
للصين وجه آخر: “معلومات تم إخفاؤها ” حول وباء كورونا
في تصعيد أخير قال وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” إن الصين قامت مرارًا بإخفاء معلومات مهمة حول فيروس كورونا المستجد. ومنذ فترة وضع الكثيرون إشارات الولايات المتحدة التي جاءت غير مرة لتؤكد حجب الصين للمعلومات في إطار الحرب بين القطبين، إلا أن ما تبين لاحقًا أن بكين قامت بإخفاء المعلومات فعليًا، وذلك قبيل حلول الكارثة، فكيف سارت الأمور؟
نقطة الصفر في ووهان
المكان: ووهان عاصمة مقاطعة هوبي الصينية، أما الزمان فيرجح أنه كان في النصف الثاني من نوفمبر 2019 عندما اتجه أربعة من العاملين بسوق ووهان للحيوانات إلى مشفى المدينة مصابين بأعراض في الجهاز التنفسي، ولم تمض أيام قبل أن تساور الشكوك الطاقم الطبي في المشفى الذي وجد أن الأعراض شبيهة بأعراض السارس الذي ظهر في الصين أيضًا في عام 2003، حدة الأعراض التي ظهرت على الأربعة الأوائل وتطابقها تقريبَا أثارت الريبة، ولكن أحدًا لم يبلغ منظمة الصحة العالمية. وكانت تلك الرواية الأكثر تأكيدًا.
المريض صفر
ثم توالت القصص التي تحدثت عن المريض صفر، إحداها كان نقلًا عن تقرير لصحيفة South China Morning Post الصينية والتي أشارت إلى أن أول إصابة مؤكدة تم تسجيلها في أواخر نوفمبر من العام الماضي، وهو ما يعني أن بكين أخفت حقيقة المرض لأكثر من شهر كامل قبل الإعلان الرسمي، حيث تشير السجلات الحكومية، أن أول شخص مصاب بمرض جديد ربما يكون من سكان هوبي ويبلغ من العمر 55 عامًا، ويأتي حرص العلماء على تحديد ما يسمى المريض صفر، لأنه يمكن أن يساعدهم على تتبع مصدر الفيروس التاجي، الذي يعتقد أنه قفز بشكل عام إلى البشر من حيوان بري وعلى أي حال، فإنه من بين الحالات التسع الأولى التي تم الإبلاغ عنها في نوفمبر أربعة رجال وخمس نساء لم يتم تأكيد أي منها على أنها “المريض صفر”، وكان جميعهم تتراوح أعمارهم بين 39 و 79 عامًا.
قرائن
التطور السريع للفيروس وانتقاله إلى مسافات بعيدة، تسبّبا في تصاعد الشكوك حول علم الصين بالمرض مبكرًا لكنها آثرت التكتم، ولكن انتشار المرض وتحدث الناس حوله، أُجبر السلطات على الاعتراف بوجوده وانتشاره. كما أن الحكومة الصينية وفي بداية الأمر لم تتخذ الإجراءات اللازمة، ولم تغلق سوق بيع الأطعمة البحرية في مدينة ووهان الذي انتشر منه المرض إلا في شهر يناير رغم أن المعلومات أكدت أن ذلك السوق البحري الذي احتوى أيضاً على حيوانات برية شهد الطفرة التي تسببت في انتقال الفيروس من أحد الحيوانات إلى أحد البائعين. والسجلات الحكومية في الصين تقول الكثير عن أعمال التكتم التي مورست والتي استطاع بعض الصحفيين الصينيين النفاذ إليها.
الحكومة الصينية لم تكشف عن تسبّب أحد المرضى الخاضعين لعملية جراحية عصبية في نقل المرض إلى طبيب و13 ممرضة، كما أنه تم القبض على 8 مواطنين لتناقلهم معلومات حول المرض في بداية الأزمة واعتبرتهم الحكومة آنذاك أشخاصًا خارجين عن القانون بنشر معلومات غير مؤكّدة. الأمر ذاته يفسر عدم إلقاء الحكومة هناك أذنا مصغية للطبيب لي وين ليانغ، الذي اكتشف التهديد المخيف لفيروس كوفيد-19، واتهامه بترويج الشائعات، وبحلول منتصف يناير كان الطبيب لي يشارف على الموت إثر إصابته بالفيروس، بينما أدى سفر وتنقل مئات الآلاف من الأشخاص من ووهان وإليها إلى تحول الفيروس إلى كارثة عالمية.
إنكار الحقائق في بدايتها وصل إلى حد أن المسؤولين المحليين في ووهان سمحوا بإقامة شعائر أحد التقاليد المحلية يوم 18 يناير الماضي، بحضور نحو 40 ألف أسرة، وفي اليوم التالي خرج الرئيس الصيني شي جين بينغ، مؤكدًا ضرورة اتخاذ تدابير صارمة لاحتواء المرض وجعل صحة الناس أولوية قصوى. الأكيد أن الصين قامت بمعجزة حقيقة لاحتواء انتشار الفيروس، وأنه لو ما كانت تلك الجهود قد تم بذلها حسب منظمة الصحة العالمية لشهدنا اليوم كارثة أكبر بكثير، إلا أن هذا لا يزيح عن أكتاف الصين مسؤولية أكثر جسامة لإخفائها المعلومات لمدة شهر كامل، 30 يومًا كانت لتغير الكثير من مسار انتشار الفيروس وسرعة تفشيه لو أن الحكومة الصينية آثرت التعامل بالشفافية منذ البداية.
الغرب لم يكن أكثر مسؤولية
استهانت الصين بالشفافية كمبدأ في البداية في منحى بعيد عن المسؤولية العالمية ولم تكن الدول الغربية التي وجهت لها اتهامات حقيقية بأفضل منها، فقد تعاملت في بداية الأمر بالكثير من اللامبالاة خصوصًا وأن المرض ضرب الصين وإيران وهما غريمتا العالم الغربي، فكالوا الاتهامات للصين ثم شددوا العقوبات على إيران في استغلال لظرف إنساني وبشري خارج عن حدود الإرادة الإنسانية، على الرغم من أن مجتمعات بهذا القدر من التطور كان من الأولى بها اللحاق بالركب من أشهر مضت ومحاولة فك شيفرة الفيروس القاتل أو العمل على إنتاج لقاح أو حتى مساعدة الدول غير القادرة على مساعدة أنفسها.
كل ما تقدم لم يحدث ليترك الطريق مفتوح أمام كورونا لتعلن الصحة العالمية الفيروس وباءً في النصف الأول من مارس الجاري، وليضرب دول الغرب وأوروبا التي انتقل إليها مركز الوباء وللمرة الأولى تسجل دولة أخرى غير الصين أكبر عدد في الإصابات لتقفز إلى الصدارة.
الصين لازالت الرابح
على الرغم من أن واشنطن قد قفزت إلى الصدارة فيما يتعلق بأعداد الإصابات، إلا أنه وعلى صعيد إدارة الأزمة والتعامل معها تراجع دورها كثيرًا.
فعلى صعيد الحد من انتشار الفيروس استطاعت الصين إنجاز دورها على أكمل وجه فيما يتعلق بالداخل الصيني، ويعزى السبب في ذلك إلى طبيعة نظامها السياسي الذي يوصف بالشمولي في كثير من الأحيان، والذي أتاح لها فرض إجراءات شديدة الصرامة لاحتواء انتشار الفيروس وهو الأمر غير المتاح للولايات المتحدة التي تتبع نهجًا ديمقراطيًا يقدس حرية الفرد.
أما على صعيد تصدر المشهد الدولي أيضًا فكون بكين كانت بؤرة الانتشار الأولى واستطاعت السيطرة على المرض أتاح لها رفاهية التحرك لمساعدة دول أخرى بالتجربة وبالموارد المادية، بينما لا تزال الولايات المتحدة تقف في وجه كورونا بعد أن قفز عدد الإصابات بها ليسبق الصين، ومن الواضح أن واشنطن تخسر صورة الدولة العظمى القادرة على تقديم المساعدة لغيرها من الدول لصالح الصين.
هل تواطأت منظمة الصحة العالمية مع بكين؟
يضع الكثيرون علامات استفهام ليس فقط حول كيفية تمكن الصين من احتواء الفيروس وهو الأمر الذي يمكن تبريره بالإجراءات الصارمة التي اتبعتها بكين، ولكن حول كيفية خروج الصين بصورة مشرفة على الرغم من مسؤوليتها الجزئية في تفشي وباء عالمي؟
الصورة تفسر بإجابتين، الأولى، أن بكين تمتلك أدوات إعلام وبروباجندا عملاقة وعميقة بعمق تجذر الحزب الشيوعي بها، وهي قادرة على إدارة مشهد إعلامي لصالحها ليس فقط داخل حدودها الممتدة وإنما خارجها أيضًا، وقد ضخت بكين مليارات الدولارات لبث رسائل بالإنجليزية والعربية عبر منصاتها الإعلامية المختلفة الموجهة للخارج في محاولة للحشد وتغيير النظرة العامة، ولا شك أنها نجحت. الثانية، إن دبلوماسييها اجتاحوا تويتر ومنصات التواصل الإعلامي بالمعنى الحرفي للكلمة، واصطفوا إلى جانب صفحاتهم الإعلامية على تلك المواقع ليوصلوا ثلاث رسائل أساسية، اللعب على نغمة الإيجابية من تصوير للمستشفيات الميدانية والطواقم الطبية وتصوير الصين نفسها بصورة مغايرة، فبدلًا من ان تكون مركزًا لانتشار الفيروس صورت نفسها على أنه وفي الوقت الذي يجتاح فيه وباء عالمي الكرة الأرضية تقف هي في الصدارة وفي قلب المشهد لمواجهة الجائحة، وقدمت نفسها على أنها العون والصديق لكل الدول.
ولم تكتف بكين بذلك بل وظفت تصريحات الصحة العالمية عن جهودها لاحتواء الفيروس لصالحها، الأمر الذي جعل البعض يشككك في منظمة الصحة العالمية خصوصًا وأنها تأخرت في إعلان كوفيد 19 وباء عالمي على الرغم من سرعة انتشاره العالية بين البشر ولاحقًا قدمت الصين منحة لمنظمة الصحة العالمية قدرت بـ20 مليون دولار لدعم جهود مكافحة الفيروس، هذه الحقائق جعلت البعض يذهب إلى أبعد من ذلك عندما وجهت وسائل إعلام أمريكية اتهامات لرئيس منظمة الصحة “الإثيوبي” بالتباطؤ والتخاذل وعدم المهنية، والمعروف بطبيعة الحال أن إثيوبيا تتلقى الكثير من المساعدات الصينية حتى أنها سميت “الصين الصغيرة”، ربما كل ما يدور هو في دائرة التكهنات، ولكنها علاقات وتحولات تضع علامات استفهام مشروعة وتفتح الباب على مصراعيه أمام مطالبات بمحاسبات جادة لكل من كان مسؤولًا عن تفشي هذا الوباء قطعًا بعد انحساره، لأن الوقت والمقام يتسعان للتساؤلات وليس للملاحقة والمحاسبة.
باحث أول بالمرصد المصري



