
هل تفقد البشرية ذاكرتها..”كورونا” الأسطورة تصنع الآن
“الوباء العادل”، هو الاسم الذي بات البعض يستخدمه عند الحديث عن ” الفيروس التاجي”، فالعدوى لا تفرق بين غني وفقير ولا بين مشاهير تحت الأضواء وآخرين يمشون على الأرصفة، انعدمت الخصوصية وبات هدف المجتمعات القضاء على فيروس “كورونا” فشهد العالم اشتراكية من نوع جديد، حيث يتساوى كل البشر في نسبة الشعور بالخطر.
“بافلوف” ارتباط شرطي لا يمكن عكسه
وظهرت تخوفات حداثية تتلخص في أن الإجراءات الطارئة التي تتبعها المجتمعات حاليا والتي أدت إلى تراجع الحميمية في اللقاءات بشكل كبير، فغاب عنها العناق وتراجعت التحيات الحارة إلى الحد الذي اختفت فيه تمامًا، حتى أصبح هناك نوع من التوافق المجتمعي على التحية ” بتشبيك راحة اليدين والإيماء بالرأس ” في محاولة لإظهار قدر من الود للآخرين في حالة من ” العولمة السلوكية” قد تستمر حتى بعض القضاء على كورونا .
وأكثر ما يخشاه ويفترضه علماء السلوك أن تتحول هذه التصرفات من إجراءات احتياطية طارئة إلى سلوك دائم ومستقر بعد زوال الوباء وكأن البشرية قد ” فقدت ذاكرتها” وفي الحياة سنة مفادها أن الطارئ هو الأرجح في الاستمرار. ولذلك لا يعد من قبيل التفاؤل أن نقول ان ” كورونا الجديد” سيرحل كما رحلت غيره من الفيروسات الأوبئة ولكنه سيرحل وقد غير وجه البشرية في بعض التقديرات وربما يؤسس لعادات لم تكن من سلوك بني الإنسان من قبل ذلك أن الأوبئة والأمراض تخلف عادات وذكريات تستمر أكثر من الوباء نفسه.

وعلى سبيل المثال فإن الوجبات التي ظهرت في أوقات انتشار المجاعات مثل “أكل الجرذان والفئران والثعابين”، ظهرت بشكل مؤقت للحد من الجوع ثم اختفت الأوبئة وبقيت هي.
صحيح أنه يمكن اكتشاف لقاحات وعلاجات للأمراض والأوبئة ولكن ما لا يمكن اكتشاف علاج له هو الذاكرة البشرية، فالارتباط الشرطي وآليات التكيف مع كورونا سيتم استدعائها في مواقف تالية مشابهة حسب نظرية ” بافلوف” الأمر لا يمكن عكسه!، وعلى الجانب الآخر سيصل الأمر إلى نوع من التأقلم يتحول به كورونا إلى طقس احتفالي بدل من طقس يفجع الناس بحيث يتداولون فيما بينهم ” فلان ولد في زمن الكورونا”.
متلازمة المواجهة أو الهروب
وفقًا للمتخصصين في مجال الطب النفسي فإن الأزمات تظهر طبيعة الخصائص النفسية للشعوب، تحديدا عندما يستشعر الإنسان الهلع من فكرة الموت ينشط وبقوة جزء في الدماغ يسمى “”Amygdala وينتج عن ذلك رد فعل يسمى علميًا ” Fight or Flight” حيث يقع الإنسان بين خيارين إما الهروب من المواجهة أو القتال، ومن باب سوق الأمثلة فإن الشعب اللبناني غالبًا ما يختار الهروب ويعزى ذلك إلى كثرة ما مر به من مآسي فيلجأ إلى الضحك والرقص. وقسم آخر يختار القتال والمواجهة وتتفاوت قدرته حسب المستوى الثقافي والعقلي. وفريق ” تكذيب البيانات الحكومية” يعتمد طريقة من طرق المواجهة تنحصر في التشكيك في كل ما يصدر عن الحكومة، إذ لكل طريقته، وهي وإن صنفت نوعًا من المواجهة إلا أنها مواجهة غير مسئولة. ويلجأ البعض الآخر إلى مواجهة أكثر منطقية أو “مسئولة” مثل العمل على مبادرات للمساهمة في حل الأزمة والتطوع وغيرها.

الناس يتكيفون
مشاعر الخوف
والهلع التي تسيطر على المصابين هي من نوع أشد ضراوة وقسوة ولذلك فعلى برامج الصحة
النفسية الوطنية أن تنشط إلى جانب الرعاية الصحية، وينصب الجانب الأكبر من العمل
على تدريب طاقم التمريض والطاقم الطبي على كيفية التعامل مع نوبات الهلع والتوتر
التي تنتاب المصابين وخصوصًا بعد أن يكونوا قد أمضوا فترة طويلة في الحجر، أما من
يعزلون أنفسهم في منازلهم فلهم أن يلتزموا ببعض الخطوات للتغلب على حالة الملل
ومنها زيادة المطالعة واللجوء لممارسة التمارين الرياضية والتواصل مع الأصدقاء
والمعارف باستمرار عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمكالمات وهو ما يعد نوع من
الدعم الجماعي.
وعمومًا
فإن الخوف من الموت هو أحد المخاوف
الوجودية الأساسية ولكن على الشخص أن يفكر ما هو مدى اختلاطه بالفيروس وحتى إذا
أصيب فهناك فرص للعلاج ويشمل الخوف هنا الخوف من فقدان العمل ايضًا وعدم القدرة
على توفير الاحتجاجات الأساسية ولكن لا يجب أن يشعر الإنسان بالهلع فالناس عمومًا
لديهم قدرة على التكيف أكثر من تلك التي يتخيلونها.
كورونا ينقلب على عصور التراث الإنساني
من الأمور المثيرة للرعب أيضا والمصاحبة لتفشي كورونا “غياب الإنسانية”، فقد تداول العالم بأسره مقاطع مصورة لأشخاص يتعرضون للتنمر لمجرد أنهم يمتلكون ملامح شرق آسيوية في عقود وعقود من العودة للوراء والانقلاب على قيم التمييز والتفرقة العنصرية، الأمراض عادة تظهر أسوأ ما في البشر من الطمع والأنانية والرغبة في الاستئثار بالمصلحة والفائدة متناسين أن أحدًا لا يستطيع العيش وحيدًا وأن على البشرية ان تنجو معًا. والمحير في الأمر أن هذا الوباء سيندثر ولكن سيبقى الناس ينظرون نفس النظرة لذوي الملامح الآسيوية وكأنهم السبب في انتشار الفيروس.

وهو ما يخالف الواقع إذا أن الصين بلغت جهودًا مضنية للحد من انتشاره أولًا واحتوائه لاحقًا، مع الوضع في الاعتبار أن الصين والصين وحدها قادرة على مثل هذا الفعل. يتخوف الكثيرين من زوال القشرة الرفيعة للأدب التي لازالت تتحكم فينا وتحكمنا كورثة للتراث الإنساني. ويذهب البعض على أبعد من ذلك عندما يرون أن فيروس كورونا الذي ينتشر بسرعة في جميع أنحاء العالم، أصاب أكثر من مجرد الضحايا الذين أصيبوا به. فقد اتضح أن الأعراض الشبيهة بالإنفلونزا والعزلة الذاتية ليست النتائج الوحيدة للفيروس، لأنه يمكن أن يحولك إلى متنمر وعنصري”.
نوبات هلع من الحجر الصحي
يسير العالم اليوم حاملًا فوق ظهره هموم التأثيرات النفسية للحجر الصحي والتي يمكن أن تكون واسعة النطاق وطويلة الأمد وقد أجرت مجلة” فورين بوليسي “الأمريكية، مقابلات مع عدد من الأشخاص المعزولين في الصين، وذكروا أنهم يعانون من نوبات غضب، وفي الوقت الذي تحاول فيه هونج كونج الصينية، احتواء تفشي فيروس كورونا، فإن هناك مشكلة أخرى تواجهها وهي الارتفاع غير المسبوق في مستوى مشاكل الصحة النفسية، مع تزايد عدد الأشخاص الذين يعانون من القلق المتزايد بشأن انتشار الفيروس. ونقل عن أطباء، قولهم إن وباء “كورونا” جاء بعد شهور من الاحتجاجات الصاخبة المناهضة للحكومة، والتي أدت بالفعل إلى زيادة حادة في الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، كما ترتبط المخاوف بمشاعر سابقة للناس أثناء وباء السارس عام 2003، الذي أودى بحياة حوالي 300 شخص في المدينة.

بينما نقل موقع “فوكس” الأمريكي عن الخبراء قولهم إن الوحدة تسبب الشعور بالقلق على المدى الطويل، ما يؤدي إلى إفراز مستمر لهرمون التوتر “الكورتيزول”، الذي يزيد مستويات الإصابة بالالتهابات في الجسم ويدمر الأوعية. كما أن آليات التأقلم مع الوضع الجديد يمكن أن تدفع البعض إلى شرب الكثير من الكحول أو اللجوء إلى المخدرات أو العزل الزائد للذات دون أي نوع من الاتصال بالعالم الخارجي. من الواضح أن الوقت الذي سوف تقضيه البشرية للتعافي من آثار كوفيد 19 سيتجاوز فترة تفشي المرض واندثاره بكثير إلى الحد الذي خلق اتجاهًا يرجح أن البشرية ستفقد جزءًا من ذاكرتها مع هذا المرض، وحتى عندما تنتهي ذروته لن يعود العالم الذي نعيش فيه كما كنا نعرفه منذ أشهر!
باحث أول بالمرصد المصري



