
لقاء “آبي أحمد” وقادة المؤسسة العسكرية الإثيوبية.. استمرار سياسة الهروب للأمام
مع اقتراب موعد الانتخابات الإثيوبية، وفي ظل الأزمات الاقتصادية والاحتجاجات التي تفجرت داخل الدولة الإثيوبية، إلى جانب التقسيم على الأساس الإثني، يحاول رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إعطاء رسالة طمأنة للداخل الإثيوبي من خلال تصدير صورة “إثيوبيا موحدة” والعمل من خلالها على تحقيق الرخاء الاقتصادي، وهو ما لم تقتنع به المعارضة الإثيوبية، فظهرت تحركات آبي أحمد الأخيرة من أجل كسب ود الداخل الإثيوبي، والتي ظهرت في مظهران هامان، وهما زيارة وفد من أعضاء حزب الازدهار الذي دشنه آبي إلى سد النهضة ومتابعة أعمال البناء، والآخر في اجتماع رئيس الوزراء الإثيوبي صباح يوم الاثنين 9 مارس الجاري، مع قادة في قوات الدفاع الوطني، معطيًا رسالة داخلية مفادها التأكيد على تعزيز ثقته في قواته المسلحة، وإعطاء رسالة حول توحيد القوى الإثيوبية؛ إلا أنه بإزاحة الستار عن هذه الصورة المرسومة فإننا سنقف أمام حقيقة واضحة وخلافات مستترة ومحاولات انقلاب، وواحدة من أكبر المعوقات التي كانت تقف عقبة أمام سياساته إبان توليه رئاسة مجلس الوزراء.
لقاء آبي وقوى الدفاع الوطني بين التعديلات الهيكلية والدعاية الانتخابية
جاء لقاء رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد وقادة قواته المسلحة كما أعلن من أجل مناقشة مختلف القضايا الراهنة، وتقييم التقدم المحرز في الإصلاحات الهيكلية والمؤسسية التي تجري داخل قوات الدفاع الوطني الإثيوبي، ولفت آبي إلى أن ثقته في قواته المسلحة تعززت بعد هذا اللقاء، إذ كتب عبر حسابه على موقع تويتر باللغتين الأمهرية والإنجليزية قائلاً: “أحيي قيادة وأعضاء قوات الدفاع الوطني على حبهم للوطن والتزامهم ببذل كل غالٍ ونفيس في سبيل الوطن، لقائي هذا الصباح مع القيادة عزز ثقتي في قواتنا الوطنية”.
ويأتي هذا اللقاء عقب السياسات الهيكلية التي اتخذها آبي تجاه المؤسسة العسكرية لخلق قوى داعمة له من ناحية، والاستمرار في الدعاية الانتخابية وتقويته ظاهريًا في إثيوبيا من ناحية أخرى، فقد وافق مجلس النواب الإثيوبي مسبقًا على مشروع قانون لإصلاح وإعادة هيكلة الجيش، وإنشاء مفوضية للحدود والهوية، ويتضمن مشروع القانون تعديل 8 مواد من إعلان تأسيس قوات الدفاع الإثيوبية وبناء قوات بحرية، واستحداث قوات الحرب السيبرانية والفضاء، وأشارت التحليلات أن إعادة الهيكلة في ذلك الوقت تهدف إلى إعادة تخفيض عدد القيادات المركزية للجيش في البلاد، من خلال تقليص عدد القيادات الإقليمية من 6 قيادات إلى 4.
وشرع آبي أحمد عقب توقيع إتفاقية الصلح مع إريتريا وإعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، في التواصل مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن تقديم المساعدة لتطوير وتحديث الجيش الإثيوبي، وذلك بعد أن فككت إثيوبيا قواتها البحرية في عام 1993 بعد انفصال إريتريا، باعتبارها دولة حبيسة غير قادرة على الوصول إلى البحر الأحمر، وتمثل إريتريا وجيبوتي المنفذ البحري لها، وأشارت بعض التقارير إلى أن هناك صلة بين زيارة ماكرون إلى جيبوتي ثم إلى إثيوبيا خلال جولته في منطقة القرن الإفريقي في مارس 2019، والتعهد الفرنسي بتقديم الدعم اللازم لإثيوبيا من أجل قيام القوة البحرية، والتي وفرت لأفراد البحرية الإثيوبية التدريبات في فرنسا.
ولكن حتى الآن لم يدخل الطلب الإثيوبي لباريس حول المعدات العسكرية سواء البحرية أو غيرها حيز التطبيق، نظرًا لعدم قدرة الاقتصاد الإثيوبي على تحمل تكاليف مثل هذه الصفقات العسكرية، بجانب توازنات إقليمية ودولية تراعيها باريس لا تسمح بإعطاء آبي أحمد كل ما يرغب فيه.
في ديسمبر 2019، بعد عام من إقرار مشروع قانون هيكلة الجيش، كشفت صحيفة “كابيتال” الإثيوبية في تقرير لها استضافة دولة جيبوتي للقاعدة البحرية الإثيوبية المزمع إقامتها، على أن يكون مقر قيادتها في مدينة بحر دار بإقليم أمهرة الإثيوبي شمال شرق البلاد، وبالرغم من عدم وجود تصريحات رسمية لتأكيد الخبر إلا أنه لا يوجد ما ينفيه.
هذا الطموح الإثيوبي يثير القلق بين جيرانها، خاصة إريتريا العدو التاريخي لإثيوبيا والتي لها أيضا نزاع حدودي مع جيبوتي. ويسعى آبي أحمد عبر هذه الخطوات تبني سياسة “الهروب للأمام” للتغطية على الانقسامات الداخلية والإثنية، والصراعات والانقسامات بينه وبين المؤسسة العسكرية الإثيوبية، فهو يريد تصوير الأمر باعتباره خطوة نحو عودة المجد الإثيوبي وتعزيز نفوذ أديس أبابا في القرن الأفريقي.
المؤسسة العسكرية وانقلاب ومواجهة آبي أحمد
لعل أكبر انتقاد وُجه إلى آبي كان من “وزير الدفاع” الإثيوبي ليما مجرسيا، والذي تولى حقيبة الدفاع في أبريل 2019 خلفًا لعائشة محمد موسى التي عادت لمنصبها كوزيرة لتنمية المدن والبناء، وشاركت في أعمال بناء سد النهضة، وهو منصب سياسي في الدولة الإثيوبية أكثر من كونه عسكريًا، كما كان “مجرسيا” يشغل منصب حاكم إقليم أوروميا، وحالياً هو نائب رئيس الحزب الحاكم في الولاية ويعد من أقوى الشخصيات المؤثرة في إقليم أوروميا، وشغل منصب رئيس برلمان إقليم أوروميا، قبل أن يصبح رئيسًا للإقليم في أكتوبر 2016.
مما يشير إلى وجود انقسامات بين رأس السلطة العسكرية باعتباره مركز الثقل الحقيقي في المؤسسة العسكرية الإثيوبية، ورأس الدولة قبيل الانتخابات المقبلة، والتي نشبت على إثر إعلان آبي أحمد تدشين حزب الازدهار الموحد من خلال دمج الإئتلاف الحاكم، مما جعل البعض يصنف الأمر بأن هذا الخلاف العلني قد يعرقل الخطوات المقبلة لآبي احمد، والتي حاول طمسها من خلال زيارته الاخيرة لقوات الدفاع الوطني، إلا أنها دليل على مواجهته لمشكلة عميقة بعد تخلي أهم داعميه في إثنية الأورومو.
ولم يكن هذا هو الخلاف الأوحد بين آبي والمؤسسة العسكرية، فقد حاصر أكثر من 200 عنصر من قوات أجازي الخاصة المسلحين “فرع القوات الخاصة الرئيسي في الجيش الإثيوبي” مقر رئاسة الوزراء، وهي العملية التي وصفها آبي أحمد بأنها عمل غير قانوني وغير دستوري، وذلك في خطابه أمام البرلمان، ومثلت تلك الحركة تهديدًا جديدًا لحكمه، كما اعتبرها آبي أحمد أنها كانت محاولة لاغتياله، وعليه تم القبض عليهم من قبل رئيس الأركان الجديد المعين من آبي أحمد، وصدرت عليهم أحكام مشددة.
واتخذ على إثرها أيضًا قرارًا بتأسيس فرع للقوات الخاصة المنشقة يحمل اسم “الحرس الجمهوري”، في محاولة لخلق بديل قوي داعم لسياسته وتوجهاته. وتبع ذلك ونتيجة لسياسات آبي أحمد تجاه المؤسسة العسكرية “محاولة الانقلاب” في يونيو 2019 في الذكرى الأولى لمحاولة اغتيال رئيس الوزراء الإثيوبي في يونيو عام 2018؛ حين شهدت ساحة “مسكل” بالعاصمة أديس أبابا تفجيرًا خلال تجمع جماهيري لأنصار آبي أحمد، في ظل النزاعات مع الدول المجاورة من جهة، والصراعات العرقية الداخلية من جهة أخرى.
فقد قُتل رئيس ولاية أمهرة “أمباتشيو ميكونين” ومستشاره “إزيز واسي” في مدينة “بحر دار”، والنائب العام للولاية “ميجبارو كبيدي” بعد تعرضه لإصابة أدت إلى وفاته بعد يومين، مما دفع الشرطة إلى قتل الجنرال “أسامينيو تسيجي” رئيس جهاز الأمن في ولاية أمهرة، وهو الرجل الذي وُصف بأنه العقل المدبر لمحاولة الانقلاب بحسب تقارير إعلامية إثيوبية؛ فيما قُتل قائد الجيش الإثيوبي الجنرال “سياري ميكونين” المنتمي لقبيلة التيجراي الذي انتقده أبناء طائفته لتقربه من السلطة الحاكمة بقيادة آبي، وقتل اللواء المتقاعد “جيزاي أبيرا” أثناء محاولة إحباط الانقلاب في العاصمة أديس أبابا على يد أحد حراسه الشخصيين، وعلى إثر ذلك قامت السلطات الإثيوبية بالإعلان عن توقيف 56 عضوًا بحزب حركة الأمهرة السياسي، وفرار عدد قليل من المشاركين في محاولة الانقلاب.
يذكر أن تسيجي الذي وصفته المتحدثة باسم رئاسة الوزراء “بيلين سيوم”، بالعقل المدبر للعملية- كان من ضمن القادة العسكريين، وقضى 9 سنوات داخل السجن لاتهامه بالتخطيط لقلب نظام الحكم والإطاحة برئيس الوزراء الأسبق “ميلس زيناوي”، وذلك بالتنسيق مع جماعة “جينبوت” والتي تم تصنيفها من قبل الحكومة الإثيوبية كجماعة إرهابية، وأُفرج عنه ضمن سياسة آبي أحمد الإصلاحية التي تبناها فور توليه الحكم في أبريل 2018.
وفي ظل الاحتجاجات الأورومية وعملية الانقلاب التي حدثت في \إقليم الأمهرة، وهما الإقليمان اللذان اتحدا تاريخيًا من خلال تحالف الثوار في إسقاط حكم منجيستو هيلي ميريام، أفرزت العملية الانتخابية تشككًا من إحراز آبي أحمد للأغلبية عقب حادثة الانقلاب الأخير في الأمهرة.
آبي أحمد وحملة الاعتقالات ضد القوات المسلحة
وجاءت تلك المواجهات عقب سلسلة من السياسات التي اتخذها آبي أحمد ضد القوات العسكرية سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، فعائشة موسى بعد تولي وزارة الدفاع، شنّت حملة ضد الشركة التابعة للجيش الإثيوبي “ميتيك”، وهي الشركة المشرفة على أعمال بناء السد الإثيوبي، فقامت الشرطة باعتقال المدير التنفيذي لشركة ميتيك “اللواء كينف دانيو” المستقيل عقب تولي آبي أحمد السلطة، كما اعتقلت الرئيس السابق لوكالة أمن شبكات المعلومات العميد تكل برحان ولد أرجاي، الذي يواجه تهمًا بالفساد هو الآخر، حيث توصلت لجنة برلمانية بحسب وكالة الأنباء الإثيوبية إلى أن شركة “ميتيك” أهدرت مئات الملايين من الدولارات، في إنتاج الأجهزة دون دراسة شاملة عن السوق لمنتجاتها، وتعد شركة “ميتك” المجمع الصناعي العسكري في البلاد وتأسست عام 2010.
وفي الوقت الذي انتهج فيه آبي أحمد ما أسماه سياسات إصلاحية ساهمت في عودة مسلحين وخروج معتقلين سياسيين، أعلن الادعاء العام الإثيوبي عن توقيف 63 من كبار ضباط الجيش وجهاز الاستخبارات بتهم فساد وانتهاك حقوق الإنسان، في حملة شنها آبي أحمد ضد الجهاز العسكري لاستعادة السيطرة على مفاصله، وانتهاج مبدأ التغيير الحذر في القيادات العسكرية، إذ كانت المؤسسة العسكرية من أكبر التحديات التي يواجهها أبي أحمد منذ توليه.
فمنذ اليوم الأول لتوليه أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي عن حملة تغييرات في القيادات العليا للمؤسسة، بدأت بتكريم رئيس أركان قوات الدفاع الوطني الإثيوبي، وتعيين “سياري ميكونين” والذي ينتمي لجماعة التيجراي، في ضوء الحفاظ على التوازن الموجود في الائتلاف الحاكم وسيطرة التيجراي على المؤسسة العسكرية. هذا إلى جانب إنهاء خدمة رئيس جهاز الأمن والاستخبارات الوطني، باعتباره الذراع المعلوماتي للمؤسسة العسكرية.
وجاءت هذه التغييرات من أجل استعادة سيطرة آبي أحمد على المؤسسة العسكرية، والتي طالب على إثرها البرلمان بإجراء تعديلات هيكلية.
لماذا اتبع آبي سياسات لتقييد المؤسسة العسكرية؟
وترجع تلك السياسات التي انتهجها آبي أحمد منذ وصوله لسدة الحكم بالرغم من انتمائه السابق للمؤسسة العسكرية، إلى اعتبار العلاقة مع المؤسسة العسكرية أكثر الملفات صعوبة واجهته منذ توليه الحكم، ويرجع ذلك لكون هذه المؤسسة هي الأكثر تأثيرًا في الحياة السياسية الإثيوبية، والتي من خلالها يمكن تثبيت الحكم أو تفكيكه، حيث تسيطر جماعة التيجراي –الأقلية الحاكمة قبل آبي- على المناصب القيادية العسكرية بشكل يكاد يتفوق على سيطرتها السياسية.
ومن الهيمنة السياسية العسكرية للهيمنة الاقتصادية للمؤسسة العسكرية من خلال القوى الاقتصادية للجيش، والتي ساعدت على تحقيق معدلات النمو الاقتصادي في البلاد، وتمتعها بنوع من الاستقلالية، دفعت آبي أحمد لاتخاذ إجراءات لمحاولة السيطرة على الاستقلال الاقتصادي للمؤسسة من خلال حملة الاعتقالات “الحذرة” التي قادها إثر اتهامات الفساد لأشخاص كانوا قد تركوا مناصبهم بعد توليه. هذا إلى جانب دور المؤسسة العسكرية في احتواء الأزمات الداخلية والاحتجاجات العرقية، وتأمين الحدود الملتهبة وقدرتها على فرض سيطرتها على الداخل الإثيوبي.
وسط المحاولات الإثيوبية لبناء صورة مفادها أن إثيوبيا الموحدة مدعومة بقوة عسكرية، فإن آبي أحمد ذاته انتهج سياسات لإعادة بناء الثقة مع المؤسسة التي تعقدت علاقتها معه إثر العديد من التغييرات ومحاولات بناء الثقة وخلق قوى جديدة متمثلة في الحرس الجمهوري، وسبقها عملية الهجوم من القوات الخاصة ومحاولة الانقلاب الفاشل ضده ومحاولة اغتياله، والتي اتخذ على إثرها سياسات اعتقالية من أجل استعادة السيطرة؛ إلا أن الانتقادات الأخيرة من رأس المؤسسة العسكرية ووزير الدفاع “ليما مجرسيا” الذي انتقد علانيةً سياسة آبي أحمد الحزبية والاحتجاجات الأورومية ومحاولة انقلاب الأمهرة ذو التاريخ السابق من الاتحاد لقلب نظام الحكم، قد يضعه أمام معضلة جديدة من الخلافات قبيل الانتخابات القادمة من المؤسسة العسكرية ذاتها، قبل الشعب الإثيوبي الذي يحاول استقطابه مرة أخرى.
باحثة بالمرصد المصري



