كورونا

التغريد خارج السرب: الاستراتيجية البريطانية لمواجهة كورونا

لا تكاد تخلو جعبة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون من تفجير المفاجآت واحدة تلو الأخرى، فبعد مفاجأته فيما يخص تحقيق الخروج البريطاني من الاتحاد الاوروبي، بعد أزمة سياسية قاسمة لما يزيد عن ثلاث سنوات، والتي لم تنتهي تبعاته حتى الان.

أطل رئيس الوزراء في مؤتمر صحفي منذ أيام، أقل ما يوصف به بأنه “صادم” و ” الأكثر رعبًا”. فقد كَال جونسون العديد من التصريحات المرعبة للعديدين وليس فقط الشعب البريطاني، فقد صرح بآن على الكثير من العائلات الاستعداد لتوديع أحبائهم، وأن البلاد تواجه أسوء أزمة صحية منذ جيل، وأن فيروس كورونا المستجد “كوفيد 19” ليس كالإنفلونزا الموسمية لسبب بسيط أننا لا نملك مناعة لهذا الفيروس. وكذلك تصريحه أنه برغم من أنه تم التعرف على ما يقل عن 600 إصابة مؤكدة، إلا أنه وفقا للإحصاءات يحتمل أن يكون ما بين 5 إلى 10 ألاف بريطاني مصاب لم يتم التعرف عليهم. إلا أنه بالرغم من تلك التصريحات الصادمة، لم يعلن كما توقع العديدون، فرض غلق كامل على البلاد، أو في أبسط الظروف اغلاق المدارس. 

وقد أتي التحرك البريطاني في إطار خُطة تم نشرها في الثالث من مارس من قبل السلطات الصحية في البلاد، والتي تقضي بأنه بإعلان منظمة الصحة العالمية بأن الفيروس تحول لوباء، فقد انتقلت البلاد من خطتها في الاستجابة من مرحلة الاحتواء والكبح إلى محاولة تأخير ذروة انتشار الفيروس، فوفقًا لتصريح رئيس الوزراء ان البلاد متخلفة عن تصاعد الانتشار الايطالي، إلا أنه من المتوقع أن يبلغ الفيروس ذروته في غضون من 10 إلى 14 أسبوعًا.

C:\Users\Elshimaa.arfat.ecss\Desktop\DD-graph-CORONAVIRUS-1912.jpg

وكان أبرز ما نصت عليه الخطة من مراحل لمواجهة الفيروس على الآتي:

  • الكبح والاحتواء عن طريق الكشف عن الحالات المبكرة، ومتابعة الاتصالات الوثيقة، ومنع حدوث المرض في هذا البلد لأطول فترة ممكنة. 
  • ثم الانتقال لمرحلة التأخير في محاولة لإبطاء الانتشار، وخفض تأثير الذروة ودفعها بعيدًا عن فصل الشتاء. 
  • هذا بالتوازي مع اجراء الأبحاث ومحاولات التخفيف من حدة المرض، ودعم المستشفيات للحفاظ على الخدمات الأساسية وضمان الدعم المستمر للأشخاص المرضى في المجتمع لتقليل التأثير العام للمرض على المجتمع، والخدمات العامة والاقتصاد.

ووضحت الوثيقة الإجراءات التي تم اتخاذها في كل مرحلة من المراحل الأربعة حتى الآن. وكذلك ما سيتم اللجوء اليه في حال التفشي ما سيتم اللجوء اليه في كل مرحلة من تلك المراحل.  وكان أبرز تلك الإجراءات التي سيمكن النظر فيها “إغلاق المدارس، وتشجيع المزيد على العمل في المنزل، والحد من عدد التجمعات الكبيرة” لإبطاء انتشار المرض بين السكان، مع ضمان قدرة البلد على الاستمرار في العمل بشكل طبيعي قدر الإمكان. عن طريق توجيه الموارد لزيادة قدرات القطاع الصحي على استيعاب عدد أكبر من المرضي، التنسيق مع الجيش في حال التفشي لإقامة مستشفيات ميدانية لتخفيف الضغط، وكذلك تخفيف الضغط على قطاع الشرطة، وهو ما بدأ عن طريق تأجيل الاحداث الرياضية والثقافية، وكذلك ما تم اتخاذه من تأجيل للانتخابات المحلية ورؤساء المدن حتى مايو للعام القادم.

لذا يتضح أن حكومة المملكة المتحدة تعي أنها في مرحلة ما ستلجأ لإجراءات العزل، إذا لماذا تؤخرها حتى مرحلة التفشي، ولماذا لم تلجأ للحلول الاستباقية قبل تفشي الفيروس مثل فرض الحجر الصحي أو إيقاف المدارس وغيرها من إجراءات هادفة لمنع التجمعات؟ 

إن السبب الرئيسي في ذلك يرجع إلى أن الفيروس انتشر بطريقة لا يمكن احتوائها، وأنه حتى لو لجأت البلاد لفرض حجرًا صحي وعزل البلاد، فإن هذا لا يعني عدم رجوع الفيروس للانتشار لأن الفيروس لا يوجد لقاح له حتى الأن ولم يتكون مناعة لدى المواطنين منه، وأي رجوع للحياة مرة أخرى يعنى أنه لا محالة سيرجع للظهور مرة أخرى.

لذا فإن الخيار سيكون حينها هو تخفيف عبء انتشاره وتوسيع أمد الانتشار، بحيث يتم توجيه الموارد للفئات الأكثر عرضة للخطر ككبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة، وكذلك لتخفيف الضغط على القطاع الصحي حتى لا يتعرض للانهيار وإعطاء الفرصة للباحثين لمحاولة الوصول للقاح، وأخيرًا لأبعاد ذروة الفيروس عن الفترة الحالية التي تتسم ببرودة الجو، حيث يأمل الباحثون ان يخفت نشاط الفيروس في ظل ارتفاع درجات الحرارة في الشهور القادمة.

C:\Users\Elshimaa.arfat.ecss\Desktop\AG-EPIDEMIC-GRAPH.jpg

 وفى هذا تتفق المملكة المتحدة وخطتها مع تحركات الدول الأخرى، فكل الدول تهدف بعد الأمل في القضاء على الفيروس، لمحاولة خفض مدى انتشار الفيروس ومحاولة احتوائه. إلا ان نقطة انطلاق المملكة المتحدة لتطبيق هذا تختلف عن مثيلاتها من الدول الأخرى. 

مناعة “القطيع” كسبيل لخفض حدة الفيروس

تعتمد فكرة المناعة الجماعية “مناعة القطيع” على اكتساب عدد كبير من المجتمع للمناعة ضد الفيروس. فعند الإصابة بفيروس ما والشفاء منه يحتفظ الجسم بذاكرة مناعية من المرض، لذا عند معاودته الظهور مستقبلًا فأن الشخص يقاومه ولا يصبح حامل له، لذا تقف حينها سلسلة نقل الفيروس عنده ولا ينقله لغيره. وهذه هي الطريقة التي تعمل بها اللقاحات، إذ تخلق ذاكرة مناعية ضد المرض دون الحاجة إلى الإصابة به.

وقد لجأت المملكة لهذه الفكرة بسبب طبيعة الفيروس حتى الأن، ف 80% من الحالات التي أُصيبت بالفيروس، تمر أعراضهم بشكل بسيط دون حاجة لتدخل علاجي في المستشفيات. هذا بالإضافة أنه وفقًا لبحثين ياباني وصيني، وُجد أن نسبة عودة الإصابة بالفيروس تصل ل حوالي 14% فقط.

لذا إذا طور أغلب الشعب البريطاني مناعة ضد الفيروس فأن احتمالات نقلهم الفيروس لأخرين تنخفض بشكل كبير. إلا أن هذا لا يعنى بضرورة تعريض الشعب ككل للفيروس بل ما يقرب من 60إلى 70% منه إلى الفيروس، مع ضرورة عزل الفئات المعرضة للخطر لحين ما يتكّون مناعة لدى المجتمع منه. 

وقد كان من أسباب لجوء المملكة علميًا لهذا الخيار لأن قرار الحجر حاليًا غير ذا جدوى فمن ناحية أن عدد الحالات ليس بالكبير حتى الأن، لذا في حال حجرهم الأن، ثم فك الحجر. فأن الفيروس سيعود مرة، وفقًا للخبرة مع الأوبئة السابقة، ومن ثم اللجوء للعزل مرة أخرى سيكون الخيار، بما يؤثر على مسيرة الحياة. ونظرًا لأن ذروة التفشي من المنتظر ان تكون بعد 10 على 14 أسبوعًا، فإن لا معنى للحجر حاليًا.

C:\Users\Elshimaa.arfat.ecss\Desktop\DD-COMPOSITE-CORONA-RISE-16-MARCH.jpg

بالإضافة لأن خبراء حكوميون مختصون في علم النفس السلوكي والاجتماعي وجدوا أنه مع طول فترة العزل فإن المواطنين قد يستجيبون للتعليمات بسهولة في الأسابيع الثلاثة الأولى، لكن بعد ذلك سيبدؤون بالتساهل في تنفيذ التعليمات، وهو ما قد يعيدنا إلى حالة ينتشر فيها الفيروس من جديد. وتدافع الحكومة بأنه في حال عودة الظهور للفيروس مرة أخرى الشتاء القادم فأنه سيكون أشرس بسبب عدم تكون مناعة ضده.

إلا أن العديد من العلماء اعتبروا أن تلك مخاطرة غير محسوبة. فمن ناحية أن تلك الخطة مبنية على التنبؤ بسلوك بفيروس لم يتم تفكيك تركيبه حتى الآن، لذا ليس مضمونًا أنه سيكون أكثر شراسة أو ان الإصابة به ستؤدي لتداعيات أكبر، أو سيصيب فئة لم يتم التعرف عليها حتى الأن، لذا فأنه يخاطر بانهيار المنظومة الصحية في حال تغير مسار الفيروس. بالإضافة لسوقهم تجربة الصين في تنفيذ العزل وكيف ساهمت في محاربة الفيروس بنجاح، وكيف ان التراخي في تنفيذ العزل على الجانب الأخر كلف إيطاليا الكثير. 

إذا لماذا يختار جونسون هذا الخيار المحفوف بالمخاطر؟

بالإضافة للأسباب التي سبق عرضها، سواء بتخفيف الضغط على المنظومة الصحية وإعطاء الفرصة للاستعداد لمواجهة الفيروس. فهناك أسباب أخرى قد تكون الدافع وراء تبني رئيس الوزراء وحكومته لهذا الخيار.

 من الناحية الاقتصادية، أنه يريد تخفيف الضغط على الاقتصاد في وقت ان هناك تراجعًا بالأساس بسبب البريكست، وكذلك يريد أن تسير الحياة بشكل طبيعي لأطول فترة حتى لا يكون هناك أداة ضغط جديدة عليه بيد الاتحاد تعرقل مفاوضات الخروج الحالية وتٌضعف موقفه، وهو ما يتوافق مع ما صرح به المتحدث باسم رئيس الوزراء الجمعة الموافق 13 مارس إن بريطانيا ليس لديها خطط لطلب تمديد وأن هناك سبلا لإجراء المفاوضات حتى خلال ذروة تفشي المرض. وفي غضون ذلك، سيناقش المسؤولون خيارات اجراء مؤتمرات الفيديو. 

 ومن الناحية القيمية، لطالما اهتم جونسون بكسب ثقة الشعب بشكل مباشر والعمل على اعادة التحامه، حتى وصفه العديدون بالسير على خطى تشرشل، وهو ما لا يختلف عما صرح به جونسون قديما برغبته ان يكون القائد الذي يعيد البلاد لمجدها كتشرشل الذي يعتبره قدوته. لذا فإن تبنيه لهذا الخيار والنجاح به سيساهم بلا أدنى شك في ترسيخ نجاح قيادته، وسيكون مثار اعجاب من الكثيرين.

ولكن الخسائر على الجانب الآخر لن تكون هينة، بل قد تكون مدمرة في مرحلة ما.  فلو خرج الفيروس عن المسار التي تتبعه الحكومة، ستواجه البلاد حينها انهيار لمنظومتها الصحية بسبب عدم قدرتها ولا تمام استعدادها لمجابهة الفيروس. بالإضافة أنه سيتم توجيه المزيد من المخصصات المالية لتدارك الازمة مما سيضعف موقف البلاد في مفاوضات الخروج، وسيودي بالميزانية لوضع أسوء. اما من الناحية القيمية فأنه سيزلزل المجتمع وسيؤدي لتدمير شعبيته، وتدمير حظوظ حزبه لفترة طويلة، فقد وضعت العديد من الجهات الطبية توصيات باختيار الفئات الأكثر احتمالية للنجاة وهي الأصغر سنًا، مما سيرسخ الاتهامات الموجهة لحكومته بأنه يهدف للتخلص من كبار السن، وأنه لا يهتم إلا بتحقيق المكاسب الاقتصادية. وأخيرا سيتحول جونسون من شخصية المنقذ كتشرشل للجانب لأخر من التاريخ باعتباره القائد الذي جازف بشعبه وأودى به لتحقيق مجد شخصي. 

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

الشيماء عرفات

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى