
“خلافات مُتنامية”.. الموقف الفرنسي تجاه النزعة التوسعية التركية
تمر العلاقات الفرنسية التركية بمراحل من التوتر وعدم التوافق حول إدارة بعض الملفات والقضايا ذات الاهتمام المشتركة، نتيجة تضارب مصالحهم الوطنية معها، فضلاً عن تبني الرئيس التركي سياسة توسعية قائمة على التدخل في الشئون الداخلية للدول لخدمة توجهاته بواسطة عدد من الأذرع والمليشيات المسلحة، التي تساهم في ترسيخ هيمنته على دول الجوار الجغرافي، علاوة على رغبته في امتلاك أوراق ضغط يوظفها ضد الدول الأوروبية، التي تجسدت في ملف المقاتلين الأجانب، واللاجئين، والتنقيب في شرق المتوسط التي عمقت الخلاف بينهم.
بجانب عدم التنسيق فيما يتعلق بعمليات العسكرية التركية في سوريا، وعدم التزامه بقواعد القانون الدولي، الأمر الذي انتقده الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، واعتبر أن السياسات التركية دعمت حالة عدم الاستقرار في كثير من الملفات وفي مقدمتهم الملف الليبي.
جاء آخرها متمثلًا في اتهام “ماكرون” تركيا بإرسال سفن محملة بعدد من المرتزقة السوريين إلى ليبيا، الذي يمثل انتهاك صريح لما تم التوصل إليه في إطار مؤتمر برلين للسلام؛ حيث أكد على أهمية عدم التدخل في الشأن الداخلي الليبي، أو دعم طرفي الصراع بما يُعرقل مسار التسوية. وذلك بعد إعلان الجيش التركي يوم 29 يناير 2020، “أن 4 فرقاطات وسفينة للتزود بالوقود تقف خارج المياه الإقليمية الليبية لدعم عمليات الناتو في المنطقة، ولضمان أمن طرق التجارة البحرية”. وعليه يرفض “ماكرون” التدخل التركي في ليبيا القائم على دعم الميلشيات المسلحة. وفي وقت سابق انتقدت باريس الاتفاق المبرم بين حكومة الوفاق وتركيا الخاص بالتعاون العسكري، وترسيم الحدود البحرية باعتباره غير قانوني.
عثرات متتالية في مسيرة العلاقات الفرنسية التركية
بالرغم من العلاقات التاريخية بين البلدين، إلا إنها تشهد حالة من التعقيد وعدم التوافق حول إدارة بعض الملفات الإقليمية والدولية؛ حيث تسعى فرنسا إلى ردع التوسع التركي الذي انعكس بشكل عميق على مصالحها ومصالح حلفاءها، وعليه سيتم عرض أهم الأبعاد الخلافية بين البلدين على النحو التالي:
على مستوى الداخل الفرنسي:
- مطالبة باريس تسليم أحد المتورطين في اعتداءات 13 نوفمبر 2015؛ شهد عام 2017 مُطالبة القضاة المكلفون بالتحقيق في حادثة الإرهابية التي تعرضت لها باريس في 2015، وأسفرت عن مقتل 130 شخصًا، بتسليم “أحمد دهماني”، المسجون في أنقرة، والمشتبه فيه بأنه المسئول اللوجيستي في العملية؛ حيث سافر من أمستردام إلى أنقرة يوم 14 نوفمبر 2015، وبعد وصوله تم إيقافه في أنطاليا مع مهربين كانا يحاولان نقله إلى سوريا، وتم الحكم عليه ومن برفقته بالسجن عشر سنوات وتسعة أشهر نتيجة إدانتهم بانتمائهم إلى منظمة إرهابية في 2016. والجدير بالذكر أن “دهماني” كان على صلة بالمتهم الرئيسي في العملية الإرهابية “صلاح عبد السلام”.
- التخوف من الاستقطاب الهوياتي؛ هاجم “جان ميشيل بلانكر” وزير التربية والتعليم الفرنسي مشروع إنشاء المدارس الثانوية التركية في باريس، في مايو 2019 رافضًا التوسع التركي خارجيًا، خوفًا من المساعي التركية وانعكاساتها على الهوية الفرنسية قائلًا “لدينا الكثير من بوادر سوء النية القادمة من تركيا، وهناك قلق كبير بشأن ما تفعله السلطات التركية مع الجاليات التركية في فرنسا”، واستكمل “إذا رغبت أي دولة محايدة أيديولوجيًا ودينيًا في تنفيذ مثل هذه المشروعات داخل فرنسا دون أن تستهدف من وراء تنفيذه تحقيق أطماع توسعية فستكون هناك فرص للمناقشة وبحث الأمر بالطبع، لكن هذا ليس هو الوضع بالنسبة لتركيا”.
- اعتراف فرنسا بمذابح الأرمن؛ اعترف “ماكرون” بالمذابح العثمانية في حق الأرمن، وجعل يوم 24 أبريل مناسبة رسمية يتم فيها إحياء ذكرى المذبحة، وذلك وفاءًا بوعده الانتخابية لمجلس تنسيق المنظمات الأرمينية في فرنسا، التي حدثت إبان الحرب العالمية الأول، مما أدى توتر العلاقات بين الجانبين، وانتقده “أردوغان” واصفًا الرئيس الفرنسي “بالمبتدأ في السياسة، ولابد أن يتعلم أولًا عن تاريخ بلاده”. وهنا لابد من توضيح أن البرلمان الفرنسي أقر في فبراير 2012 في عهد الرئيس “ساركوزي”، قانونًا “يجرم إنكار المجازر التي تعرضت لها القومية الأرمينية في إبان حكم العثمانيين”.
على المستوى الخارجي (الشرق الأوسط – الإقليم الأوروبي):
- الدعم الفرنسي للأكراد؛ أثار الدعم الفرنسي للأكراد والقوات التابعة لها حالة من الغضب التركي؛ حيث تعتبر باريس أن الأكراد حلفاء موثوق به في محاربة الإرهاب والقضاء على “داعش”، في المقابل تنظر إليهم أنقرة على وإنهم ذراعًا لـ “حزب العمال الكردستاني”، إنهم فصيل إرهابي لابد من محاربتهم، وهو ما تمثل في عملية غصن الزيتون، ونبع السلام. وفي هذا السياق فقد استقبل “ماكرون” في أبريل 2019 وفدًا ممثلين عن قوات سوريا الديمقراطية في باريس، مؤكدًا استمرار دعمه لهم في مكافحة “داعش”، الذي يمثل تهديدًا للأمن الجماعي، أكدت باريس على إنها ستقدم دعمًا ماليًا “لتلبية الحاجات الإنسانية والدفع باتجاه الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي للسكان المدنيين في سوريا”.
- الاستنكار من التدخل العسكري التركي في شمال سوريا؛ بدأت تأزم الموقف في الشمال السوري مع إعلان الإدارة الأميركية الانسحاب من سوريا، دون إبلاغ الدول الحلفاء والمنسقة معهم في الحرب ضد “داعش” بما فيهم فرنسا. مما أدى إلى التدخل العسكري التركي للمناطق الحدودية في شمال شرق سوريا، فقد كانت باريس في مقدمة الدولة التي رفضت العملية العسكرية التركية، مُطالبةً بوقفها، خوفًا من تفاقم الوضع الإنساني، وأن هذه العملية ستدعم تنظيم “داعش” الذي سيحاول توظيف الأوضاع لإعادة التموضع، مما سيُقوض من محاربة الإرهاب في المنطقة. واستدعت وزارة الخارجية الفرنسية السفير التركي لدى باريس، للتعبير عن رفضهم المُطلق للعملية العسكرية في تركيا. فيما أدانت باريس في بيان مشترك مع ألمانيا صدر في مدينة تولوز الفرنسية في 16 أكتوبر2019، العملية العسكرية؛ إذ دعت الحكومتان إلى الالتزام بقواعد القانون الدولي، وأن تجدد الأعمال العدائية يُقوض استقرار المنطقة. كما عبر “ماكرون” عن إدانته لها إبان قمة الناتو في ديسمبر2019.
- التصدي الفرنسي للضغوط التركية؛ انتهج “أردوغان” سياسة الضغط تجاه الدول الأوروبية في عدد من الملفات مثل اللاجئين والمهاجرين، علاوة على ملف العائدون الأجانب من “داعش” لتوظيفهم لخدمة طموحاته التوسعية، والحصول على عوائد مالية قدرها 3 مليار يورو تضاف إلى المساعدات التي وعدت بها أوروبا، لدعم اللاجئين المُقيمين على الأراضي التركية، مع إعفاء مواطنيها من تأشيرات الدخول إلى الدول الأوروبية، بداية من يونيو 2016. وسياسيًا تمثل في إعادة فتح مفاوضات الانضمام بعد تجميدها، والموافقة لتركيا بإقامة منطقة آمنة في الشمال السوري، التي تجلت إبان عملية “نبع السلام” في الشمال السوري؛ حيث نددت فرنسا والقوى الأوروبية العملية العسكرية، وفي أكتوبر 2019 ذكر بيان مشترك من وزارتي الدفاع والخارجية الفرنسيتين: “تعليق كل خطط تصدير السلاح إلى تركيا الذي يمكن أن يستخدم في هذا الهجوم. القرار يسري على الفور”. في المقابل هددهم “أردوغان” بإنه “سيفتح الأبواب أمام اللاجئين للتوجه نحو أوروبا؛ حيث يقدر عددهم بما يقرب من 3.6 مليون لاجئ”.
- مساندة اليونان وقبرص ضد الانتهاكات التركية في شرق المتوسط؛ استنكر “ماكرون” محاولة “أردوغان” المستمرة في انتهاك سيادة قبرص واليونان، والممارسات الاستفزازية غير القانونية التي تجلت في أعمال الحفر والتنقيب في المنطقة في محاولة لسيطرة على مواردهم من الطاقة في منطقة شرق المتوسط، مُطالبًا بوقف “الأعمال غير المشروعة”.
فيما أوضح “ماكرون” خلال اجتماعه مع رئيس الوزراء اليوناني “كيرياكوس ميتسوتاكيس” في يناير 2020 الذي قام بزيارة رسمية إلى باريس لحشد الدعم من الاتحاد الأوروبي، “أن اتفاق ترسيم الحدود بين تركيا وحكومة السراج بأنه يعد “وثيقة باطلة” لا تحمل أي سند قانوني أو سياسي، مؤكدًا على أهمية إلغاء الاتفاق كشرط مسبق لأي حل سياسي”.
واستكمل إنه “يدعم سيادة قبرص واليونان على مناطقهما البحرية، وتدين باريس مع شركائها الأوروبيين تدخلات تركيا واستفزازاتها”. وعليه فقد قرر “ماكرون” الرد على هذا الانتهاك السافر دعمًا لحقوق البلدين، من خلال إرسال سفن حربية فرنسية تحمي حدودهم، الأمر الذي وصفه رئيس الوزراء اليوناني بأن السفن “ضامنة للسلام”. تزامنًا مع إعلان وزارة الدفاع الفرنسية في 30 يناير 2020 عن بدء مهمة بحرية أوروبية لحماية الملاحة في الخليج، وضمان احتواء التصعيد مع إيران. وفي وقت سابق طالب “ماكرون الانضمام بشكل رسمي إلى منتدى غاز شرق المتوسط بقيادة مصر لمساندة تحالف الطاقة في المنطقة، بالإضافة إلى حماية استثمار شركة توتال فيها.
على مستوى التكتلات الإقليمية والدولية:
- معارضة فرنسا لانضمام تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي؛ يرفض “ماكرون” فتح ملف التوسع الخاص بالاتحاد؛ بما في ذلك مفاوضات انضمام تركيا التي تم تجميدها نتيجة عدم التزامها باحترام حقوق الإنسان، وحرية التعبير، فضلاً عن اعتقالها الألاف من العسكريين وأفراد الشرطة والصحفيين بزعم صلاتهم برجل الدين “فتح الله جولن” المُقيم في الولايات المتحدة الذي تتهمه أنقرة بدعمه للانقلاب على النظام في يوليو 2016. لذا فقد اقترح “ماكرون” مساعي بديلة للانضمام تعزيز من الشراكة بين أنقرة والاتحاد، وذلك إبان اجتماعه في باريس مع نظيره التركي في يناير 2018. قائلًا “يجب أن ننظر فيما إذا بالإمكان إعادة التفكير في هذه العلاقة، ليس في إطار عملية انضمام بل ربما في إطار تعاون وشراكة بهدف الحفاظ على ارتباط تركيا والشعب التركي بأوروبا، والعمل على جعل مستقبله مبنيا على التطلع إلى أوروبا ومع أوروبا”. والجدير بالذكر أن الرفض الفرنسي لانضمام تركيا ليس بجديد فقد عارضه من قبل الرئيس “نيكولا ساركوزي“، موضحًا أن أولوية الاتحاد تُكمن في إصلاح مؤسساته، فيما اتفق “ساركوزي” مع المستشارة الألمانية على تجميد فتح خمسة فصول كانت ستساهم في انضمام تركيا بشكل واقعي. كما اقترحوا في مايو 2009 عمل شراكات مع تركيا وليس انضمامها. وفي 2013 وافقت باريس على مناقشة الفصل الخاص بالسياسات الإقليمية الموجودة في الفصل 22. وفي مارس 2016 أوضح الرئيس “فرانسوا هولاند” “لا يجب تقديم أي تنازلات في مجال حقوق الإنسان أو معايير رفع التأشيرة الدخول في سياق استئناف المفاوضات مع أنقرة”، إبان اجتماعه مع عدد من المسؤولين قبل قمة بروكسل بين الاتحاد وأنقرة الـ 28.
- استنكار فرنسا من التعاطي التركي تجاه حلف شمال الأطلسي؛ بالرغم من احترام “ماكرون” لسيادة أنقرة وحقها في حماية أمنها والدفاع عنه، إلا إنه طالب تركيا بتوضيح بشأن شراء المنظومة الصاروخية “إس 400″، قائلاً: “كيف يمكن أن تكون عضوًا في حلف شمال الأطلسي وتعمل مع روسيا وتشتري منها؟“، وذلك إبان مؤتمر صحفي عقده مع نظيره الأمريكي “دونالد ترامب” على هامش القمة السبعين لدول الناتو المنعقدة بلندن في ديسمبر 2019. واستكمل قائلًا “ما إذا كانت تركيا ترغب في البقاء في الناتو في سياق معارضتها خطة الدفاع عن دول البلطيق إن لم تعلن تتخذ دول الحلف موقفًا من التنظيمات التي تقاتلها تركيا“. وذلك بالتزامن مع تهديد “أردوغان” الصريح بمعارضة خطط الناتو الخاصة بحماية دول البلطيق. كما اتهم تركيا بـ “العمل أحيانًا مع مقاتلين مرتبطين بـ “داعش”. وعليه فقد طالب من “ترامب” “ضرورة الاتفاق على “تعريف واضح حول مفهوم مكافحة الإرهاب في الناتو”. ويذكر أن قبيل القمة أثار “ماكرون” حالة من الجدل بشأن تصريحاته المتعلقة بالناتو؛ حيث أوضح أنه في حالة “موت دماغي”، نتيجة التحول الاستراتيجي في السياسة الأمريكية تجاه الدول الحلفاء، فضلاً عن قيام تركيا بالتدخل العسكري في شمال سوريا بدون تنسيق مُسبق، مُستهدفةً القوات الكردية المشاركة في الحرب ضد “داعش”.
ختامًا؛
من المتوقع أن تستمر العلاقات الفرنسية التركية بهذا النهج نتيجة رفض القيادة الفرنسية التوسع التركي في الجوار الجغرافي، محاولاته لعسكرة التفاعلات في شرق المتوسط من خلال إعادة التمركز في لبيبا، ودعم حكومة الوفاق عسكريًا وماليًا علاوة على إرسال عدد من المرتزقة لدعم مصالحه، فضلاً عن تبني “أردوغان” سياسات الابتزاز للقوى الأوروبية، ومحاولتها للاستفادة من موقعه الاستراتيجي بين الشرق والغرب الأمر الذي يرفضه “ماكرون” باعتباره تهديدًا مباشرًا للأمن الأوروبي. ولكن هذا لا ينفى أن الجانبين لديهم أولويات مشتركة، سيجعل الحوار حولها فرصة محتملة لإمكانية التوافق خاصة فيما يتعلق باللاجئين والمقاتلين العائدون والتنسيق تحت مظلة الناتو.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية



