكثر من 10 ألاف طبيب من الجامعات في كوبا، بما في ذلك الطلاب الكوبيين والأجانب الحائزين على منح دراسية. وتعمل كوبا على تخريج هذا العدد الكبير من الأطباء وذلك لاستعدادهم لإرسالهم إلى الكثير من الدول، والذين يتلقون تعليماً طبياً شاملاً بما يؤهلهم لوظيفة طبيب الأسرة والعمل تحت أي ظروف وبدون الحاجة لأية إمكانيات.
ففي عام 2008، كان هناك أكثر من 30 ألف من الأطقم الطبية الكوبية يعملون في أكثر من 70 دولة حول العالم. وفي عام 2018، قُدر عدد الأطباء بحوالي 50 ألف طبيب كوبي يعملون في 67 دولة. وبحسب وزارة العلاقات الخارجية الكوبية، فقد تم منذ ستينيات القرن الماضي إرسال أكثر من 600 ألف كوبي إلى أكثر من 160 دولة يعملون كأطباء وممرضين وفنيين صحيين.
المهام والتعاون الدولي
قام عدد من الدراسات الأكاديمية بعمل تصنيف لمبادرات الدبلوماسية الطبية الكوبية وذلك لبيان مدى عمق واتساع نطاق استخدام القوة الناعمة، باعتبارها أحد أسس السياسة الخارجية لديها. وقد تم تصنيف تلك مهام وفق لدراسة موسعة قامت بعمل عرض شامل على مدار خمسين عام من العمل الدبلوماسي في المجال الطبي بناء على البعد الزمني إلى مهام قصيرة الأجل وطويلة الأجل.
إذ تم تقسيم المبادرات قصيرة المدى إلى تسع فئات وهي:
- الإغاثة من الكوارث.
- مكافحة ومراقبة الأوبئة.
- التدريب أثناء العمل لممارسي الرعاية الصحية لتحسين مهاراتهم.
- تقديم الرعاية الطبية المباشرة في كوبا.
- الخدمات الاستشارية التنظيمية والإدارية والتخطيطية للنظام الصحي.
- التبرع بالأدوية والمستلزمات والأجهزة الطبية.
- حملات التطعيم والتثقيف الصحي.
- تصميم برامج تنمية الموارد البشرية وتوفير الخدمات الطبية.
- تبادل نتائج البحوث ونقل المعرفة من خلال تنظيم المؤتمرات الدولية ونشر في المجلات العلمية.
أما من حيث المبادرات طويلة المدى فتم تصنيفها إلى ست فئات وهي:
- توفير الرعاية الصحية بشكل مباشر في البلد التي يتم إرسال الأطقم الطبية لديها ، وخاصة في المناطق التي لا يعمل فيها الأطباء المحليون
- نقل عمالة لمستشفيات الرعاية الصحية في الدول المستفيدة.
- إنشاء مرافق الرعاية الصحية (مثل العيادات والمختبرات التشخيصية والمستشفيات).
- إنشاء برامج صحية شاملة في الدول المستفيدة.
- إنشاء وكليات الطب في البلدان المستفيدة وإقامة
- تقديم منح دراسية كاملة للدراسة الطبية في كوبا.
فمنذ بدء الدبلوماسية الطبية عقب الثورة، جاء وفق وزارة الصحة العامة في كوبا أنه تم تقديم الخدمات الطبية لأكثر من 300 مليون شخص على مستوى العالم، وتم إجراء مليوني عملية جراحية، إضافة إلى تطعيم تسعة ملايين طفل.
وقد تلقت العديد من دول الجنوب مساعدات طبية من كوبا جاءت على رأسها دول أمريكا الوسطى خاصة بتأسيس كلية طب أمريكا اللاتينية ELAM، وعدد كبير من الدول الإفريقية. فقد أرسلت كوبا في عام 2010 مساعدات كبيرة إلى هايتي جراء الزلزال الذي ضرب البلاد. وفي أثناء انتشار وباء الإيبولا في غرب إفريقيا عام 2014، نفذت كوبا خطة عمل صحية طارئة لتقديم المساعدة إلى البلدان المتضررة. وقد تلقت دول إفريقية أخرى على مر السنوات لمساعدات طبية من كوبا، في إثيوبيا عام 1984، وأوغندا عام 1966، وغانا عام 1991، وغينيا الاستوائية وجامبيا في عام 2000، وغينيا بيساو عام 2004.
وفي عام 2004، تم إطلاق عملية المعجزة Operation Milagro، بالتعاون بين الحكومة الكوبية وفنزويلا لتقديم الرعاية والعلاج الطبي بالمجان لمرضى النظر والعيون لعدد 34 دولة من دول الجنوب، وقامت بعلاج أكثر من 4 ملايين مريض في العشر سنوات الأولى من البرنامج.
ووفق أحدث البيانات من وزارة الخارجية الكوبية في مارس 2020، توجد مهام وتعاون طبي في إطار الدبلوماسية الطبية الكوبية في 36 دولة منها دول لاتينية وإفريقية وعربية بالإضافة إلى إيطاليا.
وإذا جاءت كل تلك التحركات للسياسة الناعمة الكوبية ضمن إطار استراتيجية سياستها الخارجية، إلا أن الأمر انعكس كذلك على العائدات الاقتصادية في كوبا. فقد قٌدرت عائدات تصدير الخدمات في عام 2017 إلى 11 مليار دولار وفق المركز الإحصائي الكوبي ومنظمة التجارة العالمية.
من هنا، وعلى الرغم من صغر حجم الجزيرة الكوبية ومستوى تقدمها المحدود، إلا أن آليات نفاذ سياستها الخارجية ذات تأثير على المستوى الدولي. ويأتي تحرك كوبا الأخير نحو مساعدة الدول لمكافحة فيروس كورونا ضمن إطار استراتيجيتها الدبلوماسية القائمة، وبما قد يؤدي إلى دور أوسع لكوبا في هذا المجال مع الدول الأوروبية مثل إيطاليا والمملكة المتحدة، فضلاً عن إمكانية اتخاذ عدد من الدول خاصة اللاتينية والإفريقية لهذا البعد التعاوني مع كوبا كمثال ونموذج ونقطة انطلاق لمزيد من التنسيق بين الدول التي تولي للرعاية الطبية أولوية وطنية.