
حرب الفيروسات والإنسان.. خذلان منظومة “العولمة”
قبل قرنين من الزمان، كان لافتًا تطور طرق التجارة بين البشر والأقاليم الجغرافية المترامية الأطراف لتتخذ أشكالًا برية وبحرية، صاغها الاستعمار، وعزز في ذروته الكبرى في القرن التاسع عشر أولى أشكال الاعتماد المتبادل المُرَكّب في نظام اقتصادي متشعب بات يمهد الطريق أمام تطوير آلية تعاونية قد تتجاوز عراقيل الحيز المكاني، وتعقيدات الجغرافيا السياسية. بيد أن تلك الآلية التعاونية بزغت بعد حربين عالميتين، وانهيار الكتلة الشرقية بعدهما بخمس عقود، انهزمت خلالها الأدبيات القومية الانعزالية وأنظمتها الاقتصادية أمام قاعدة ومفاهيم الليبرالية الجديدة، وعُرِفت اصطلاحاً الآلية التعاونية؛ بالعولمة. إذ ساد نظام دولي جديد استنادًا إليها قيميًا وأخلاقيًا، وخاصة بعدما خسرت التكتلات الأمنية البحتة قيمتها الاستراتيجية أمام التكتلات الاقتصادية العالمية.
أشاع الليبراليون والمنظرون الاستراتيجيون إبان انهيار الكتلة الشرقية “الاتحاد السوفياتي”، أن النظام العالمي الليبرالي الجديد سينبُذ الحرب؛ لأن التجارة الحرة تقلل من فرص اندلاعها، ورغم أن النظرية الليبرالية كانت غارقة في التفاؤل، ولاسيما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، إلا أن سقف توقعاتها بخفض معدلات الحرب الشاملة بين الدول نتيجة لتشعب التجارة الحرة، كان سليمًا بعض الشيء. أما ما لم يكن سليما فهو تقديراتها المفرطة للنظام الدولي “المعولم” على احتواء الازمات العابرة للحدود بأشكالها وأنماطها المختلفة، ففي العقد الأول من انهيار الكتلة الشرقية، ظل سباق التسلح حاضرًا في ذهنية الفواعل الدولية الكبرى، ولم تستطع شبكة المصالح الاقتصادية في تحجيمه بل، أزكت في الكثير من تفاعلاتها بعض مسارات ذلك السباق التسليحي الذي ساهم في امتلاك البشر اليوم لقدرات تدميرية تكفي لتدمير الكرة الأرضية ست مرات.
إلا أن أزمات العقدين الماضيين بدءًا من الأزمة المالية العالمية، وصولًا إلى تفشي وباء “كوفيد -19” قد كشفت عن مكامن الوهن والتناقض في منظومة العولمة ووضعتها أمام اختبار صعب، ربما لن تخرج منه كسابق عهدها، حيث لأول مرة تساهم ديناميات وتقنيات التواصل بين البشر في التحديات الجسيمة المهددة لحياتهم بدلًا من دحرها، وتتحول العولمة من عملية تطورية متواصلة للمعرفة الإنسانية لواحدة من أبرز أدوات التهديد الحالية ويمكن عدّ ذلك في الدلالات الآتية:
1- عدم القدرة على التحكم الكامل في ديناميات الاتصال الحديث، فقبل بزوغ العولمة، ما كانت للأوبئة الفتاكة أن تخرج من إطار “المحلي – الإقليمي”، إلى الإطار العالمي. نتيجة محدودية القدرة على التنقل السريع بين شتى بقاع الأرض، فما كان يضرب أوروبا لم يكن بمقدوره أن يؤثر في آسيا أو أفريقيا. ولكن أظهرت أزمة تفشي فيروس كورونا المستجد الدور الخطير الذي لعبته منظومة الاتصال ” البري – البحري – الجوي”، في زيادة دائرة العدوى والإصابة. ما دعم مقاربات التيارات اليمينية والشعبوية في مواجهة عدة أزمات متتالية من تدفقات الهجرة غير الشرعية، وظاهرة الإرهاب الجائل والعابر للحدود، وتغيُر المناخ، بشكل يدعم الأصوات المنادية بتطبيق أفكار الانغلاق الاقتصادي والعزلة والارتداد للداخل.
2- التقاسم المعقد للعملية الإنتاجية، إذ باتت الدول الصناعية الكبرى التي طورت تقنيات الثورة الصناعية وحافظت على امتلاكها واحتكارها أحيانًا للمعرفة التقنية، تركز جهودها في جانب الإنتاج المعرفي ذي القيمة، فيما تواصل الدور النامية جهودها بالعمليات الإنتاجية الأعلى تكلفة رأسماليًا وماديًا، ما فاقم من حالات التنافس الإقليمي الحاد بين القوي المتوسطة، وعطّل الجهود الدولية الرامية إلى احتواء الأزمات الخطيرة كالإرهاب وانتشار الأوبئة. ومن جهة أخري، تعرّضت سلاسل الإمداد للشركات العالمية للتوقف. وعزز اعتماد ركائز ونقاط السلاسل على بعضها البعض، ومن مناطق وأقاليم مختلفة عبر العالم، من الاعتماد أكثر على العمليات الإنتاجية في نطاقات إقليمية محدودة وعدم الارتهان لتقاسم الإنتاج الدولي.
3- التنافس الدولي، حفّز التنافس الدولي بين القوي الكبرى على تقويض قدرة منظومة العولمة على الالتزام بإجراءات احترازية، ومناهجية موحدة لمكافحة تفشي وباء كورونا، كما دفعت لمحاولات التوظيف السياسي للأزمة الحالية بما يناقض قيم العولمة الثقافية، حيث نقلت وسائل إعلامية وصحفية، ومصادر رسمية ألمانية عن ضغوطات أمريكية تتعرض لها شركة “كيور فاك” الألمانية لاحتكار المصل الذي تقوم على إنتاجه لعلاج فيروس كورونا، وقطعت فيه شوطًا ملموسًا بانتظار النتائج النهائية خلال أسابيع وربما أشهر قليلة.
وبحسب صحيفة “بيلد أم زونتاغ” الألمانية، فإن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تحاول جذب العاملين في شركة “كيور فاك” التي تتخذ من مدينة توبنجن الألمانية مقرًا لها، إلى أراضيها من خلال مدفوعات مالية ضخمة في مقابل تأمين اللقاح للولايات المتحدة بشكل حصري. ونقلت الصحيفة عن دوائر حكومية ألمانية أن ترامب يقوم بكل ما هو ممكن من أجل الحصول على اللقاح “للولايات المتحدة فقط”. يأتي ذلك غداة إعلان مسؤولين أمريكيين في القطاع الصحي، يوم الاثنين، بدء أول تجربة بشرية للقاح محتمل فيروس كورونا في مدينة “سياتل”.
4- مزاعم الحرب البيولوجية السرية، على عكس باقي جوقة أسلحة الدمار الشامل، تأتي الحرب البيولوجية كأحد أخطر الحروب نظرًا للتطور التقني – البيولوجي، اللافت في حقل علم الفيروسات، وسهولة استخدامه مع ضمان صعوبة واستحالة تحديد هوية الفاعل، في مواضع كثيرة. مقارنة بالأسلحة النووية والكيماوية. ومع التطور في منظومة العولمة وحركة البشر الدائمة بين مختلف العواصم والمناطق، تأخذ الحرب البيولوجية ثقلًا مضاعفًا من حيث القدرة التدميرية نظير باقي عائلة أسلحة الدمار الشامل، وعلي الرغم من عدم وجود أدلة ملموسة حول حقيقة ما تتعرض له الصين والعالم في ضوء تفشي “كورونا”، إلا أن تصريحات مسؤول رفيع المستوي بالخارجية الصينية واتهامه الجيش الأمريكي بالتورط في إحضار الفيروس لضرب البلاد، قد أعادت للواجهة الحديث عن فرضية الحرب البيولوجية السرية، ولاسيما بعد الحرب التجارية العنيفة التي اندلعت بين بكين وواشنطن، ومعدلات النمو المرتفعة التي حققتها الأولى على الجانب الاقتصادي.
فضلًا عن تحول مدينة ووهان الصينية لبؤرة تفشي الوباء عالميًا، وهي تحتل رمزية كبيرة في ذهنية صانع القرار في بكين، كونها عاصمة الصناعات العسكرية، ومعقل صناعة الحديد الذي يغزو الولايات المتحدة. على الرغم من القدرة التدميرية الكبيرة للحرب البيولوجية على الجنس البشري، إلا أن منظومة العولمة أضافت لخطورتها بُعدًا مروعًا.
ختاما،
تكشف أزمة كورونا عن تناقضات جسيمة في منظومة العولمة، وتضعها في خضم اختبار قوي وصعب، قد يعيد العالم النظرة إليها، وخاصة إن فشلت في الإسهام في تطوير آلية دولية تعاونية لا قطبية لاحتواء أزمة الفيروس المستجد.



