سوريا

دوائر النار .. الجيش السوري يحرر حلب بالكامل وإدلب في الواجهة

حين بدأت الشرارة الأولى لتحول الأزمة السورية لحالة من الاقتتال الداخلي، والاستهداف الممنهج للقدرات العسكرية السورية منذ منتصف عام 2011، ظهر النمط السائد للصراع السوري، “حرب المدن الكبرى”. 

كانت حلب – ثاني كبريات مدن سوريا ومركزها الاقتصادي الأول – أبرز مسارحها، ففي أحيائها القديمة قِدِم التاريخ، وبلداتها العريقة، بزغت تكتيكات قتالية جديدة في مضمار حروب المدن والعصابات، جعلت بعض الجيوش النظامية الأخرى في المنطقة، والعالم كـ “روسيا”، تعيد حساباتها وهيكلة قواتها المسلحة الثقيلة بأنساق هجومية تراعي تنوع مسارح المواجهة والاقتتال المسلح داخل المدن المكتظة بالسكان.

تقاطعت قيمة حلب في الاستراتيجية العسكرية لمسار الحرب السورية كلها، مع طموحات النظام التركي الذي يتبنى مشروعا أمميا قوميا توسعيا ، تقوم أولى مراحله الميدانية على استغلال الانكشاف الأمني للدول العربية المركزية إثر موجات ما يسمى ب”الربيع العربي”، وقضم أراضي ومدن عربية بطول الشريط الحدودي الممتد لتركيا مع سوريا والعراق، ما جعل المركز الاقتصادي والسكاني الأول لسوريا – قبل الحرب -، محافظة حلب، بمثابة نقطة فاصلة في تلك الطموحات التوسعية التركية، وحوّلها لأكثر مدن الحرب السورية التي تشهد أحداثاً دراماتيكية، في مسار الصراع، وكذا اتفاقات تسويات الحد الأدنى من الصراع، التي التي تقوم على التهدئة المرحلية للصراع من خلال فرض هدنة مؤقتة في بعض البؤر الجغرافية التي تشهد أكثر المواجهات احتدامًا دون التعامل مع الجذور العميقة للصراع والمسببات الأساسية لاستمراره.

حلب.. الرقم الصعب

لن تتضح الأهمية الاستراتيجية لحلب، دون تفنيد موقعها وموضعها من الأجندة التركية في الصراع السوري كونها الفاعل الإقليمي الأكثر نشاطا شمالي سوريا. بيد أن الأجندة التركية الميدانية في سوريا، تقوم على التوغل داخل الأراضي السورية عبر وكلاء ميلشياويين أو بالجيش النظامي التركي لعمق يتراوح من 40 إلى 100 كم. وبعرض جبهة تصل لأكثر من 800 كم.

سعت تركيا للانخراط العسكري المباشر وغير المباشر في الشمال السوري وعاصمته حلب بُغية تحقيق جملة من الأهداف الاستراتيجية، يمكن حصرها في الآتي:

  • أولاً: فصل الحزام الكردي المتنامي “المناطق المظللة الصفراء”، من شرق الفرات حتى عفرين غرباً، والملاصق للتركيبة الكردية التي تعيش داخل الحدود التركية.

 وقد نجحت تركيا في تنفيذ إجراءات العزل بين الكنتونات الكردية من خلال شن ثلاث عمليات عسكرية رئيسية في سوريا. 

العملية الأولي “درع الفرات” 2016:

شملت عملية درع الفرات، مسرحا عملياتيا يمتد من جرابلس شرقاً لإعزاز غرباً، ويصل جنوباً لمدينة الباب. 

وقد نجحت تركيا عبر وكلائها في السيطرة عليه، دون خسائر كبيرة في وحدات جيشها النظامي.

يذكر أن منطقة عمليات درع الفرات كانت خاضعة لسيطرة فصائل مسلحة منتمية لتنظيم القاعدة، وكذلك تنظيم داعش، كما لم يٌسجل هجوم ضد الجيش التركي من هذه الفصائل، عدا هجوم وحيد شنته مفارز أمنية لتنظيم داعش علي وحدات للجيش التركي قرب مدينة الباب وانتهت بمجزرة ضد الوحدات التركية.

العملية الثانية “غصن الزيتون” 2018:

كان مسرح العمليات مدينة عفرين، ودخلت القوات التركية للمدنية بنفس أنساق الهجوم الأول في درع الفرات. بهذه العملية طردت تركيا مواقع الأكراد في غرب الفرات ووصلت مناطق درع الفرات بعفرين.

العملية الثالثة: نبع السلام 2019.

في هذه العملية العسكرية انتقلت القوات التركية ولأول مرة إلي مناطق الأكراد شرق الفرات أكتوبر 2019. وأقامت حاجز بين الكنتونات الكردية الأخيرة في هذه المنطقة، بمربع أمني يمتد من بلدة تل أبيض وصولاً لبلدة رأس العين. 

وبهذا، قطّعت تركيا أوصال المناطق الكردية في الشمال السوري، وانسحبت قوات سوريا الديمقراطية جنوب مناطق عمليات الجيش التركي والفصائل المسلحة الموالية له إثر تفاهمات روسية – تركية، أمريكية – تركية.

ثانياً: ضم حلب لسياسيات ” التتريك” لتعزيز أدوار تركيا في مسارات أستانا وسوتشي.

منذ اليوم الأول لوصول شرارة الحرب السورية لمدينة حلب في 2012، قدمت تركيا دعماً سخياً للتنظيمات المسلحة ولاسيما تلك المنتمية للعرقية التركمانية، كـ جماعة نورالدين الزنكي، والسلطان مراد، وسليمان شاه. وقادت كبري العلميات التي استهدفت طرد قوات الجيش السوري من المدنية، حتى نجحت في عزله تماماً في جيوب عسكرية ضيقة في 2013 كما توضح الصورة التالية:

اللون الأحمر يمثل قوات الجيش السوري. 

يذكر أن هناك وحدات من الجيش السوري تم حصارها طيلة عامين كاملين، كسجن حلب المركزي، ومشفى الكندي الذي ظلت الوحدات السورية المكلفة بحمايته في حصار طيلة 7 أشهر، قبل أن تهاجم تنظيمات القاعدة وتقوم بتنفيذ عمليات إعدام ميدانية بحق ضباطه وجنوده بعد تفجيره بالسيارات المفخخة.

https://www.youtube.com/watch?v=z_686pCqCg0

ظلّ الوضع الميداني في حلب يميل لكفة التنظيمات المسلحة، حتى دخول الروس عسكرياً في سوريا، سبتمبر 2015، الجدير بالذكر أن في هذه الأثناء تحولت حلب لمركز تجميع العناصر المسلحة القوقازية.

 ما جعل لتحريرها أولوية علي بنك أهداف التدخل الروسي، الذي جاء خصيصاً لتصفية العناصر المسلحة الشيشانية والداغستانية قبل إعادة تدويرها لتهديد مناطق الحرم الأمني الروسي.

https://www.youtube.com/watch?v=ADl_FbzaAPA

تجدر الإشارة، أنه قبل التدخل الروسي، كانت وحدات الجيش السوري المعنية بمكافحة التنظيمات المسلحة والارهابية تتمركز في غرب المدينة.

 ومع التدخل الروسي، بدأ الزخف السوري تجاه قلب مدينة حلب، وأحيائها الشرقية، حتى نجحت الحكومة السورية بإسناد روسي، من تحرير المدينة القديمة أواخر عام 2016.

https://www.youtube.com/watch?v=mfCcmn2u-W8

لكن ذلك التقدم، شابه الكثير من الثغرات، إذ تمكنت تركيا عبر وكلائها من تهديد غرب حلب، ومنع الجيش السوري من مواصلة انطلاقه لإدلب من أحياء حلب الغربية والجنوبية كما توضح الخريطة التالية:

شيئاً فشيئاً، تقدم الجيش السوري بعد توقف إثر اتفاقات خفض التصعيد، باتجاه الغرب الحلبي، بالتوازي مع بدء عملية عسكرية موسعة باتجاه ادلب إبريل من العام الماضي.

وتحولت حلب من أسهل بؤرة صراع بالنسبة لتركيا، إلي نقطة ثورة مضادة إن جاز التعبير، حيث من خلال حلب انطلقت غالبية التعزيزات العسكرية باتجاه محاور الهجوم السورية منذ العام 2017 كما توضحه الخريطة التالية:

وتعطلت، بل انتهت أحلام “تتريك” حلب، منذ ذلك الحين، وعلى الرغم من تثبيت الجيش السوري السيطرة النارية على غرب حلب، إلا أن عملياته في إدلب، والحصار الذي تعرضت له جبهة النصرة وباقي الفصائل المسلحة المدعومة تركياً، دفعت باتجاه شن جبهة النصرة هجوم موسع ضد مواقع الجيش السوري جنوب غربي حلب، في محاولة لتخفيف الضغط الواقع عليها في جبهات القتال في محاور إدلب ولاسيما بعد تحرير مدينة سراقب الاستراتيجية.

وهنا، تحول الغرب الحلبي وأريافه لمسرح بطله الأول والأخير صواريخ التاو الأمريكية التي تستخدمها جبهة النصرة وفصائل ما يُسمي بالجيش الوطني السوري المرتبطة بها لمهاجمة نقاط وتجمعات الجيش السوري.

إلي أن نجحت بالأمس، قوات الجيش السوري من تحرير كامل مدينة حلب، ودخولها للأحياء الغربية منها لأول مرة منذ أن طُردت منها عام 2012،  وانطلقت لأول مرة، محاور الهجوم باتجاه ادلب، من شمالي غرب حلب.

كما عزز الجيش السوري سيطرته على طريق إم 5 الدولي الذي يربط دمشق العاصمة بحلب، وضم نحو 1500 كم2 من الأراضي علي جانبي ذلك الطريق الهام لسيطرته. لتثبيت سيطرته النارية وتأمين تعزيزات هجوم إدلب من المحور الشرقي للمدينة.

خاتمة

أظهرت ديناميكيات الحرب في حلب، أنه كلما عززت الحكومة السورية سيطرتها علي حلب، كلما انكمشت الرقعة الجغرافية التي بحوزة الفصائل المسلحة المدعومة تركياً، ولاسيما جبهة النصرة التي ظهر قائدها “الجولاني” في تسجيل مصور داعماً للموقف التركي في الشمال السوري بالرغم من إدراج أنقره له ولتنظيمه على قوائم الإرهاب.

كما يُلاحظ اتجاه أنقرة لمنع وصل القوات السورية الغرب الحلبي، بشرق إدلب، إذ باتت ديناميكيات الحرب بالنسبة لتركيا وفصائلها في تلك البقعة الجغرافية أشبه بحبل يضيق تدريجياً على رقبة حلم التوسع التركي أبعد من حلب لتصبح حدودها بالنسبة للنظام التركي أشبه بـ دوائر النار. ما يرفع من احتمالات التوصل لاتفاق مرحلي بوقف إطلاق النار، وكذا إعادة نظر النظام التركي في إنجاز فصل المعارضة “المعتدلة” عن جبهة النصرة، ونزع سلاحها الثقيل.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى