سوريا

الضرب الصامت .. حرب الدرونز تتصدر المعارك الطاحنة في إدلب والجيش التركي يطلق عملية “درع الربيع”

هدأت لبرهة من الزمن أصوات الرشقات الكثيفة المتبادلة للمدفعية الثقيلة في آخر جيب عسكري للمسلحين في إدلب شمال غربي سوريا؛ لتحل محلها أصوات أزيز، خافتة، تحمل الموت الصامت جراء ظهورها بين الفينة والأخرى.

إنها معركة الطائرات المسيرة الغير مأهولة، الأكبر في العالم حالياً، تجري رحاها في سماء إدلب، وتحمل الموت الصامت لأهدافها من فوق أربعة آلاف قدم. وذلك بعدما تكبدت تركيا أكبر خسارة لها في سوريا بعد مقتل 34 من جنودها في قصف جوي مرُكّز، نسبته أنقرة لدمشق، استهدف رتل عسكري تركي بالكامل، الخميس الماضي.

تزامنت الخسارة التركية الكبيرة، مع انتهاء المهلة التي وضعها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان كي يتراجع الجيش السوري عند حدود سوتشي 2018، أي خلف نقاط المراقبة التركية التي بات يُحاصر منها حوالي 9 نقاط حتي الآن. فيما يبدوا أن ما شاهده العالم في إدلب قبل 27 من فبراير الفائت، قد يختلف عما سيأتي لاحقاً لهذا التاريخ، جراء الاستجابة التركية “النوعية” ومداها الذي تخطي الميدان السوري، ليصل ناحية حدود الاتحاد الأوروبي، وإثر الإصرار الروسي علي عدم السماح لأنقرة فرض وقائع ميدانية تصب لصالحها في مسارات التسوية السياسية للأزمة السورية “أستانا  – سوتشي”، و حل معضلة جيوبها العسكرية الأخيرة في الشمال الغربي. فكيف جاءت الاستجابة التركية وما مستقبل تعاطي موسكو معها؟

أولاً: “الدرونز” التركي تتصدر المعارك 

لدى أنقرة أسطول متقدم من الطائرات المسيرة، مطور محلياً، وتشكل طائرتان عموده الفقري، لمهام الاستطلاع والاستخبار الالكتروني والمراقبة والقصف الدقيق، هما “بيراقدار تي بي2″، و ” أنكا – إس”. الطائرة الأولي “بيراقدار” لديها القدرة علي الطيران لـ 25 ساعة متواصلة، وقادرة علي حمل الصواريخ والذخائر الذكية، الليزرية، ولاسيما تلك المضادة لأهداف تشكيلات المشاة – الميكانيكي المدرع (MAM-L and MAM-C)، كما يبلغ مدي عملياتها لـ 150 كم، وتطير علي ارتفاع 8 كم. أما الطائرة الثانية “أنكا – إس”، فتعتبر أحدث قطع اسطول الطائرات المسيرة المسلحة في تركيا، دخلت الخدمة في عام 2018، ولديها القدرة علي الطيران لـ 42 ساعة متواصلة ضمن ارتفاع 3 آلاف قدم، مع قدرة علي الربط المعلوماتي مع المراكز الأرضية والمقاتلات الأخرى لمدي 200 كم. مع حمولة من الذخائر الذكية تبلغ 200 كغ. 

تفرض روسيا مظلة جوية تغطي غالبية الأجواء السورية ولاسيما تلك الشمالية الغربية، بواسطة أحدث منظومات الدفاع الجوي الصاروخية ومحطات الإنذار المبكر. وتفرض عبر تشغيلها الكامل لمنظومة إس – 400 في قاعدة حميميم باللاذقية؛ حظراً جوياً على المقاتلات التركية. إذ حرمت موسكو أنقرة من استخدام مقاتلات الإف 16 لديها والمروحيات الهجومية وحتي مروحيات الإخلاء الطبي، في معارك إدلب الجارية منذ مطلع ديسمبر الفائت. ونتيجة  لذلك، لجأت تركيا للاعتماد بشكل شبه كلي، علي اسطول طيرانها المُسير الغير مأهول، لمهام المراقبة والاستطلاع والاستخبار الإلكتروني، وتوفير التغطية والإسناد الجوي لوحدات الجيش التركي، وأيضاً التشكيلات المسلحة الهجينة من فصائل “الجيش الوطني السوري”، وجبهة النصرة.

بيد أن نقطة التحول في طريقة استخدام أنقرة لأسطول طيرانها المُسيّر، كان بعد القصف الجراحي الدقيق، الذي استهدف رتلاً عسكرياً كاملاً وأوقع نحو 34 جندي كحصيلة أولية، حيث أطلقت تركيا العشرات من الطائرات، فوق إحداثيات المناطق التي تشهد قتالاً متلاحما بين وحدات الجيش السوري والتشكيلات المسلحة الهجينة الموالية لها، وقامت بعمليات قصف واستهداف مركزة، طالت مرابض المدفعية المقطورة وذاتية الحركة، والآليات المدرعة، وعناصر المشاة. 

أما الاستهداف الأهم فكان في قصف أنقرة عبر هذه الطائرات مراكز قيادة العمليات التابعة للجيش السوري في إدلب، حيث أوقعت حصيلة ثقيلة من القتلى في  صفوف كبار الضابط، وصلت لمقتل 11 ضابطاً ضمن تشكيلات الحرس الجمهوري، منهم قائد اللواء 134 حرس جمهوري، اللواء الركن برهان رحمون. طبيعة هذه الضربة تؤشر للدور الذي تلعبه تلك الطائرات في مهام المراقبة ودعم عمليات الاستخبارات، حيث تمت بعد ساعات قليلة من بدء الاجتماع الأمني الطارئ الذي دعا إليه الرئيس التركي بعد مقتل 34 من الجنود الأتراك، ليلة الخميس الماضي.

تُمكن البصمة الرادارية والحرارية الصغيرة للطائرات المسيرة التركية من الإفلات منظومات الدفاع الجوي المتقدم، كـ “بانتسير – إس“، فضلاً عن شن تركيا لعمليات تشويش وحرب إلكترونية من وحدات قريبة من الحدود السورية بالتزامن مع بدء الهجوم الجوي الغير مأهول عبر الطائرات المسيرة. 

كما أن اعتماد تشكيلات الجيش السوري علي مضادات الطيران التقليدية 23 ملم، جعل غالبية الأهداف السورية تندرج ضمن “صيد سهل” ما دفع بدوره لميل كفة التشكيلات المسلحة الهجينة من خلال:

  • استعادة سيطرة التنظيمات المسلحة علي مدينة سراقب وقطع الطريق الدولي “إم5” مرة أخري.
  • تحقيق تقدمات ملموسة في جنوب إدلب ومنطقة سهل الغاب، وحصار بلدة كفرنبل التي تمكن الجيش السوري من تحريرها قبل عدة أيام.

لتغطي الطائرات المسيرة التركية، كل جبهة تقاتل فيها التنظيمات والفصائل الموالية لها تقريبا. ما دفع  الجيش السوري إلي إعلانه غلق الأجواء أمام حركة الطيران في شمال غربي سوريا، واستهدافه أية خروقات يطالها.

وعليه، استهدف الجيش السوري صباح اليوم، طائرة تركية مسيرة من نوع “أنكا – إس”، واللافت أن الجماعات المسلحة احتفت بهذا الاسقاط ظناً منها أنها طائرة سورية.

فيما ردت تركيا علي هذا الاسقاط، بقصف منظومة الدفاع الجوي السوري التي تولت مهمة الإسقاط، واستهدف طائرتين سوريتين طراز سوخوي – 24 فوق إدلب اليوم. تجدر الإشارة أن اسقاط تركيا للطائرات السورية تم من داخل الحدود التركية وبواسطة مقاتلات الإف -16. حيث تملك صواريخ جو – جو لمدي يتعدي الـ 100 كم.

بدورها أكدت وكالة “سانا” الرسمية السورية سقوط طائرتين في إدلب وأشارت لنجاة طاقم احداهما حيث تم مشاهدته من الطائرة المستهدفة بالمظلات في مناطق خاضعة لسيطرة الجيش السوري.

وأشارات تقارير جديدة بإسقاط الدفاعات السورية لطائرة تركية مسيرة أخري طراز “انكا – اس”.

ثانياً: اشتعال جبهة الجنوب السوري.. والعودة لعمليات الاستخبارات

إثر تحليله للعمليات التفجير الغامضة التي تعرضت لها العاصمة دمشق منذ مطلع فبراير الماضي، توقع المرصد المصري في ورقته المنشورة سابقاً عن “الصراع في إدلب“، أن تظهر جبهة الجنوب مجدداً في خريطة الصراع اليومي في سوريا. 

حيث كان للتفجيرات التي تعرضت لها العاصمة دمشق، طابع استخباري، ولاسيما  بعد استهداف عنصر من الاستخبارات السورية، عبر زرع وتفجير عبوة ناسفة في سيارته. كما بلغ عدد تلك التفجيرات حتي الآن 7، وجميعها استُخدِم فيها العبوات الناسفة. بالتزامن مع ذلك التفجير، اندلعت اشتباكات عنيفة صباح اليوم في ريف درعا الشمالي، سبقتها عمليات قتل عشوائية قام بها مسلحون سابقون بحق جنود سوريين خلال اليومين الماضيين.

https://twitter.com/SyriaGeneral/status/1234010061376303105?s=20



وتعد الاشتباكات الجارية في هذا المسرح، هي الأكبر منذ أن بسط الجيش السوري سيطرته علي المحافظة عام 2018. يُلاحظ انتماء المجموعات المسلحة في ريف درعا الشمالي لمصفوفة التنظيمات والفصائل المسلحة الموالية لتركيا في سوريا، ما ينبئ بتوظيفها لتهديد العاصمة دمشق، وتشتيت الجهد الحربي المتركز في الشمال الغربي، فضلاً عن تهديد عناصر الاستخبارات السورية في دمشق بسلاح العبوات الناسفة.

ثالثاً: مرة أخري .. اللاجئين كورقة ضغط لحشد الموقف الأوروبي

فور عقد الاجتماع الأمني الطارئ في قصر الرئيس التركي، في إسطنبول، وبحسب مصادر خاصة للشرق الأوسط، اتُخِذ قرار “فتح الأبواب”. 

فبحسب مصدر حكومي تركي لرويتز، أمرت تركيا وحدات الدرك وحماية السواحل بعدم اعتراض او منع عبور اللاجئين للحدود البرية أو البحرية مع اليونان، كما شوهد في لقطات بثها التلفزيون التركي الرسمي حافلات تُقِل مئات المهاجرين، منهم الآسيويين والافارقة صوب الحدود مع كل من اليونان وبلغاريا.

“ما الذي قمنا به بالأمس؟ فتحنا أبوابنا”، مضيفاً: “لن نغلق هذه الأبواب، لماذا؟ لأن على الاتحاد الأوروبي أن يفي بتعهداته.”

هكذا تحدث الرئيس التركي، السبت الماضي، أمام جمع من حزب العدالة والتنمية. في تأكيد واضح للمؤشرات والتقارير التي تحدثت عن عمليات النقل الممنهجة التي تمت تحت إشراف الحكومة التركية للاجئين ونقلهم قبالة الحدود. 

لكن الأرقام تخطت سقف توقعات المحللين والمعنيين بشؤون اللاجئين في تركيا. حيث وصلت الأعداد النازحة لقرابة 70 ألف.

كما اندلعت عند الحدود التركية صدامات بين الشرطة اليونانية وآلاف المهاجرين الذين تجمعوا عند نقطة العبور إلى أراضي الاتحاد الأوروبي. وألقى مهاجرون الحجارة على عناصر الأمن اليونانيين الذين أطلقوا الغاز المسيل للدموع عبر الحدود، لكن عشرات المهاجرين الآخرين وصلوا إلى جزر يونانية بعدما عبروا من الجانب التركي. حيث وصل بالفعل نحو 180 مهاجراً إلي جزر شرق بحر إيجة علي متن قوارب مطاطية. 

تحاول تركيا استخدام ورقة اللاجئين للضغط علي الدول الأوروبية وتحشيد موقف أوروبي ضاغط بدوره علي الانخراط الروسي الجاد والقوي في ميدان المعركة في إدلب. ما يكشف زيف الخطاب الأخلاقي الذي تتبناه تركيا في قضية اللاجئين. 

خاتمة

الاستجابة التركية لخسائرها الفادحة في سوريا، جاءت لتدفع مع معطيات المعركة وخطوطها الحمراء، حرب “الدرونز”، واشعال جبهة الجنوب، وعودة لعمليات ذات طابع استخباراتي في قلب العاصمة السورية، وإعادة دفق المهاجرين واللاجئين مرة أخري للداخل الأوروبي. لكنها عبرت عن حجم الخلافات في جلسات المباحثات على المستوي الدبلوماسي والعسكري والاستخباراتي والتي تنعقد في أنقرة، بعد الاتصال الهاتفي بين بوتين واردوغان، الجمعة الماضية، حيث مازلت بعض الملفات عالقة أمام بزوغ ارتفاق جديد في إدلب، أبرزها:

  • المساحة: حيث يصر الجانب التركي علي دفع القوات السورية وراء نقاط المراقبة في شمال حماة وجنوب أدلب بموجب اتفاق سوتشي 2018، لكن الوفد الروسي مازال يرفض هذه المطالب. 
  • الإرهابيون: أبلغ الجانب الروسي أنقرة، بحق الجيش السوري في ملاحقة الإرهابيين المصنفين بموجب قرارات مجلس الأمن الدولي، فيما تماطل تركيا في الالتزام ببنود سوتشي 2018، التي ألزمت الجانب التركي بفصل الإرهابيين عن “المعارضة المعتدلة”، ونزع سلاحهم الثقيل. يبدوا ذلك تحقيق ذلك بعيداً في الوقت الراهن ولاسيما بعد تولي جبهة النصرة قيادة العمليات في جنوب إدلب تحت إسناد مدفعي وتسليحي تركي.
  • جبل الزاوية: دخل اليوم رتل عسكري تركي كبير، قوامه عشرات الدبابات والآليات المدرعة ومئات الجنود، للأراضي السورية عبر معبر باب الهوي، في اتجاه جبل الزاوية. حيث تضغط موسكو لتمكين القوات السورية من جبل الزاوية للوصول لطريق حلب – اللاذقية “إم4”. فيما تستهدف تركيا إبعاد وحدات الجيش السوري خلف معرة النعمان وخان شيخون، وهو ما يفسر حجم العتاد التركي المرسل لهذه المنطقة ونشاط التنظيمات والفصائل المسلحة هناك، حيث تمكنت بالفعل من السيطرة علي بعض القري والبلدات دون تهديد كبير لمكاسب الجيش السوري في هذا المحور الجنوبي.

تعثر الملفات العالقة للتوصل لاتفاق يقدم لإردوغان مخرج لائق من مستنقع الحرب اللانمطية في إدلب، دفعه للتوجه نحو المعسكر الغربي مرة أخري، بتكتيكين مختلفين، الأول، جاء عنوانه الابتزاز بملف اللاجئين، والثاني، جاء ضمن محاولة تركيا تسويق جهودها الميدانية لدي الإدارة الأمريكية التي باتت تبحث هي الأخرى منذ سنوات عن بروتوكولات أمنية تسمح لها بتخفيف أعبائها الأمنية في المنطقة وتسليمها لوكلاء من القوي المتوسطة مقابل الاعتراف بادوارهم في العديد من الأزمات. حيث حاول جذب الاهتمام الأميركي بإعلان أنقرة أن “درون” تركية قصفت غرفة عمليات تضم عناصر من الحرس الثوري الإيراني وحزب الله المصنفين إرهابيين بالنسبة لإدارة ترامب. لكن الإدارة الأمريكية رفضت طلباً تركيا بتنصيب منظومة الدفاع الجوي الصاروخي باتريوت، واكتفت بالدعم الدبلوماسي نكاية في موسكو. ما يدفع باستمرار المواجهة علي تكتيكات مغايرة، تماماً كما تسيدت “الدرونز” المعركة ليومين متواصلين.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى