
من طرف في الأزمة إلى محايد لها…الموقف السوداني من مفاوضات سد النهضة
منذ شروع إثيوبيا في وضع حجر الأساس لسد النهضة في إبريل 2011 تتخذ السودان موقفًا متأرجحًا من الأزمة. فعلى الرغم من أن موقفها بدا حريصًا على حصتها المائية، وانعكس ذلك في رفضها الانضمام لاتفاقية عنتيبي، وكذا موقفها التفاوضي في الفترة من 2011 وحتى 2013، إلا أنها بدأت تدريجيًا تتخذ موقفًا محايدًا، وصل في مراحل كثيرة، خاصة بعد 2013، إلى الانحياز للموقف الإثيوبي، وذلك دون أي منطق يبرر سوى أن “نظام البشير” في مراحل كثيرة كان يجد مصالحة في معارضة الجانب المصري، والانحياز للجانب الإثيوبي، متجاهلًا في ذلك المصالح الجيوسياسية السودانية، إذ وجد مصالحه في أحيان كثيرة تتحقق عبر إبتزاز الطرفين، والمقايضة على مصالح السودان من أجل ضمان بقائه في الحكم.
وفي هذا الصدد، أعلن الرئيس السوداني السابق عمر البشير عن أهمية سد النهضة للسودان في مناسبات كثيرة، وترجع بعض الآراء الموقف السوداني إلى حصوله على احتياجاته الكهربائية من إثيوبيا، فضلًا عن التقاء مصالحه مع مصالح الجانب الإثيوبي، وخاصة موقفها من تسليمه للمحكمة الجنائية الدولية.
واتصالًا بهذا الموقف الرسمي للنظام السودانية، الذي كان موقفًا سياسيًا، غير متضمنًا للأبعاد الفنية، والمصالح الجيواستراتيجية السوادنية، جاءت المواقف التفاوضية السودانية محايدة وكأنها وسيط وليس شريكًا في الأزمة، وتغلفت كافة المواقف التفاوضية بالمواقف السياسية، دون أخذ الأبعاد الفنية في الاعتبار، كما أنه كان يتم استبعاد كل من هو معارض من الخبراء والفنيين السودانيين لهذا الموقف الرسمي من الوفود التفاوضية السوادنية.
ورغم عملية الابتزاز الممنهجة للجانب المصري التي اتبعها البشير طيلة مراحل الأزمة، إلا أنه مع مطلع العام المنصرم، واشتداد الاحتجاجات ضده، واختلال توازنه الداخلي، وتنامي الحاجة للدعم المصري، اتجه إلى التحول في الموقف نسبيًا.
ومع رحيل نظام البشير، ثارت التخوفات الإثيوبية من إمكانية تحول نظام الحكم الجديد في السودان عن دعم سد النهضة، إلا أنه وبالرغم من اتخاذ المجلس السيادي موقفًا أكثر إيجابية حيال الدول العربية بما فهم مصر، إلا أن ذلك لم ينعكس على موقف صريح من “سد النهضة” حتى لحظتنا الراهنة.
الموقف التفاوضي السوداني
مع رحيل النظام السابق، أصبح السؤال الحاضر بالنسبة لملف سد النهضة، هو كيف يبلور السودان الجديد موقفًا تفاوضيًا جديدًا من تلك القضية، وهل سيسير على نفس النهج السابق، أم أنه سيعمل على إعادة التوازن الاستراتيجي بين مصر وإثيوبيا، يستند هذا التوازن بداية في توازن الموقف التفاوضي، الذي يأخذ في الاعتبار المصلحة القومية ويعيد تقدير الموقف وفقًا لدراسات فنية رصينة، محيدة تمامًا للأبعاد والمواقف السياسية.
فلم توقع السودان على اتفاقية عنتيبي، التي وقعت عليها ست دول من حوض النيل، والتي استندت إليها إثيوبيا عند الشروع في بناء السد. ومع ذلك اتسم موقف السودان بالتعامل مع الأزمة كوسيط وليس شريكًا فيها.
ومنذ بدء المفاوضات بين الدول الثلاث ” إثيوبيا- مصر – السودان”، ولم تتخذ السوادن موقفًا مناهضًا للموقف الإثيوبي المتعنت، فمنذ الاجتماع الأول للجنة الثلاثية التي تضم مصر وإثيوبيا والسودان للتباحث حول صياغة الشروط المرجعية للجنة الفنية وقواعدها الإجرائية، في سبتمبر 2014، والاتفاق في أكتوبر من العام نفسه بين الأطراف الثلاثة على اختيار مكتبين استشاريين لعمل الدراسات المطلوبة للسد، والسودان تتبنى موقفًا سلبيًا من الدفع قدمًا بإنجاح المفاوضات.
وفي مارس 2015، تم توقيع “إعلان المبادئ” بين الرئيس السيسي والبشير ورئيس الوزراء الإثيوبي السابق “ديسالين”، كما تم التوقيع على وثيقة الخرطوم في ديسمبرمن العام نفسه، بين وزراء خارجية الدول الثلاث، تضمنت التأكيد على اتفاق إعلان المبادئ الموقع من قيادات الدول الثلاث.
ومع صدور التقرير المبدئي حول السد في مايو 2017 وهناك خلاف بين الدول الثلاث، وممطالة في المفاوضات، إلى أن قام الرئيس المصري بطرح القضية في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي.
كما أنه لم يتضح موقف السودان مع احتدام الموقف المصري الإثيوبي عقب الجلستين التفاوضتين اللتين عقدتا في مصر والخرطوم في سبتمبر وأكتوبر الماضيين، واللتين أسهمتا في اتجاه مصر نحو عرض الموقف دوليًا في الأمم المتحدة.
وعلى الرغم من التحول في الموقف، إلا أنه لا يزال تحول حذر، إذ أن السلطة الانتقالية التزمت الصمت لفترة على النحو الذي بدت معه وكأنها لا تزال منحازة لإثيوبيا، إلى أن وافقت متاخرًا على الانضمام للقاء برعاية واشنطن في السادس من نوفمبر الماضي، وذلك بعد أن أعلن الجانب الإثيوبي موافقته على الحضور.
تحولات الموقف
يستند التحول في الموقف إلى التحول في طبيعة الفواعل الداخلية، وخاصة من جانب قوى الحرية والتغيير، والتي مثلت عامل ضغط على الحكومة السودانية الجديدة، ودفعتها نحو تبني موقفًا مناهضًا للمواقف السابق، إلا أن السودان حتى الآن لم يتبنى سياسة خارجية جديدة.
إذ عكست التفاعلات الداخلية إمكانية التحول في الموقف، مع الضغوط التي تعرض لها رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، من قبل قوى الحرية والتغيير، وقوى المجتمع المدني والخبراء المتخصصين، وفي هذا السياق، شهد السودان نقاشات موسعة بين النخب السياسية، بما فيها الأحزاب السياسية، التي مثلت ضغط على رئيس الوزراء، ومطالبته بضرورة تبني موقفًا واضحًا، يستند إلى دراسة المخاطر والمكاسب السودانية بشكل موضوعي، والتحذير من خطورة الصمت السوداني، وترك القضية بين مصر وإثيوبيا فقط. وبالتالي يتعين على السودان تبني موقفًا رسميًا واضحًا بعيدًا عن التردد والتذبذب.
وفي السياق ذاته، جاءت تحولات في الموقف الإعلامي السوداني، الذي كان يتبنى موقفًا مهاجمًا لمصر في مراحل سابقة، إذ أظهرت المعالجات الإعلامية والصحفية السودانية تحولات في الموقف السوادني، الذي كان مدفوعًا بمدركات متحيزة في السابق.
وفي سياق متصل، اتجهت الأحزاب والمجتمع المدني نحو تبني منهجًا موضوعيًا في التعامل مع الأزمة، من خلال تشكيل مجموعات لدراسة الأزمة موضوعيًا بأبعادها المتعددة، على غرار ” مجموعة مخاطر سد النهضة” وغيرها، مما يمثل ضغطًا على النظام السوداني.
وبالتالي تفرض هذه الضغوط على السودان ضرورة خلق إطارًا مؤسسيًا شاملًا يضم كافة الأطراف المعنية، فنياً واقتصاديا وبيئيا واجتماعيا وعسكرياً وأمنيا ودبلوماسيا، وكافة المجالات ذات الصلة لتدرس هذا القضية بعمق استراتيجي شامل لتتخذ القرار الذي يحفظ للسودان استقراره وأمنه ومصالحه الجيواستراتيجية الراهنة والمستقبلية.
وبالفعل مثلت هذه المطالبات ضغطًا على رئيس الوزراء، ففي تصريح “لحمدوك” مع جريدة الأهرام المصرية منذ شهرين، أكد أن موقف السودان من سد النهضة هو نفسه موقف مصر بل إنه معها في كل خطوة، فالسودان دولة في المنتصف بين إثيوبيا وبين مصر، وأي تأثير لسد النهضة سيكون السودان أول المتأثرين، مؤكداً أن بلاده، لن تسمح بحدوث أي ضرر لمصر، والسودان، وأن مصالح الخرطوم تتفق مع رؤية مصر من السد، وبالتالي لا بد من التفاهم والتنسيق بين الدول الثلاث في إدارة وتشغيل السد.
خلاصة القول، جاءت كافة المواقف لتعكس عدم الإجماع في الموقف السوداني، وأن هناك الكثير من المواقف والآراء الرافضة للسد، أو على الأقل غير متفقة مع وجهة النظر السابقة، ومع ذلك أوضح الموقف السوداني الأخير من التوقيع على الوثيقة المطروحة على خلفية المفاوضات التي رعتها واشنطن، تردد الجانب السوداني، إذ تغيبت إثيوبيا، فيما امتنعت السودان عن التوقيع، بل وتحفظت على بعض بنود الاتفاق، مشترطة عدم التوقيع بدون حضور الجانب الإثيوبي، ما يعكس أن الموقف السوداني لا زال مذبذبا، أو على أقل تقدير أنه لا زال يقف مبتعدًا عن المسافة التي تقف بها مصر، لكن يبقى موقفه المتسق مع الموقفين المصري والأمريكي من رفض بدء ملء وتشغيل سد النهضة دون توقيع اتفاق بين الدول الثلاث.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية



