
التحركات المصرية في سوريا والعراق لمواجهة الأطماع التركية بالمنطقة
يسعى النظام التركي منذ سنوات إلى تعزيز نفوذه بعدة مناطق في سوريا لتحقيق أطماعه هناك، من خلال تبني استراتيجية تعمل على تمتين الوجود العسكري التركي بشمال سوريا، بالتزامن مع دعم الجماعات الإرهابية المسلحة للدخول في قتال ضد قوات الجيش الوطني السوري، وانتهاء بالسعي لتغيير التركيبة السكانية في شمال سوريا والعمل على “تتريكها” تمهيدًا لضمها بشكل نهائي في المستقبل.
وانطلاقا من أن الأمن القومي المصري يمر عبر دمشق كإحدى دوائره وخط الدفاع الأول شرقًا، فقد تحركت القيادة المصرية لمواجهة هذه الأطماع، واحتلت الأزمة السورية مرتبة متقدمة في قائمة أولويات السياسة الخارجية المصرية، وهي السياسة التي تقوم على أهمية دعم الدولة الوطنية ومؤسساتها، وهو الأمر الذي يتعارض مع توجهات النظام التركي التي تعتمد بشكل أساسي على دعم الجماعات المسلحة وأنشطتها لفرض سيطرتها والوصول لسُدة الحكم، لتخدم على مشروعه التوسعي في الإقليم.
التحركات المصرية تجاه الملف السوري منذ 2015
تأتي التحركات المصرية منذ عام 2014 تصحيحا للوضع، بعد أن اتخذت السياسة المصرية منحى خطيراً إبان حكم جماعة الإخوان الإرهابية لمصر، ففي صيف عام 2013 دعا محمد مرسي الرئيس المعزول في مؤتمر نصرة سوريا للجهاد في سوريا، وهو الأمر الذي حمل خطورة كبيرة نتيجة مباركة أعلى سلطة في الدولة المصرية انذاك، لتدفق سيل المقاتلين الأجانب إلى الأراضي السورية.
وحدد الرئيس عبد الفتاح السيسي خمسة أبعاد أساسية للموقف المصري من الوضع في سوريا، وذلك في الحوار الذي أدلى به لرؤساء الصحف القومية في 22 أغسطس 2016، وهذه المحددات هي (احترام إرادة الشعب السوري، وإيجاد حل سلمي للأزمة والحفاظ على وحدة الأراضي السورية، ونزع أسلحة الميليشيات والجماعات المتطرفة، وإعادة لإعمار سوريا وتفعيل دور مؤسسات الدولة).

وفي إطار هذه المحددات رعت مصر مؤتمرين متتالين للمعارضة السورية خلال شهري يناير ويونيو في عام 2015، للعمل على بناء معارضة سورية تؤمن بالدولة المدنية الديمقراطية، وصدرت وثيقة عرفت باسم “خريطة طريق للمعارضة السورية” تضمنت عشر نقاط وأكدت على استحالة الحسم العسكري للأزمة وضرورة التسوية السياسية التفاوضية.
وفي يوليو 2017 لعبت مصر دور الوسيط للتوصل إلى هدنة في غوطة دمشق، بعد محادثات جرت في القاهرة بين مسؤولي وزارة الدفاع الروسية والمعارضة السورية المعتدلة ممثلة في تيار الغد المعارض برئاسة أحمد الجربا، وتم التوقيع على اتفاقات حول آلية عمل منطقة خفض التصعيد، وكذلك مناطق الانتشار وحجم قوات مراقبة خفض التصعيد، بالإضافة إلى اعتماد طرق لإيصال المساعدات الإنسانية إلى السكان وتأمين حرية التحرك للمقيمين، وهو الاتفاق الذي التزم به الجيش الوطني السوري في بيان رسمي.
وفي يوليو 2018 وقع عدد من فصائل المعارضة المسلحة فى الساحل السورى، على اتفاق وقف إطلاق النار فى القاهرة برعاية مصرية وبضمانة روسيا الاتحادية من جانب، ورئيس تيار الغد السوري وقتها أحمد الجربا، حيث شمل الاتفاق المشاركة فى جهود مكافحة الإرهاب والعمل على تسوية سياسية للأزمة السورية، وعودة اللاجئين والنازحين لمناطقهم والإفراج عن المعتقلين.
وفي نفس الشهر وقعت الفصائل المسلحة فى ريف حمص الشمالى، وعلى رأسها جيش التوحيد، على اتفاق بالقاهرة برعاية المخابرات العامة المصرية وضمانة روسيا الاتحادية وبوساطة رئيس تيار الغد السوري ، للانضمام لجهود مكافحة الإرهاب فى سوريا وإنشاء قوى لحفظ الأمن والسلام فى المنطقة، ووجه قادة الفصائل المشاركة فى اجتماعات القاهرة الشكر للرئيس عبد الفتاح السيسى للجهود التى تبذلها مصر لحل الأزمة السورية ورفع المعاناة عن أبناء الشعب السورى
واستبعدت القاهرة الائتلاف السوري المعارض الذي تسيطر عليه جماعة الاخوان والمخابرات التركية، وجبهة النصرة وفيلق الرحمن وغيرهم، وذلك انطلاقا من رفض الدولة المصرية التعامل مع أية كيانات إرهابية أو متطرفة مدعومة من الخارج، حتى لا تحصل على شرعية سياسية، ولا تعرقل أي حل سياسي في البلاد، وهو ما جعل القاهرة وسيطًا نزيهًا.
وللحفاظ على الهوية العربية الوطنية السورية تجاه المخططات التركية، قادت مصر في سبتمبر 2018 تحركات مكثفة على المستوى الدولي، بالتعاون المملكة العربية السعودية، والأردن، والولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا، وألمانيا، وبريطانيا، وأصدرت الدول 7 بيانا مشتركًا حول سوريا دعت خلاله إلى تشكيل لجنة دستورية عاجلة لدفع جهود الأمم المتحدة للتوصل إلى حل سياسي للصراع في سوريا، يتماشى مع قرار مجلس الأمن رقم 2254.
وعقب إطلاق النظام التركي لعملية “نبع السلام” بشمال سوريا في أكتوبر الماضي، بدعوى استهداف التنظيمات الإرهابية، أدانت مصر في بيان صادر عن الخارجية المصرية الهجوم التركي واصفة إياه بالاعتداء الصارخ والغير مقبول على السيادة السورية، وأكد البيان على مسؤولية المجتمع الدولي متمثلا في مجلس الأمن للتصدي لهذا التطور البالغ الخطورة الذي يهدد الأمن والسلم الدوليين ووقف أية مساع تهدف إلى احتلال أراض سورية.
وحذرت مصر في بيانها من تبعات الهجوم التركي على وحدة سوريا وسلامتها الاقليمية والعملية السياسية برمتها وفقًا لقرار مجلس الأمن رقم 2254، كما دعت إلى اجتماع طارئ لمجلس جامعة الدول العربية لبحث تلك التطورات وسبل الحفاظ على سيادة سوريا ووحدة شعبها وسلامة أراضيها.
مواجهة الأطماع التركية في شمال سوريا
في نوفمبر الماضي حذرت مصر من مغبة الممارسات التركية الهادفة لتعديل التركيبة السكانية في شمال سوريا بما يخدم السياسات التوسعية للنظام التركي، وشدد وزير الخارجية سامح شكري خلال الاجتماع الوزراي للمجموعة المصغرة حول سوريا في واشنطن، على التزام مصر بدعم جهود تسوية الأزمة السورية، وأكد أن العدوان التركي له تداعيات وآثار سلبية على مسار محاربة تنظيم داعش الإرهابي في سوريا والمنطقة.

وتسعى تركيا إلى عمليات تغيير ديموغرافي في المناطق على سقطت تحت سيطرتها القوات التركية على غرار ما حدث في “عفرين” من قبل، وبدأت تركيا في نقل عدد من سكان المدن الشمالية السورية إلى تل أبيض التي أصبحت تحت السيطرة التركية وميليشياتها، عبر نقل المواطنين إلى مدينة جرابلس ثم إلى الشريط الموازي للحدود التركية السورية وانتهاء بمدينة تل أبيض، وهو ما تصفه أنقرة بإعادتهم إلى مناطقهم الأصلية.
ولمواجهة الأطماع والتحركات التركية في شمال سوريا، سلطت مصر الضوء على الجرائم التي يرتكبها النظام التركي تجاه أكراد سوريا، فقد دعت مصر في 25 سبتمبر الماضي إلى محاسبة الرئيس التركي لتورطه في جرائم ضد الإنسانية في شمال سوريا، وعلى رأسها استهداف الأكراد بالقمع والقتل والإبادة، وذلك للمرة الأولى التي تسلط فيه مصر الضوء على قضية الكراد بصورة علنية، وتلا ذلك تصاعد الانتقادات التي يتعرض لها النظام التركي من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية نتيجة سياسته ضد الأكراد في سوريا وبالداخل التركي.
وأثنى الجنرال مظلوم عبدي القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية “قسد” على الدور المصري، وحرصها على وحدة الأراضي السورية ووقوفها مع الشعب السوري في مواجهة العدوان التركي، وشكر القيادة المصرية على مواقفها الايجابية حيال قوات سوريا الديمقراطية والتي تعكس هوية المجتمع السوري التعددي.

وأكد الرئيس عبد الفتاح السيسي في 17 ديسمبر الماضي خلال فعاليات منتدى شباب العالم بشرم الشيخ، أن الهوية الكردية لن يستطيع أحد محوها مشددًا على أن الشعب الكردي عانى على مدار 60 عامًا مضت، وذلك خلال إجابته على سؤال شابة كردية، وأكد السيسي أن اللغة الكردية والعادات والتقاليد الخاصة بالأكراد موجودة، ولكن ضياع الموارد الخاصة بالشعب الكردي هو الثمن الذي ضاع منهم.

وبخلاف تسليط مصر الضوء على الأزمة الكردية في المحافل العالمية، فقد عقدت القاهرة عدة جولات متعددة للتشاور والتنسيق مع أكراد سوريا، وكان أخر هذه الجولات في 23 ديسمبر الماضي، في لقاء جمع وزير الخارجية سامح شكري مع وفد من مجلس سوريا الديمقراطية “مسد” بالقاهرة بحضور رئيس الهيئة التنفيذية للمجلس إلهام أحمد والوفد المرافق لها.
ولم تكن هذه الجولة هي الأولى من نوعها لـ”مسد” وانما سبقها جلسة مشاورات في أكتوبر 2019، وأعقبتها بتصريحات لرئيس الهيئة شكرت فيها الخارجية المصرية لدعوتها لهم للحوار انطلاقا من حرص مصر على سلامة ووحدة الأراضي السورية ، مؤكدة أن تركيا تقوم بمجازر على نهج داعش وتستهدف أمن سوريا بالكامل، وتسعى لعمل مشروع احتلالي بالمنطقة.
التنسيق السياسي والأمني مع الدولة السورية
ولم تقتصر التحركات المصرية في مواجهة الأطماع التركية في سوريا على الجانب السياسي فحسب، وإنما شملت الجانب الأمني نظرا لأهميته وتأثيره المباشر على الأمن القومي المصري، في ظل الدعم التركي الضخم للتنظيمات الإرهابية هناك وارتباط الأزمة السورية بشكل مباشر بانتشار الإرهاب في المنطقة برمتها.
فقد زار رئيس مكتب الأمن الوطني السوري اللواء علي المملوك مصر، مرتين كانت الأولى في 17 اكتوبر 2016 وتم الاتفاق على تنسيق المواقف السياسية بين القاهرة ودمشق وكذلك التنسيق في مكافحة الإرهاب، وكانت الزيارة الأخيرة في 23 ديسمبر 2018 تلبية لدعوة رسمية من الوزير عباس كامل رئيس جهاز المخابرات العامة بهدف التنسيق السياسي وتعزيز التعاون لمكافحة الإرهاب بحسب ما نشرته وكالة “سانا” السورية الرسمية.
وتأتى أهمية هذه اللقاءات في ظل التحاق عدد كبير من المقاتلين الأجانب والعرب ومن بينهم مصريين بالقتال لدى الجماعات المسلحة في سوريا وفي مقدمتهم تنظيمي داعش وجبهة النصرة، وعقب القضاء على تنظيم داعش، أصبحت ظاهرة المقاتلين العابرين للحدود أحدى أهم القضايا الأمنية التي تواجه دول عدة وعلى رأسها مصر، بسبب سعي النظام التركي لنقل عدد من هؤلاء المقاتلين إلى ليبيا، لتشكل تهديدا لمصر من جهتها الغربية.
مصر وسيط مقبول من الأطراف السورية
في ظل المحددات المصرية التي تؤكد على أهمية وحدة الدولة السورية والحفاظ على مؤسساتها، وعدم تورط مصر في الصراع الدائر هناك بأي شكل من الأشكال، أصبحت مصر وسيطاً أمينًا مرحبًا به من الأطراف المختلفة في الداخل السوري، ماعدا الأطراف المدعومة من الجانب التركي، وكذلك أًصبحت مصر محل ترحيب للأطراف الدولية الفاعلة في الأزمة السورية.
فقد زار المبعوث الأممي إلى سوريا جير بيدرسون مصر بداية يناير 2019 لتكون ثاني جولاته الخارجية بعد زيارة دمشق، وذكرت الخارجية المصرية في بيانها حول الزيارة، بأن جير حرص على أن تأتي مصر ضمن طليعة الدول التي يتشاور معها حول الملف السوري عقب توليه منصبه أخيراً، والاستماع إلى رؤية القاهرة حول المضي قدماً في المسار السياسي لحل الأزمة.

وعلى المستوى السوري – السوري، تحظى مصر بثقة الأطراف السورية، وما يدلل على ذلك تصريحات قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي لإحدي القنوات الفضائية في يناير الماضي، والتي قال فيها أن مصر يمكن أن تلعب دور الوسيط في المرحلة المقبلة في مباحثات بين النظام السوري والأكراد لكونها تحظى بثقة كلا الطرفين الأكراد، من أجل الوصول إلى صيغة مقبولة من الطرفين، أو أن تقوم بدورها فى تطوير هذه المباحثات، لتصل إلى النتيجة المرجوة منها.
وهو ما يؤكده عادل الجربا، زعيم تيار الغد السوري المعارض الذي صرح أن مصر طرف مقبول من جانب طرفي الصراع في سوريا، وتحديدا وان القاهرة لا أطماع لها أو مصالح خاصة في سوريا، وتهدف إلى الحل السياسي لصالح سوريا وشعبها.
إعادة العراق إلى الحضن العربي لإيجاد حلف عربي قوي في وجه الأطماع التركية بالمنطقة
شكلت مصر تحالفًا عربيًا مع المملكة العربية السعودية بهدف إعادة العراق إلى الحاضنة العربية وسحبه من الحاضنة الإيرانية، إذ أعلنت مصر عن رفضها للضربات العسكرية التي تنفذها القوات التركية في شمال العراق أكثر من مرة بداية من 2017 وحتى الان، وأعلنت مصر دعمها لبغداد ضد أي تدخل تركي في العراق وتوحيد جهود البلدين لمكافحة الإرهاب.
كما أبدت السعودية استعدادها لفتح آفاق التعاون البناء مع العراق بكل الميادين وتأتي هذه الخطوة بعد فتح السفارة السعودية في بغداد عام 2015 بعد ربع قرن من إغلاقها في عام 1990 إثر غزو القوات العراقية الكويت، وجاءت زيارة رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي للملكة في ابريل 2019، والتي تأتي في أعقاب انعقاد مجلس التنسيق السعودي – العراقي في بغداد كإسهام مهم في ترسيخ أسس جديدة للعلاقات بين البلدين وتفتح آفاقاً أرحب للتعاون في كل المجالات.
كما شكلت مصر تحالفا ثلاثيا بينها وبين الأردن والعراق، تم تدشينه في 24 مارس 2019 وعلى مدار 6 أشهر عقدت الكثير من الاجتماعات بين الوزراء المعنيين من الدول الثلاث، وتم التوصل للعديد من الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية والتفاهمات السياسية حول عدة ملفات.

وتم استعراض نتاج هذه الاجتماعات في قمة ثلاثية عقدت بنيويورك على هامش جلسات الأمم المتحدة، بين الرئيس عبد الفتاح السيسي، والملك عبد الله الثاني ملك الأردن، والرئيس برهم صالح رئيس العراق، وعقب القمة كتب الرئيس العراقي عبر حسابه على تويتر “قمة مصرية، أردنية عراقية، رسالة بليغة لوحدة الموقف في خضم صراعات وتنازعات إقليمية، تأكيد على التعاون الاقتصادي، وحلول سياسية في سوريا وليبيا واليمن، وضرورة التهدئة وإبعاد شبح حروب جديدة عن المنطقة، مجددين الدعم للجهود العراقية لاستكمال النصر ضد الإرهاب بإعادة الاعمار وعودة النازحين”.
باحث أول بالمرصد المصري



