الصحافة العربية

دوائر التحرك النشط .. تحركات كبيرة للاستخبارات المصرية لمواجهة التمدد التركي في شمال إفريقيا والدول العربية

مع انتهاء مرحلة الانخراط التركي الإيجابي النشط في المنطقة ودوائر الأمن القومي العربي، التي بدأت منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 حتي العام 2010، وحققت فيها تركيا قدراً معتبراً من القوة الناعمة إثر توظيف مختلف أدواتها الإعلامية والتلفزيونية بشكل منهجي ومترابط. انتهجت تركيا استراتيجية متغيرة تُترجم نزعتها للهيمنة على محيطها العربي والإسلامي، ولاسيما بعد تبنيها مشروع توسعي قومي أممي، يقوم على توظيف أدوات الإسلام السياسي بالمنطقة وخاصة بعد انطلاق موجات ما يُسمّي بالربيع العربي بالعام 2011 الذي أفرز بيئة مواتية لتركيا وفرصة “لا تتكرر”، إثر انهيار الدول المركزية، وانكشاف الجناح الشرقي للمنطقة العربية وتوظيف ظاهرة الإرهاب العابر للحدود من مختلف القوي الدولية والإقليمية لتحقيق طموحاتها وفرض إرادتها بقوة السلاح وبدموية الإرهاب. 

ومع تفجّر الاضطرابات الاجتماعية والسياسية في الإقليم، بدا بشكل جلي أن مشروع هندسة الشرق الأوسط دخل طوراً جديدا. طوراً تتسم تفاعلاته الأمنية وتحولاته الاستراتيجية بالسيولة الإقليمية من خلال تحالفات ناشئة بين دول، وبين فواعل عنيفة من غير الدول؛ مغايرة لموازين القوي التقليدية للمنطقة. تزامنت حالة السيولة الإقليمية مع تراجع رهانات تركيا الأوروبية مع انهيار العملية التفاوضية التي انطلقت من أجل انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. ما دفع توجه تركيا بأنظارها إلى الفضاء العربي ومحيطه الإفريقي، كونه مجال شد وتر قوس الهيمنة، معتمدة في ذلك على محصلة مكاسب فترة “الانخراط الإيجابي النشط” (2001-2010) وما حققته من اختراق ناعم لشعوب محيطها العربي والإسلامي.

في تلك المرحلة اشتبكت تركيا مع الجغرافيا السياسية، اشتباكاً عنيفا، مستغلة في غالبية اشتباكها القوة الخشنة، سواء من خلال تدخلاتها العسكرية المباشرة، أو الاعتماد علي وكلاء من فصائل وتنظيمات مدرج بعضها علي قوائم الإرهاب بمجلس الأمن. بيد أن مرحلة الاشتباك مع الجغرافيا السياسية بالقوة الخشنة، بلغت ذروتها بعد الثلاثين من يونيو عام 2013، بعدما انهار مشروع تنظيم الإخوان بمصر، وتغيرت مصفوفة الأدوار الإقليمية علي نحو خالف طموحات التوسع التركية. وعليه؛ بلغ ذروة التوجه التركي المٌعادي لمصر من ذاك التاريخ، واتخذ مظاهر عدة منها:

  • احتضان عناصر وقيادات تنظيم الإخوان المسلمين، المصنف إرهابياً في مصر وتوفير كافة السبل لهم للعمل ضد المصالح المصرية.
  • التعاون مع الشبكة الإقليمية لتنظيمي “داعش”، و”القاعدة”، اللذان يضعان مصر علي رأس أهدافهما في الشرق الأوسط.
  • بناء تحالفات معادية لمصر علي الصعيد الدولي والإقليمي.
  • محاولة اختراق المجال الحيوي لمصر والعبث بدوائر أمنها القومي.

وفي ضوء آخر نقطتين، كثفت تركيا من نشاطاتها في شرق أوروبا لتوفير السلاح والعتاد اللازم للفصائل المسلحة الموالية لها في الميدان السوري، ومؤخراً في مدينتي طرابلس ومصراته. حيث تتبع المرصد المصري التحركات التركية في هذه الدائرة طيلة أشهر، ورصد أبعادها وأنماطها في روقة ” نشاط الاستخبارات التركية في شرق أوروبا “. فضلاً عن انتهاجها سياسة عدائية في دائرة شرق المتوسط، ولاسيما بعد نجاح الإدارة المصرية في إعادة رسم خريطة التحالفات الاستراتيجية في تلك المنطقة الحيوية والغنية بالثروات الطبيعية، فعززت أواصر الارتباط الاستراتيجي مع قبرص واليونان، كنواة لنموذج تعاون إقليمي، علي المستوي الرئاسي والدفاعي. تبعه كل من إيطاليا وفرنسا، التي تقدمت بطلب رسمي قبل أسابيع للانضمام لمنتدي غاز شرق المتوسط، وذهبت لتعزز علاقاتها العسكرية مع قبرص، واليونان. فيما بدا أنه اصطفاف إقليمي ودولي ضد المنهجية التركية العدائية، القائمة علي إيجاد معادلات ومسارات ضغط للابتزاز الدول وفك ارتباطاتها الاستراتيجية مع بعضها البعض من أضعف حلقاتها.

تلي ذلك تبوء إقليم شمال إفريقيا موضعاً متقدما في بنك الأهداف التركية للتوسع، ولاسيما بعدما احتفظت كيانات الإسلام السياسي في دول المغرب العربي بمكان لها في المعادلة السياسية ببلادها، ونجت بفضل استراتيجية “الُكمون”، من تداعيات الانهيار الدراماتيكي لتنظيم الإخوان بمصر. وعلي إثر ذلك انخرطت تركيا بصورة مباشرة في الصراع الليبي، ووقعت مذكرتي تفاهم أمنية وبحرية تم بموجبها ترسيم الحدود البحرية بشكل غير قانوني ويخالف الأعراف والمواثيق والقوانين الدولية، بين أنقرة ورئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق “فايز السراج”، تبع ذلك تأمين جسر جوي وبحري لتقديم كافة الدعم العسكري اللازم لميليشيات حكومة الوفاق، التي تُدار بعض فصائلها من قِبل أفراد مدرجين علي قوائم الإرهاب الدولي. كما نجح الرئيس التركي رجب طيب إردوغان من استصدار مشروع قانون بالبرلمان التركي يسمح بإرسال قوات تركية نظامية للميدان الليبي، وعلي الرغم من عدم إرسال لأنساق هجوم برية ضمن قواتها في ليبيا، إلا أنها أرسلت العديد من المستشارين العسكريين وعناصر الاستخبارات الذين يتولون إدارة عمليات نقل وتوزيع الإرهابيين من شمال سوريا لطرابلس ومصراته، ويديرون معارك العاصمة الليبية ويقودون أسطول الطائرات بدون طيار التركية “بيراقدار”. أما الحديقة الخلفية للصراع الليبي، فكانت دول الساحل والصحراء، حيث كثفت تركيا من تحركاتها علي المستوي الاستخباري هناك، فاستقبلت وفداً من قبائل الطوارق إبريل الماضي، ضمن غطاء انساني وحقوقي تقدمه منظمات تركية مرتبطة بالاستخبارات التركية، وقد تناول المرصد المصري، النشاط التركي في دول الساحل والصحراء وقدم تحليلاً لما يجري هناك في ورقة ” الطوارق .. ونشاط الاستخبارات التركية في الصحراء الكبرى “. كما تجدر الإشارة لتزامن الهجمات الإرهابية بمنطقة دول الساحل والصحراء مع النشاط التركي الأخير هناك.

مع اعتماد تركيا أدوات إعلامية فاعلة إقليمية ودولية، كانت أصداء تحركاتها الأخيرة عالية ويشوبها الكثير من الخطاب القيمي الأخلاقي.. فكيف جاء التحرك المصري الرامي لمعالجة التحركات التركية المهددة لدوائر أمنه القومي؟.

مصر من الردع للاستباق الأمني

تنتهج مصر سياسة ذات آثار تراكمية، تحاول ردع التحركات التركية واحتوائها في أحيان، واستباقها في أحيان أخري. ويمكن حصرها في:

  • بناء قوة عسكرية رادعة وتطوير مدي سلاحي الجو والبحرية بما يتناسب مع تكتيكات الحرب الحديثة، ومعركة الأسلحة المشتركة.
  • إرساء أنظمة قانونية تحد من فرص فرض الأطماع التركية، كما يأتي الوضع في شرق المتوسط والاتفاقات الأمنية والاقتصادية الموقعة مع مصر وقبرص واليونان كمثال.
  • بناء محاور أمنية لاحتواء التهديدات التركية. سواء في الاتجاه الشرقي والخليج العربي من خلال التقارب مع كل من السعودية والإمارات، وشمالأ من خلال التحالف مع كل من قبرص واليونان، والاتجاه لتعزيز التعاون الأمني والاقتصادي مع دول شرق أوروبا، إذ حصد إقليم شرق أوروبا نصيب كبير من زيارات الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الخارجية، وجاء في المركز الثاني بعد الدائرة العربية والأوروبية.
  • الاتجاه للتنسيق الأمني والاستخباري مع دول تقع ضمن دوائر النشاط التركي.

وفي ضوء النقطة الأخيرة، سلطت العديد من وسائل الإعلام، على النشاط المكثف الذي يقوم به  مدير جهاز المخابرات العامة المصرية، الوزير عباس كامل، في إطار التحركات المصرية الشاملة لتطويق أنقرة، حيث قام بزيارة عدد من الدول في المنطقة العربية وشمال إفريقيا، سعي من خلالها إلى عقد تحالف استخباري يمهد لتعاون عسكري مكثف يهدف لمواجهة مخطط التمدد التركي الذي وصفه كامل بأنه الأخطر ضد المنطقة العربية.

وتناقلت وقائع الزيارات العديد من التقارير الاستقصائية، لكنها لم تتطرق للمعومات فائقة الحساسية التي قدمها مدير جهاز المخابرات المصرية للدول التي زارها، وكانت ترتبط بالأساس بطبيعة التحركات التركية وأهدافها، وشبكات جواسيسها في تلك الدول. وعلى إثر تلك المعلومات الدقيقة المقدمة، نجح “الوزير عباس كامل” في “تكوين خلية أمنية عالية المستوي، شبيهة بغرفة عمليات تضم ممثلين رفيعي المستوي عن أجهزة أمن هذه الدول لمواجهة مخططات التمدد التركية”.

وبدا واضحاً، أن التحرك المصري الاستخباري الأخير يأتي ضمن جملة تحركات مصرية هدفت لتعزيز دور القاهرة لتقويض النفوذ التركي، ومنعه من رفع مستوي التهديد في دوائر الأمن القومي المباشرة والغير مباشرة، ولاسيما بعد نجاح القاهرة في عدم الانجراف في معارك مع وكلاء أنقرة الميليشياويين كونه أحد الفخاخ التركية لاستنزاف القدرات البقائية المصرية وجرها لصراعات علي أنساق حروب الوكالة والعصابات وخاصة في ليبيا. 

وفي هذا السياق، يقول دكتور “خالد عكاشة”، مدير المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، أن: “التحركات التركية الأخيرة في المنطقة ولاسيما في دوائر شرق المتوسط، شمال غربي سوريا، شمال إفريقيا “ليبيا”، تجئ في ضوء معاناة أنقرة من مأزق كبير داخليا وخارجيا، فهو عبارة عن حصاد لسنوات من انتهاج سياسات رعناء، جعلتها تستنفر كل أدواتها، ومن أهمها التنظيمات المسلحة والفصائل الإرهابية التي تحركها أجهزة الأمن التركية لتنفيذ أجنداتها وفرض إرادتها، وقد نجحت في أخذ أدوار متقدمة في الصراع السوري. كما لا نغفل وقائع نقل تركيا للمرتزقة من سوريا لليبيا، وما يشكله ذلك من تهديدات ليس لعملية التسوية في ليبيا فحسب بل، لدول جوارها أيضا، إذ بات واضحاً أن تركيا تريد استنساخ الميدان السوري في ليبيا، وفرض وقائع ميدانية لابتزاز الدول، كما الحال في تحرشاتها المستمرة بقبرص واليونان.

وأشار للتحركات التركية كونها تمثل تهديداً حقيقياً علي الأمن القومي العربي والمصري خاصة. وعن التعاطي المصري لاحتواء واستباق تلك التهديدات، وصف مدير المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجة، تحركات مدير جهاز المخابرات العامة المصرية، وزياراته للعديد من الدول العربية ودول شمال إفريقيا؛ بأنها تحركات إيجابية جداً، وستحقق طفرة في العمل الاستخباراتي المشترك بين مصر ودول عدة. وتابع: ” بهذه التحركات ستقطع بلا شك الطريق أمام زيادة نشاط ونفوذ تركيا بهذه الدول المعنية، كما تهدف بصورة كلية، لمنع تسرب التهديدات من الاتجاه الشمال الشرقي، للدولة المصرية المتمثل في سوريا وشرق المتوسط، إلى الجنوب، ويصل مجاله كذلك لدول الساحل والصحراء. وأضاف: ” نحن نتعامل مع تهديدات عابرة للحدود، وربما عابرة للقارات مما يستلزم مرونة في تبادل المعلومات وخاصة بعد ارتباط المصالح بين مصر وتلك الدول، وكذلك بعدما أدركت أبعاد الدور التركي في أراضيها إثر تلك المعلومات المقدمة، وعليه فأن تلك التحركات قد تسهم في رفع مستوي التنسيق الأمني والعسكري لمستويات عالية عما سبق”.

بدوره أكد، عضو الهيئة الاستشارية العليا للمركز المصري، اللواء “محمد إبراهيم الدويري”، للمرصد المصري، أن لمصر حق الدفاع عن نفسها في دوائر أمنها القومي المباشر والغير مباشرة. وتابع في حديثه عن التحركات المصرية الأخيرة: ” من المؤكد أن التحركات التي تقوم بها تركيا في ليبيا وسوريا ومنطقة شرق المتوسط ومنطقة شمال أفريقيا تهدد الأمن القومي ليس فقط لمصر أو لدول الجوار وإنما المنطقة كلها”.

وأضاف عضوء الهيئة الاستشارية: ” أن مصر وهي دولة إفريقية رئيسية تتحرك برؤية استراتيجية واضحة تهدف إلي تحقيق التنمية ومواجهة الإرهاب وإنهاء الصراعات بطريقة سلمية وهذه هي الأسس التي حرصت مصر علي تأكيدها وهي تتولي رئاسة الاتحاد الأفريقي ثم انطلقت بعد ذلك لطرح آليات جديدة وطرح الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال القمة الأخيرة في إثيوبيا تشكيل قوة افريقية لمحاربة الإرهاب … وفي تقديري أن هذا الإرهاب سوف يزداد اذا ما لم يتم مواجهة هذا التوجه التركي التوسعي الذي يعتمد علي المليشيات و المرتزقة في دعم تواجده في المنطقة. كما أكد أن ” مصر لا تسعي إلي تحالفات ولكنها تحرص علي التحرك المرشد علي المستويين الإقليمي من أجل حشد كافة الجهود نحو مكافحة الإرهاب وتسوية الصراعات بالطرق السلمية ولابد أن يكون هناك تضافر دولي مع هذه الجهود المصرية حتي تكون قادرة علي تحقيق هذه الأهداف”.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى