الصحافة الدولية

المرحلة الانتقالية: نهاية دراما بريكست أم فصل جديد بها؟

مثّل يوم 31 يناير الماضي، تاريخ محوري في تاريخ الدراما الأطول في تاريخ المملكة المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية. فبعد ثلاثة سنوات ونصف، بدأت المملكة أولى خطواتها خارج الاتحاد الأوروبي بعد عضوية دامت ما يقرب من نصف قرن.

وبرغم أن حالة الاحتفال وترديد النشيد الوطني قد ملأت العديد من الساحات البريطانية، إلا أن أقرب وصف لهذا الخروج أنه شبه نهائي، أي لا يمكن للمملكة التراجع عن قرار خروجها من طرف واحد، كما كفلت لها محكمة العدل الأوروبية ذلك. وفي نفس الوقت، بدأت فترة انتقالية منصوص عليها في اتفاق الانسحاب بينها وبين الاتحاد. ستمهد هذه الفترة لتفاوض المملكة مع الأطراف الخارجية المختلفة على اتفاقات تحكم علاقاتها بها، لكن لن يتم التصديق عليها إلا بعد انتهاء الفترة الانتقالية بشكل رسمي.

تباينت ردود أفعال الأطراف حول الخروج، فقد رحب وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بتلك الخطوة واحتفى بها، قائلًا في تغريدة له “سنواصل تعزيز علاقاتنا القوية والمثمرة والمزدهرة أصلاً مع بريطانيا، في الوقت الذي تفتح صفحة جديدة من تاريخها”.

بينما جاءت المواقف الأوروبية عكس ذلك، إذ رأى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن الانسحاب “إنذار تاريخي يجب سماعه في كل بلد من بلداننا”. وأوضح أن الاتّحاد الأوروبي يجب أن يكون “أكثر سيادةً وديمقراطية وأقرب إلى مواطنينا، للحيلولة دون مغادرة أوروبا استجابةً للصعوبات التي نعيشها اليوم”.

وتحدّث ماكرون في مقال نشرته صحيفة “ذي تايمز” أيضًا عن الصعوبات التي ستواجه المحادثات التجارية الوشيكة بين بروكسل ولندن. وأكد على عدم السماح ببروز منافسة ضارّة، فكلما التزمت لندن بالقواعد الأوروبية، استطاعت النفوذ بقوة للاتحاد.  

وكذلك صرحت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بأن “خروج المملكة المتّحدة من الاتّحاد الأوروبي شكّل ضربة عميقة بالنسبة لنا جميعاً”، محذّرةً من أن المفاوضات الخاصة بتشكيل مستقبل العلاقة بين المملكة والاتحاد والشراكة التجارية، “لن تكون سهلة”.

أما في أسكتلندا، فقد صرحت رئيسة الوزراء نيكولا ستورجن إنّه “وقت حزين جداً تُواكبه مشاعر غضب”. وأكّدت تصميمها على المضيّ قدماً في تنظيم استفتاء للاستقلال عن المملكة المتحدة. وهو ما يتسق مع موقف بلادها الرافض للخروج من الاتحاد منذ استفتاء الخروج في يونيو 2016، فقد كانت أسكتلندا حينها أكثر الأقاليم رفضاً للخروج بنسبة تجاوزت 60% من مجموع المصوتين.

المرحلة القادمة بين التغير والاستمرارية

من الناحية الفعلية، لن يكن هناك تغييرًا كبيرًا أثناء تلك الفترة التي تمتد إلى 11 شهراً على الأقل، لأن المملكة ستظل ملتزمة بالقوانين الأوروبية دون المشاركة في قرارات الاتّحاد طيلة الفترة الانتقالية، بالإضافة لعدم وجود أعضاء لها في البرلمان الأوروبي بعد الآن.

بنهاية فبراير الحالي، سيتعين على دول الاتحاد السبع وعشرين والبرلمان الأوروبي، المصادقة على بنود الاتفاق المقترح من قبل كبير مفاوضي الاتحاد ميشال بارنييه بشأن تنظيم العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والمملكة، على أن تبدأ المفاوضات في مارس القادم للتوصل لاتفاق يحدد شكل علاقاتهما، الذي سيتحدد وفقًا لما يقدّمه رئيس الوزراء بوريس جونسون، وذلك استنادًا للتصريحات الرسمية الصادرة عن الاتحاد.

ستستمر المفاوضات منذ ذلك الحين حتى نهاية يونيو القادم، على أن يتم عرض الاتفاق –في حالة الوصول له- على البرلمانات الوطنية لدول الاتحاد والبرلمان الأوروبي للمصادقة عليه. وإذا لم يتم التوصل لاتفاق، سيكون أمام المملكة خياران: إما طلب تمديد الفترة الانتقالية والمحكومة باتفاق الانسحاب بمدة أقصاها سنتان، أو إعلان فشل المفاوضات وحينها ستخرج المملكة دون اتفاق ينظم العلاقات بينها وبين الاتحاد الأوروبي.

إلا أنه يجب الأخذ في الاعتبار أن الخروج دون اتفاق في هذه الحالة يختلف عن وضع ما قبل توقيع اتفاق الانسحاب الذي وافق عليه كل من مجلس العموم والبرلمان الأوروبي.

النتائج المترتبة على اتفاق الانسحاب

في التاسع من يناير الماضي، بعد حالة الرفض التي لازمت مشروع اتفاقية الانسحاب طوال الفترة الماضية، تم تمريره في قراءته الثالثة بأغلبية 330 صوتًا مقابل 231 صوتًا بمجلس العموم. يتكون الاتفاق من مائة وخمسة عشر صفحة تركز على أربعة نقاط رئيسية، تتشابه مع أبرز النقاط التي تم الاتفاق عليها مسبقًا في اتفاق رئيسة الوزراء السابقة ” تيريزا ماي”، الموقّع في نوفمبر 2018 مع بروكسل. مثل مدة المرحلة الانتقالية، وفاتورة الانسحاب المقدرة بما يقرب من 40 مليار يورو، وتشكيل لجنة الحفاظ على حقوق المواطنين الأوروبيين في بريطانيا والعكس.

إلا أن الاتفاق الجديد عالج نقطة الخلاف الرئيسية فيما سبق وهي تنظيم العلاقة بين إقليم إيرلندا الشمالية والاتحاد الأوروبي. فقد أشار الاتفاق السابق إلى إبقاء المملكة في الاتحاد الجمركي للاتحاد الأوروبي، مع اتباع إيرلندا الشمالية قواعد السوق الموحدة للكتلة طوال الفترة الانتقالية، التي يمكن أن تمديدها، إلا أنه بموجب اتفاق جونسون، ستبقي أيرلندا الشمالية بشكل متساوٍ في كلا النظامين البريطاني والأوروبي:

ينص الاتفاق الجديد على خروج أيرلندا الشمالية من الاتحاد الجمركي والسوق الأوروبية الموحدة، وكذلك بريطانيا لن تصبح جزء من اتحاد جمركي مع الاتحاد بعكس الاتفاق السابق. بدلاً من ذلك ستخضع أيرلندا الشمالية للاتحاد الجمركي مع المملكة، وتتبع إجراءات الاتحاد الأوروبي الخاصة بالبضائع التي تصل إلى البلاد. ولن تكون هناك عمليات تفتيش جمركية عند دخول السلع إلى أيرلندا الشمالية من دول الاتحاد، ولكن سيتم إجراؤها في الموانئ والمطارات.

وكذلك لن يتم إضافة تعريفة للبضائع التي يتم استهلاكها في أيرلندا الشمالية، تلك المنتجات الآتية من الاتحاد. وبالمثل من جانب الاتحاد، فلن يضيف تعريفة على البضائع الشخصية التي يحملها المسافرون عبر الحدود الأيرلندية، وبخاصة الموجهة للاستهلاك الفوري.

وضع الاتفاق الجديد طريق للخروج أو الاستمرار بهذا الترتيب البديل عن شبكة الأمان: وهو جمعية أيرلندا الشمالية (بمثابة البرلمان هناك)، التي ستكون قادرة على التصويت على الاستمرار في تطبيق قواعد الاتحاد الأوروبي. ولكن هذا لا يمكن أن يحدث إلا بعد مرور أربع سنوات على انتهاء الفترة الانتقالية – وبالتالي نهاية عام 2024[1]. لذا فالاستمرار أصبح مرهوناً بإرادة المواطنين وممثليهم العمومين بإيرلندا الشمالية وليس مرهوناً بالاتحاد الأوروبي كالاتفاق السابق.

إذاً كيف توصّل جونسون لهذا الاتفاق؟

لم يستطع جونسون تمرير هذا الاتفاق، إلا بعد أن ضغط على مجلس العموم، للقيام بانتخابات برلمانية مبكرة لكسر حالة الجمود والاستقطاب التي ساهمت في عدم وجود كتلة تصويتية يمكنها تمرير أي اتفاق ذا صلة بالبريكست، خاصة أن حزب المحافظين كان يملك أغلبية بسيطة بسبب الائتلاف مع الحزب الاتحادي الوحدوي، المصرّ على إقامة حدود صلبة بين أيرلندا الشمالية ودولة أيرلندا العضوة بالاتحاد الأوروبي. وهذا ما سيجلب الكثير من الويلات على تلك المنطقة التي لطالما دخلت في حروب دامت لأكثر من ثلاثة عقود بسبب الحدود الصلبة على الجزيرة الأيرلندية، وتوصلت لاتفاق بلفاست عام 1998 لإزالة الحدود بين البلدين.

راهن جونسون حينها بكل قوته على نهج رئيسي يفضّله دومًا وهو (الانحياز للشعب):

فقد استطاع جونسون فهم جوهر ما يمثله البريكست. وهو شعور البريطانيين برغبتهم في السيطرة على مؤسساتهم وهويتهم الخاصة. وهو ما راهن عليه كأولوية رئيسة في حملته الانتخابية واستخدمه كشعار رسمي لها.

استخدم تلك الورقة في مواجهة الأحزاب الأخرى وعلى رأسها حزب العمال، والتي ضمنت فوزه بأغلبية لم تتحقق منذ ثمانينات القرن الماضي، وبهذا استطاع تمرير اتفاق الانسحاب.

هل سيكون هذا النهج هو السائد إذآ في المفاوضات القادمة؟

أكد جونسون على نفس النهج في خطابه الذي ألقاه في الثالث من فبراير الجاري، إذ رأي أن تنفيذ البريكست هو تحقيق سيادة الشعب على أرضه، وتصدير المملكة كوجهة رئيسية لحماية حرية التجارة حول العالم. إلا أن الأمور لن تكون بتلك البساطة في المفاوضات القادمة الخاصة بتنظيم العلاقات بين المملكة والاتحاد.

ففكرة سيادة الشعب على أرضه تم تفكيكها في كتاب نُشر حديثاً للكاتب جاي شروبسول بعنوان “من يملك إنجلترا” بمايو 2019، ووجد أن الأرستقراطيين البريطانيين يمتلكون ثلث الأراضي الإنجليزية، وقد يزيد ذلك لأن هناك 17% من الأرض غير معروف ملكيتها، ويرجع ذلك للقانون التي لا يُحتم تسجيل ملكية الأرض مالم يتم تداولها للبيع لأكثر من مائة عام. لذا فهؤلاء الأرستقراطيين الأقرب لملكية تلك الأراضي التي يتم توارثها في عائلاتهم منذ قرون. تليهم الشركات بنسبة 18%. ثم الأوليجاركيين الجدد والعاملون بالبنوك والمُصنعين الجدد بنسبة 17%، القطاع العام 8.5%. وأصحاب المنازل العادية 5%. التاج 1.4%، والكنيسة 0.5%.

لذا فإن هؤلاء المُلاك الذين تتشابك مصالحهم بشكل كبير مع الاتحاد الأوروبي والتعاون معه، سيكون لهم تأثير قوي في تلك المفاوضات القادمة، ودعمهم لاتفاق الانسحاب رغم تصويت أغلبهم على عدم الخروج، بسبب رهانهم على براجماتية رئيس الوزراء وقدرته على المساومة.

إجمالاً، تعرض التقرير للأبعاد التنظيمية الخاصة بالمرحلة الانتقالية للبريكست، ولكن انتهاء تلك المرحلة كما سبق العرض يعد محكوماً بشكل العلاقات التي سيحددها الطرفان الأوروبي والبريطاني في تلك المفاوضات التي تحمل في طياتها العديد من أوراق الضغط لدى الطرفين، وهذا ما سيتم عرضه في التقرير القادم.

المصادر

[1]https://www.bloomberg.com/news/articles/2019-10-17/the-differences-in-boris-johnson-s-and-theresa-may-s-brexit-deals

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

الشيماء عرفات

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى