سوريا

جدران الدم .. حرب عصابات بعد تهديدات “إردوغان” والجيش السوري يعلن سيطرته علي جنوب إدلب

لطالما اتسمت وتيرة الحرب السورية ومعاركها بالديناميكية المفرطة، وبروز أهمية السيطرة على الطرق الدولية لتأمين خطوط الإمداد وحصر التنظيمات المسلحة في جيوب عسكرية ضيقة من قِبل الجيش السوري وحلفاؤه، وحرمانها من تلقي الدعم والإمداد من الفواعل الإقليمية والدولية المختلفة، تمهيداً لتصفيتها، والحول دون جعل اقتحام المدن الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية محاولة انتحار، نظراً للخسائر الكبيرة التي تلحق بالجيوش النظامية حال خوضها حرباً غير متماثلة في مدن مكتظة بالسكان و تنشط بها التنظيمات المسلحة التي تُبقي علي خطوط دعم وإمداد سخية تمكنها من الصمود طويلاً أمام الحملات والهجمات العسكرية.

الزحف باتجاه الطرق الدولية، الرابطة بين المدن السورية شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً. هكذا كان النمط السائد لتحركات الجيش السوري، وهكذا حرّرَ – بإسناد مدفعي وجوي روسي – بعد سبتمبر 2015، غالبية المدن السورية الكبرى من سيطرة التنظيمات المسلحة والإرهابية. فكان العام2017- 2016، هو عام تحرير كبريات المدن بجدارة، ففيه حُررَت مدن تَدمُر و حمص وحلب، وتم تأمين طوق آمِن حول العاصمة دمشق إثر تحرير أريافها، بعد زحف مضنِ علي عدة محاور كما توضحه الصورة التالية:

يُلاحظ أن مدينة “تَدمُر” كانت عقدة الوصل بين المدن السورية، ومن خلالها آمنت الحكومة السورية وسط سوريا، لتنطلق صوب مدن الشمال، الرقم الأصعب في الحرب السورية، ولاسيما بعد تحول محافظة إدلب لأكبر خزّان بشري للتنظيمات المسلحة والإرهابية وخاصة بعد تحولها لمقصد العناصر المسلحة التي تم إجلاؤها مع عائلاتها من خاصرة العاصمة دمشق وإريافها وبلداتها كـ دوما، و داريا في الغوطة الشرقية، إبريل من العام 2018. كما تحولت إدلب لقِبلة العناصر المسلحة من طائفة الإيغور الصينيين، حيث يبلغ عددهم نحو 5000 عنصر، وينتمي غالبيتهم للحزب الإسلامي التركستاني، المُصنّف إرهابياً، والمشهور بعملياته الدموية، وقدراته الكبيرة في استخدام وتطوير المفخخات والقتال الانغماسي المباشر. وقد ظهرت تلك العناصر الإيغورية بكثرة في معارك ادلب الجارية من مطلع الشهر الحالي. 

ليس كراً وفراً .. انها معارك المحاور

ذلك الزحف السوري حول مدن الشمال، بعد تحرير مناطق الوسط، وتثبيت السيطرة النارية عليها، جعل حلب وإدلب في الواجهة، فمنذ ديسمبر الماضي، أطلق الجيش السوري هجوماً موسعاً لاستعادة إدلب بإسناد روسي تمثل في غطاء جوي ومدفعي، وحقق تقدمات كبيرة تمثلت في إعلانه السيطرة علي كامل مدينة حلب إثر اقتحام الجيش السوري لأحيائها الغربية، وطرده العناصر المسلحة منها، ونجاحه في تأمين الطريق الدولي (إم 5)، لأول مرة منذ العام 2012، فضلاً عن تحريره لمدينة سراقب الاستراتيجية والواقعة علي مفترق طرق إم 5، و إم 4 الدوليين اللذين يربطا حلب بدمشق، وحلب باللاذقية.

 وقد تناول المرصد المصري في أحدي ورقاته المنشورة تحليلاً للتطورات الميدانية – حتي اسقاط المروحية السورية في سماء إدلب – في ورقة ” ماذا يحدث في إدلب “. إلا أن تلك الوقائع الميدانية في آخر جيب عسكري للمسلحين شمال غرب سوريا، كانت لها نفس سمات معارك المدن الكبرى في الحرب السوري، “الديناميكية المفرطة”، فبعد نحو عشرين يوماً من تحرير الجيش السوري لمدينة سراقب الاستراتيجية وأكثر من 1500 كلم2 حول طريق (إم5)، في المنطقة الممتدة من حريتان لـ معرة النعمان. ليحاصر 10 نقاط مراقبة تركية ويضعها خلف خطوطه.

شنت الفصائل المسلحة المنضوية تحت كيان ما يُسمي “الجيش الوطني السوري” المدعوم تركياً، بمشاركة تشكيلات النخبة لهيئة تحرير الشام “جبهة النصرة” سابقاً، هجوماً موسعاً بإسناد مدفعي تركي. علي محور نيرب – سراقب. وتمكنت من استعادة السيطرة على مدينة سراقب الاستراتيجية، فجر اليوم، لتقطع طريق “إم 5” مجدداً. 

تجدر الإشارة، أن الهجوم المشترك لـ فصائل “الجيش الوطني السوري”، وجبهة النصرة، لاستعادة مدينة سراقب، بدأ قبل ثلاثة أيام، كان للمقاتلات الروسية دوراً كبيراً في تعطيله، إثر استهدافها لتجمعات المسلحين، وآلياتهم المدرعة، وبعض الدبابات التركية. كما استهدفت نقاط المراقبة التركية التي خرج منها دعماً لتلك التنظيمات في سير المعارك.

فيما واصلت تركيا إرسال المزيد من التعزيزات بخطوط المواجهة، حيث وصل عدد الجنود الأتراك لـ 7000، والآليات المدرعة والدبابات وقطع المدفعية وناقلات الجند لـنحو 2400. كما ارتفع عدد نقاط المراقبة التركية في إدلب من 12 لـ 43، بواقع 31 نقطة جديدة في غضون أقل من شهر. تتزامن تلك التطورات مع تهديدات الرئيس التركي، أمس، في كلمة صحفية له، للجيش السوري بضرورة التراجع خلف “حدود سوتشي”، كما أكد أن بلاده لن تتراجع قيد أنملة في إدلب، مهدداً بشن هجوم واسع سيغير ميزان القوي. استبق الرئيس التركي عبر تصريحاته الأخيرة، عملية استعادة سراقب الاستراتيجية، بواسطة تشكيل هجين من جبهة النصرة وتنظيمات “الجيش الوطني السوري”، بنحو 24 ساعة فقط.

يُلاحظ الرغبة التركية في دفع القوات السورية بعيداً عن نقاط المراقبة، من المحور الشرقي لإدلب، وقد حققت التنظيمات المسلحة تقدماً ملموساً في ذلك، إلا أن وحدات الجيش السوري بإسناد جوي روسي قد سيطرت بالكامل على جنوب إدلب، وأعلنت القيادة العامة للجيش السوري السيطرة علي أكثر من 60 بلدة وقرية في ذلك المحور الهام استراتيجياً.

فيما بدا، عودة أخري لحروب المحاور، فالتطورات الأخيرة ليست كر وفر، وإنما دفع الأطراف المتصارعة بعضها البعض، نحو محاور معينة، تماماً كما حدث في معارك تحرير حلب. حين دفعت التنظيمات المسلحة الجيش السوري شرقاً، فهاجم المحاور الغربية لها حتي تمكن من إعلان التحرير الكامل لمدينة حلب قبل أسبوعين.

معارك المحاور تلك، تأتِ ضمن سياقات فرض الوقائق الميدانية قٌبيل  انطلاق جولات مشاريع التسوية السياسية، فيما أظهر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، رفضه لمحاولة فرض تركيا لوقائع ميدانية في إدلب، استمر سلاح الجو الروسي في القصف المباشر لنقاط المراقبة التركية في بلدة البارة، حيث قٌتِل 3 جنود أتراك، فيما ظهر تسجيل مصور لعناصر النقطة التركية المستهدفة، وهم يستقلون سيارة مزارع سوري، بعد تعرضهم لإصابات خطيرة.

فيما تجاهلت موسكو فكرة عقد لقاء بين بوتين وإردوغان في إسطنبول، حيث قال الكرملين اليوم الخميس إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليست لديه خطط للقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الخامس من مارس القادم لبحث الوضع في منطقة إدلب بسوريا، وذلك على الرغم من تصريحات إردوغان التي ترجح عقد مثل هذا اللقاء. حيث قال، أمس، أنه من المرجح أن يلتقي بوتين في إسطنبول الأسبوع المقبل لإجراء محادثات بشأن إدلب.

تزامن التجاهل الروسي لعقد لقاء علي المستوي الرئاسي مع تركيا، مع نشاط مكثف للوحدات الاستطلاعية في القوات الخاصة الروسية ضمن محاور الهجوم الغربية والجنوبية في إدلب. كما يوضح التسجيل المصور التالي الاشتباك المباشر مع التشكيلات المسلحة الهجينة.

ما يؤشر علي استمرار سياسة فرض الوقائع الميدانية لأطراف الصراع، حتي مع تموضع روسيا كضابط إيقاع لمسار المواجهات الميدانية، إذ مازلت روسيا تفرض خطوطاً حمراء في ميدان الحرب المنخرطة فيه بالشمال السوري كحظر استخدام تركيا لمقاتلاتها الجوية، أو مروحياتها القتالية. واعتمادها فقط علي الطيران المٌسير الغير مأهول فيما يخص التغطية الجوية لقواتها والفصائل الموالية لها. حيث منعت روسيا تركيا من استخدامها للمروحيات لإجلائها بعض الضباط والجنود الذين أصيبوا في احدي الغارات.

 وبشكل عام يمكن حصر دوافع الإصرار الروسي في مواجهة النشاط المسلح المدعوم تركيا في ادلب للنقاط التالية:

  • فصل تنظيمات المعارضة المسلحة عن جبهة النصرة، ولاسيما بعض سيطرة جبهة النصرة علي المشهد الميداني للمعارضة المسلحة وتوليها قيادة بعض محاور الهجوم.

 كما تجدر الإشارة أن اتفاقات “أستانا” و “سوتشي”، ألزمت الجانب التركي بمهام فصل المعارضة المسلحة عن جبهة النصرة، وتسليم سلاحها الثقيل. وهو ما تنصلت منه تركيا منذ سبتمبر 2017.

  • منع تحويل إدلب لبؤرة تجميع العناصر المسلحة القوقازية والإيغورية التي تهدد جمهوريات الاتحاد السوفيتي، حيث صرح بوتين قبل أربعة أيام، في مناسبة عيد للجيش يُطلق عليه “يوم حماة الوطن”، أن الجيش الروسي منع ظهور تحدِ جديد لروسيا في إدلب وخاصة بعد حصول الفصائل الإرهابية علي أسلحة نوعية.

وعليه، فإن “حرب المحاور” في الميدان السوري كثيراً ما تُنبئ بتعثر التسويات السياسية للأزمة، كونها، أيّ – حرب المحاور – تُعد سقف أخير تلجأ له القوي الإقليمية الفاعلة في سوريا حين تواجه تحديات ميدانية ومسارات سياسية ضاغطة.

 ما يُكسب المواجهات الميدانية طابعاً عنيفاً، لكن ما يميزها هذه المرة هو اختبار القوة (الروسي – السوري) الجاد في إدلب. ودخول تركيا المعركة دون سلاحها الجو، ما وضع تشكيلات المشاة – الميكانيكي المدرع أمام خطر القصف الروسي الدقيق، وانحسار فرص الانسحاب الآمِن. مؤشرات ذلك تبدو قوية، وخاصة بعد الحديث عن قصف روسي عنيف طال أحد الأرتال العسكرية التركية وأوقع عشرات بين قتيل وجريح. في حين ترأس الرئيس التركي اجتماعاً أمنياً طارئاً بشأن التطورات في إدلب بالتزامن مع القصف الروسي الأخير.

فمن المرجح أن يكثف الجيش السوري قصفه المدفعي بطول محور “النيرب – سراقب”، وأن يعزز سيطرته النارية علي جبل الزاوية جنوبا، تمهيداً لهجومه المضاد لاستعادة السيطرة علي المدينة الاستراتيجية وتطوير الهجوم غرباً، تحت وقع ضربات سلاح الجو الروسي، وعمليات استطلاع القوات الخاصة التي سجّلت نحو اشتباكين مباشرين مع تشكيلات هجينة مسلحة في المحور الشرقي والجنوبي لادلب. كما من المرجح أن تعود الخروقات الأمنية مجدداً في محور ريف حماة الشمالي الغربي، وفي العاصمة دمشق، وخاصة بعد تعرضها من مطلع الشهر الجاري وحتي الآن لـ 6 تفجيرات غامضة، كانت بعبوات ناسفة استهدفت آليات وسيارات يقودها أشخاص مجهولي الهوية. ففي العاشر من فبراير الجاري قُتِل أحد رجالات الاستخبارات السورية بعد استهدافه بعبوة ناسفة زُرِعت أسفل سيارته قرب صالة الجلاء في حي المزّة بدمشق. فالعاصمة السورية بعد إنجاز الطوق الأمني حول تخومها تحولت لما يشبه قلعة تُدار من داخلها وقائع الحرب السورية مع مركز القيادة الروسي المتقدم في اللاذقية، ما يؤشر على استهدافها بعمليات لها طابع استخباراتي تطال أفراد وقيادات ميدانية علي صلة بما يجري في إدلب، لتتقرب الأجواء في دمشق مما يجري من معارك داخل المبان السكنية في إدلب، والتي باتت جدرانها ملطخة بالدماء، جراء الاشتباكات بين الجيش السوري والعناصر المسلحة وجهاً لوجه، كما يوضح التسجيل المصور التالي:

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى