
التحركات المصرية مع الدول الأوروبية لتطويق لتركيا: التنمية في مواجهة العداء
انعكست في منطقة شرق المتوسط مشاهد سياسية وأمنية تتصف بالعداء من الجانب التركي؛ جاءت لأهداف توسعية وتعزيز النفوذ التركي في المنطقة. الأمر الذي استدعى الدور المصري لدفع هذا العداء التركي في إطار عدد من التحركات المصرية على مختلف المجالات والمناطق الجغرافية وعمل مبادرات لوأد المشاكل الناتجة عن هذا العداء وتوظيفها في خدمة التنمية للدولة المصرية. بعبارة أخرى، تتخذ الدولة المصرية من التنمية استراتيجية احتواء سياسات تركيا في شرق المتوسط وملف مكافحة الإرهاب. إذ تركز تلك الورقة على التحرك المصري في الدائرة الأوروبية الغربية للنهوض بتلك الاستراتيجية لتطويق الأطماع التركية.
عداء التحرك التركي
في البداية، يفرد العرض أولوية للإشارة قبلاً إلى التهديدات التركية في المنطقة، والتي على أساسها استدعى التحرك المصري لاحتوائه ودفعه في إطار استراتيجية التنمية.
تأتي السياسات التركية في إطار عدد من التهديدات في منطقة شرق المتوسط، أخذت أبعادا وقضايا محددة تعارضت مع مصالح بعض الفاعلين في المنطقة، يمكن إيضاح هذه الملفات فيما يلي:
أولاً، التعدي التركي على المنطقة الاقتصادية الخالصة للسواحل القبرصية بشكل غير قانوني، وذلك بإرسال تركيا عددا من السفن رغبة في التنقيب عن النفط والغاز في منطقة شرق المتوسط. وتعارض تركيا أي تنقيب عن الغاز يستبعد “جمهورية شمال قبرص التركية” (التي لا تحظى باعتراف دولي باستثناء تركيا)، وتطالب بتعليق أعمال التنقيب طالما لم يتم إيجاد حل لمشكلة الجزيرة المقسمة منذ عام 1974.
وفي سياق اكتشافات الغاز الجديدة في منطقة شرق المتوسط، تعمل تركيا من خلال انتهاج سياسات العداء حجز حصتها من هذه الاكتشافات. إضافة إلى محاولة أنقرة ابتزاز أوروبا عبر إجبارها على مرور خطوط الغاز في المتوسط عبر المياه الإقليمية التركية أو أراضيها.
فضلاً عن قيام تركيا بترسيم حدودها البحرية مع حكومة الوفاق الوطني، خلافاً للقانون الدولي للبحار (1982)، بمعنى عدم التزام تركيا بتعيين حدودها البحرية بالتوازي مع حدودها البرية، وتجدر الاشارة هنا إلى نقطتين أساسيتين: الأولى هي أن تركيا لم توقع على تلك المعاهدة الدولية – الأمر الذي لا يعني عدم أحقيتها في تعيين حدودها البحرية، ولكن مخالفتها لقواعد تعيين الحدود البحرية وفق القانون الدولي، الثانية أنه لا يحق لـ “فايز السراج” (رئيس حكومة الوفاق الوطني) وحده التوقيع على أي معاهدة؛ وذلك استنادا إلى المادة الثامنة من اتفاق الصخيرات. وقامت تركيا بهذا الإجراء مع ليبيا والتي لا تقع ضمن حدودها البحرية، بما يسمح لها بالقيام باستكشافات لموارد الغاز والنفط في تلك المنطقة. كما أتى هذا الإجراء مصحوباً بعقد اتفاق عسكري وأمني مع حكومة الوفاق الوطني في ليبيا.
ثانياً، تصدير تركيا للإرهاب إلى ليبيا. فقد نقلت تركيا ما يقدر بحوالي ستة آلاف من المرتزقة من الأراضي السورية لدعم الميليشيات في طرابلس. وذلك إلى جانب تزويد تركيا لتلك التنظيمات بالعداد والأسلحة. الأمر الذي أتي في ظل الاتفاق العسكري والأمني المبرم بين تركيا وحكومة الوفاق الليبية (الممثل في شخص فايز السراج وحده)، فضلاً عن تفسير عمليات النقل تلك في إطار الصفقة المبرمة بين تركيا وروسيا بشأن وقف إطلاق النار في محافظة إدلب. وأعقب ذلك مباحثات بين رؤساء المخابرات التركية والسورية والروسية في 13 يناير 2020، ركزت على تحرير محافظة إدلب آخر معقل للإرهاب في سوريا، خاصة من مقاتلي القاعدة من أصول ليبية.
من هنا، لا يمكن فصل الصراع الدائر في سوريا، خاصة قضية تحرير مدينة إدلب من الإرهاب، عن محاولة تركيا التدخل في ليبيا، وتحديدًا في مدينة طرابلس. ولتطبيق اتفاق سوتشي الخاص بخفض التصعيد وسحب الأسلحة الثقيلة، عملت تركيا على نقل الإرهابيين خارج إدلب، ونقلهم إلى طرابلس ومصراتة.
ثالثاً، تهديد تركيا للدول الأوروبية بفتح باب اللاجئين والمهاجرين بالنفاذ إلى أراضيها، سواء من سوريا خاصة مدينة إدلب، أو من ليبيا ومدينة طرابلس. إذ تعد قضية اللاجئين هي ما يؤرق صانع القرار الأوروبي. فقد حاول أردوغان”تعزيز المخاوف الأوروبية من خلال تهديده المباشر بأن أوروبا ستواجه تهديدًا إرهابيًّا جديدًا إذا سقطت حكومة فايز السراج في طرابلس”. ويأتي هذا التهديد على غرار نفس التهديد الذي أطلقه ضد أوروبا بفتح الأبواب أمام 3.6 ملايين لاجئ للتوجه إليها في سياق دوره في الأزمة السورية.
رابعاً، إجراء تركيا عددا من المناورات البحرية في منطقة شرق المتوسط، وصفتها تركيا بأنها الأكبر في تاريخها. وجاءت تلك التحركات العسكرية بمثابة رسالة عدائية من أنقرة تجاه دول المنطقة. ففي عام 2019، أعلن الجيش التركي إجراء مناورات عسكرية بحرية مثل “الوطن الأزرق” و”الحوت الأزرق” و”ذئب البحر” ومناورة “شرق المتوسط”.
التنمية.. المحرك المصري
بناء على التهديدات السابق إيضاحها، لا ينحصر التعارض بين السياسات التركية والمصالح المصرية على البعُد الإيديولوجي فحسب نتيجة دعم تركيا لجماعة الإخوان الإرهابية. وإنما يأتي ذلك في إطار تهديد تركيا للمصالح المصرية في دائرة شرق المتوسط، والذي تقاطع مع عدد من القضايا التي تمثل تهديداً حقيقياً للدول الأوروبية تمثل في ملفات الغاز والهجرة والوضع الأمني في ليبيا.
وانتهجت مصر استراتيجية احتواء وتطويق لسياسات التركية في شرق المتوسط تحت إطار “التنمية” من خلال العمل مع الشركاء الأوروبيين من دول غرب أوروبا، وذلك من خلال عدد من التحركات:
منتدى غاز شرق المتوسط: جاءت أبرز تحركات الدولة المصرية من خلال إطلاق منتدى غاز شرق المتوسط باعتباره التجمع التنموي لدول ذلك الإقليم بغرض الاستفادة القصوى من موارد الغاز الطبيعي لديها، و”العمل على إنشاء سوق غاز إقليمية تخدم مصالح الأعضاء من خلال تأمين العرض والطلب، وتنمية الموارد على الوجه الأمثل وترشيد تكلفة البنية التحتية، وتقديم أسعار تنافسية، وتحسين العلاقات التجارية، فضلاص عن تأمين احتياجات الدول الأعضاء من الطاقة لرفاهية شعوبهم. إذ تم تدشين المنتدى وفقاً لإعلان القاهرة في يناير 2019 بمشاركة 7 دول وهي فلسطين والأردن وإسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا.
وقد طالبت فرنسا بأن تكون عضواً في منتدى غاز شرق المتوسط والذي قد تحول إلى منظمة إقليمية. فذلاً عن تقديم الولايات المتحدة الأمريكية بأن تكون عضواً مراقباً في المنظمة.
آلية التعاون الثلاثي: ذلك بالإضافة إلى إنشاء القاهرة لتجمع ثلاثي مع دولتي قبرص واليونان باعتباره آلية للتعاون الثلاثي لتعزيز السلام والمصالح الاقتصادية ودعم استكشافات الغاز والحوار الثقافي فيما بينهم. إذ اتفق الأطراف الثلاثة بشأن مواقفهم إزاء عدد من القضايا مثل مكافحة الإرهاب والتطرف والعمل على التوصل إلى تسوية سياسية لاستعادة الاستقرار في ليبيا. كما أدانت آلية التعاون الثلاثي التحركات التركية في الشمال السوري والتصعيد التركي في منطقة شرق المتوسط وتواصل انتهاك تركيا للقانون الدولي وسيادة الدول.
غرب المتوسط: ولم تقتصر الجهود التنموية المصرية على منطقة شرق المتوسط فحسب، ففي الخامس عشر من فبراير الجاري، عقدت مصر اتفاقات مبدئية مع خمس شركات طاقة كبرى للتنقيب عن النفط والغاز في المياه العميقة قبالة سواحلها الغربية على البحر المتوسط والتي تمثل المنطقة الحدودية مع ليبيا، والتي تعد أولى الصفقات من نوعها في تلك المنطقة البحرية. بحيث تبدأ عمليات الحفر الاستكشافي في المنطقة في أوائل عام 2021. وقد صرح وزير البترول المصري والموارد المعدنية “طارق الملا” بأن الشركات الخمس هي رويال داتش الهولندية وشركة شل الهولندية وشيفرون واكسون موبيل الأمريكيتين وبي.بي الإنجليزية وتوتال الفرنسية.
وقد أشارت بعض التحليلات إلى أن الخطوة المصرية بشأن التنقيب في منطقة غرب المتوسط لها مدلول سياسي يهدف إلى وضع تركيا في مواجهة مع دول الشركات الأجنبية في حال اطلعت تركيا إلى زعزعة الاستقرار في تلك المنطقة.
ولدعم التحرك المصري وترسيخ وجوده على الأرض، لجأت الدولة المصرية لعدد من التحركات الدبلوماسية والعسكرية وذلك لتيسير الوضع في الإقليم والتمهيد لسياسيات التنمية للعمل والحيلولة بينها وبين التهديدات الأمنية والعسكرية التي قد تطال استقراراها واستدامتها.
التحركات الدبلوماسية: حضر تنسيق دبلوماسي مصري في الثامن من يناير الماضي مع دول قبرص واليونان وفرنسا وإيطاليا؛ وذلك لعقد قمة في القاهرة على مستوى وزراء الخارجية. وناقشت القمة ترتيب السياسات لدول الأطراف الخمسة لتحجيم الدور التركي في ليبيا؛ لاسيما بعد قرار البرلمان التركي بإرسال جنود مرتزقة إلى ليبيا ونقلهم من شمال سوريا إلى الغرب الليبي فيما تهديدا حقيقيا للأمن الاقليمي والأوروبي. فضلاً عن مناقشة القمة للأوضاع كافة في منطقة شرق المتوسط وتنسيق آليات العمل لضمان حالة الاستقرار في المنطقة والرفض الإقليمي للاتفاقيات البحرية التي أبرمتها تركيا مع رئيس حكومة الوفاق الوطني الليبي.
كما جاءت تحركات للدبلوماسية المصرية من خلال الأمم المتحدة ومطالبتها بمحاسبة رعاة الإرهاب في المنطقة؛ إذ شدد وزير الخارجية سامح شكري خلال لقائه بمبعوث الامم المتحدة الخاص بسوريا على “حتمية عدم التهاون في محاسبة الدول الإقليمية الراعية والداعمة للجماعات الإرهابية في سوريا”. بجانب توجيه بعثة مصر لدى الأمم المتحدة في نيويورك الاتهام المباشر للرئيس التركي أردوغان خلال أعمال الدورة 74 للجمعية العامة للأمم المتحدة برعايته للإرهاب وإيوائه للمتطرفين وارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
ونتيجة الانتهاكات التركية للمياه القبرصية، قرر الاتحاد الأوروبي في يوليو 2019 فرض عدد من العقوبات على تركيا. وتجدد الحديث عن فرض حزمة أخرى من العقوبات حينما شددت وزيرة الدفاع الألمانية أثناء زيارتها لجزيرة قبرص في ديسمير 2019 على أهمية احترام تركيا لدبلوماسية الجوار، فيما يتعلق بطموحاتها للتنقيب واكتشاف مصادر الطاقة في البحر المتوسط، وذلك في الوقت الذي تواصلت فيه قبرص مع مصر ولبنان واليونان وإسرائيل “، للوصول إلى صيغة عمل دبلوماسي مشترك يستهدف مجابهة اتفاق تركي – ليبي “.
وفي أثناء أعمال مؤتمر برلين بشأن الوضع في ليبيا، شددت مصر على عدم سماحها لأحد بالسيطرة على ليبيا والذي لقي دعماً من ألمانيا وتأكيداً على الدور المصري الفاعل في الأزمة الليبية وتنسيقه مع الأطراف الإقليمية والأوروبية، وخاصة فرنسا التي أكدت وهاجمت صراحة إرسال تركيا للإرهابيين للأراضي الليبية.
المناورات العسكرية: تنسق مصر إجراء تدريبات عسكرية ومناورات في منطقة شرق المتوسط مع عدد من الدول الأوروبية كرسالة ردع للجانب التركي والممارسات العدائية التي ينتهجها. وتأتي التدريبات العسكرية المصرية الأحدث والأكبر في إطار فعاليات المناورات العسكرية في ساحل البحر المتوسط “قادر 2020″، والتي شملت كافة الاتجاهات الاستراتيجية البرية والبحرية والجوية للقوات المسلحة المصرية. بالإضافة إلى زيادة قدرات القوات البحرية المصرية وأسطولها الشمالي بعقد صفقات لشراء حاملة الطائرات الميسترال وطائرات الرافال من فرنسا، إلى جانب المعدات العسكرية الأخرى وفرقاطات من إيطاليا وصفقات الغواصات من ألمانيا.
وضمن إطار التنسيق الإقليمي، قامت مصر واليونان بإطلاق مناورة “ميدوزا” بالاشتراك مع قبرص، والتي شهد نوفمبر ٢٠١٩ نسختها التاسعة. وتقام تلك المناورات لمواجهة أى تهديدات محتملة في إقليم شرق المتوسط، وتعزيز عمليات التنسيق العسكري والأمني بين الدول الثلاث.
وفي نوفمبر٢٠١٧، شاركت مصر في مناورات عسكرية مشتركة مع اليونان في جزيرة رودس اليونانية منزوعة السلاح والقريبة من الأراضى التركية، وهو التحرك الذي أثار توتر تركيا لقرب الجزيرة من أراضيها. وذلك فضلاً عن مشاركة اليونان في مناورات “النجم الساطع” لعامى ٢٠١٧ و٢٠١٨ بعد إطلاقها مرة أخرى، والتي استضافتها مصر من قاعدة محمد نجيب العسكرية.
ختاماً،
فقد ارتكزت التحركات المصرية لمواجهة وتطويق واحتواء العداء التركي على عدد من المقتربات غير الإيديولوجية أو حتى المبنية على بعد أحادي فحسب. وإنما استندت مصر في تحركاتها بتقسيمها إلى عدد من الدوائر الفاعلة، كانت الدائرة الأوروبية هي محل اهتمام هذه الورقة. فالتحركات المصرية بنيت على قاعدة إعلاء فكر التنمية والتعاون الإقليمي المشترك باعتباره استراتيجية ناجعة لاحتواء العداء التركي، وهو يتسق في ذات الوقت مع الاستراتيجية القومية للتنمية التي تتبناها مصر وبالتنسيق مع شركاء التنمية في الإقليم. وأخيراً استثناء التحرك المدفوع بالتنمية إلى عدد من الاجراءات والتحركات الدبلوماسية السياسية والأمنية لتأمين الوضع وفرض الاستقرار حتى تستمر مشاريع التنمية في العمل وبصورة جماعية.