
هل خروج بريطانيا من الاتحاد بداية لتساقط أحجار الدومينو الأوروبية؟
استغرق الأمر استفتاء واحدًا، وتولي ثلاثة رؤساء وزراء، وإجراءانتخابات عامة مبكرة مرتين، إلى جانب تعديلات حكومية واستقالات لعشرات الوزراء والنواب. ثلاثة أعوام ونصف من القرارات المضطربة والمواقف المتناقضة، تخللتها مفاوضات مكثفة شارفت على الانهيار أكثر من مرة، لتكون بريطانيا أول دولة تغادر الاتحاد الأوروبي بعد عضوية دامت 47 عاماً، ويخسر الاتحاد دولة من أكبر وأغنى أعضائه، وتصبح بريطانيا لاعب قديم يسعى لإعادة تعريف نفسه من جديد.
مع دخول بريطانيا الاتحاد الأوروبي عام 1973، كانت تسمى آنذاك “رجل أوروبا المريض“، بسبب تدهور اقتصادها مقارنة بدول مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، التي استعادت عافيتها من دمار الحرب العالمية الثانية بطريقة أسرع. معتبرة أن إنضمامها إلى السوق الأوروبية المشتركة كان علاجا لضعف الاقتصاد البريطاني، وفتح أبوابا واسعة لفرص التجارة. لكن بريطانيا اليوم تعتبر من أكثر الاقتصادات الأوروبية حيوية. وكان أحد أسباب تأخير دخول بريطانيا السوق الأوروبية هو صعوبة الاختيار بين السيادة الوطنية والاستفادة من فرص السوق المشتركة، وهو أيضا أحد الأسباب التي دفعت بريطانيا اليوم إلى الخروج من الاتحاد.
تنتقد بريطانيا السوق الأوروبية الموحدة باعتبارها “مناهضة للتنافسية”، فالاتحاد الأوروبي يحمي نفسه من بقية العالم باستخدام حواجز التعريفات الجمركية. وتصف الاتحاد الأوروبي بأنه مشروع نخبوي، فهناك عشرة آلف مسؤول ومدير في الاتحاد الأوروبي يحصلون على رواتب تفوق راتب رئيس الوزراء البريطاني. كما ترى بريطانيا أن الاتحاد الأوروبي مع مرور الوقت لم يعد يغري بالانضمام. خاصة بعد حرية التنقل بين البلدان التي يرى الكثيرون أنها أدت بالملايين من مواطني الاتحاد الأوروبي إلى الهروب من اقتصاديات بلدانهم الضعيفة والاستقرار في بريطانيا.
هل سيؤثر بريكست على الوحدةالأوروبية؟
قد يشجع الانسحاب البريطاني بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى اتباع النموذج البريطاني الأمر الذي يعرض الاتحاد إلى التفكك، خاصة وأن فكرة الاتحاد فقدت جاذبيتها بين الشعوب حيث لا يوجد رضا شعبي عن المشروع الأوروبي والجيش الأوروبي الموحد.
هناك دولا مثل بولندا والدنمارك وإيطاليا يمكن أن تغادر الاتحاد الأوروبي. ففي استطلاع للرأي شهدته بولندا قبل ثلاثة أسابيع أظهر لأول مرة منذ انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي اعتقاد غالبية البولنديين أن للاتحاد الأوروبي تأثير سلبي على بلدهم. كما تشبه الدنمارك بريطانيا حيث انضمت إلى الاتحاد عام 1973، واختار الدنماركيون عدم المشاركة في العملة الأوروبية الموحدة وعدم المصادقة على مذكرة الاعتقال الأوروبية، لذا من المتوقع أن تكون الدنمارك إحدى الدول التي يمكن أن تغادر الاتحاد الأوروبي. وبالنسبة لإيطاليا عندما تعصف بها الأزمة المالية المتوقعة سيكون الأمر الخروج من الاتحاد الأوروبي حتما للإيطاليين.
وأعطى بريكست أملاً جديداً لأنصار استقلال اسكتلندا، حيث لا يلقى خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي قبولاً في اسكتلندا وآيرلندا الشمالية، المقاطعتين اللتين صوتتا ضد بريكست في استفتاء عام 2016، ما يثير احتمالات من حصول انشقاقات في وحدة البلاد ويرى الاستقلاليون أن هذا الخيار يستدعي معاودة استشارة الاسكتلنديين الذين صوتوا بنسبة 55% للبقاء ضمن المملكة المتحدة في استفتاء جرى عام 2014، إذ يقولون إن بعض سكان المقاطعة الذين صوتوا بنسبة 62% ضد بريكست بدلوا موقفهم وباتوا يؤيدون أن تشق اسكتلندا طريقها بنفسها بعد أكثر من 300 عام من الوحدة، ما يسمح لها نظرياً بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
مظاهر خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي
بحلول الأول من فبراير دخلت بريطانيا مرحلة انتقالية تبدأ من الآن وحتى نهاية العام الجاري. خلال هذه الفترة ستتغير ثلاثة أمور هي:
- لا يمكن لبريطانيا الآن أن تتراجع عن قرارها، فقبل 31 يناير كان يمكن لها العدول عن قرارها إذا أرادت العودة مرة أخرى، لكن الآن سيكون ذلك مستحيلاً، وإذا أردات العودة مرة أخرى يتعين عليها تقديم طلب الالتحاق من جديد.
- لن يكون هناك أي نواب بريطانيين في البرلمان الأوروبي، على الرغم من ضرورة التزام لندن بالقوانين الأوروبية خلال الفترة الانتقالية لكنها لن تشارك في وضع هذه القوانين.
- بمناسبة الخروج، أصدرت بريطانيا عملة نقدية معدنية جديدة مكتوب عليها “السلام والازدهاروالصداقة مع جميع الأمم”.
وخلال الفترة الانتقالية، ستواصل المملكة المتحدة الامتثال لقواعد الاتحاد الأوروبي، ودفع مساهمات له. كما ستبقى أغلب الأمور على حالها، فيما عدا بعض أشياء.
- سيفقد الأعضاء البريطانيون في البرلمان الأوروبي، البالغ عددهم 73 عضواً، مقاعدهم، بشكل تلقائي، إذ ستغادر المملكة المتحدة جميع المؤسسات والكيانات السياسية في الاتحاد الأوروبي. لكن المملكة المتحدة ستستمر في اتباع قواعد الاتحاد الأوروبي، خلال الفترة الانتقالية، وستحتفظ محكمة العدل الأوروبية بحق الفصل في النزاعات القانونية.
- إذا رغب رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، في حضور قمم الاتحاد الأوروبي، سيتعين على الاتحاد توجيه الدعوة إليه، بشكل شخصي.
- سيصبح بإمكان المملكة المتحدة البدء في إجراء محادثات مع كافة الدول حول وضع قواعد جديدة لبيع وشراء السلع والخدمات.
- سيتم حل الفريق الحكومي الذي تولى مفاوضات الخروج بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي.
- لن يمكن إعادة بعض من المشتبه في ضلوعهم في ارتكاب جرائم إلى المملكة المتحدة، حال فرارهم إلى ألمانيا، إذ لا يسمح الدستور الألماني بتسليم المواطنين الألمان إلا للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
- ستعود جوازات السفر ذات اللون الأزرق الداكن، بعد مرور أكثر من 30 عاماً على استبدالها بجوازات السفر ذات اللون الأحمر القاني.
بريطانيا.. رحلة البحث عن شركاء جدد
اقتصاد المملكة المتحدة واحد من أكبر الاقتصاديات عالميًا، وثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي بعد الاقتصاد الألماني، ولم يكن من المسموح للمملكة المتحدة، خلال فترة عضويتها في الاتحاد الأوروبي، إجراء مفاوضات تجارية رسمية مع دول كالولايات المتحدة وغيرها. ويرى مؤيدو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أن امتلاك بريطانيا حرية وضع سياسات تجارية خاصة بها، من شأنه تعزيز الاقتصاد البريطاني.
وتطمح بريطانيا إلى عقد اتفاقات تجارية جديدة مع شركائها المهمين حول العالم، لكنها لن تستطيع من الناحية القانونية قبل انتهاء الفترة الانتقالية، التي تنص عليها اتفاقية خروجها من الاتحاد الأوروبي، في آخر العام الحالي. وتأمل بريطانيا أن تتمكن من التوصل إلى توقيع اتفاق تجاري مع الاتحاد الأوروبي خلال الفترة الانتقالية،. كما ستدخل بريطانيا في مفاوضات موازية مع الحليف الولايات المتحدة، بعدما أبدى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حماسة لهذا الانفصال معتبرا انه يشكل آفاقا اقتصادية جديدة، ثم العمل على توقيع اتفاقات مع مجموعات اقتصادية أو دول أخرى تشمل في منطقة الشرق الأوسط، مجلس التعاون الخليجي وإسرائيل.
كما ستفتح الهند والصين اتفاقات تجارية أكثر مع بريطانيا، وسيكون هناك العديد من الخيارات أمام السوق البريطاني. وسيجعل خروج بريطانيا من الاتحاد شريكا جديداً لأفريقيا. وبإمكان دول أفريقيا، باعتبارها المتلقي الأكبر للمساعدات التنموية من الاتحاد الأوروبي، أن تستشعر بتأثير بريكست على ميزانية الاتحاد الأوروبي، إذا تدنت مساعدات الاتحاد لها.
ختامًا، إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو امتداد لتاريخ مستمر من الانسحابات بهدف تعزيز طموحاتها القيادية والعالمية. فقد أدى انسحاب بريطانيا الفوضوي من الهند في عام 1947 وعملية التقسيم الخاطئة التي قام بها المحامي البريطاني “سيريل رادكليف” وخلقت خلفها بلدين مستقلين (الهند وباكستان) إلى نزوح 14 مليون لاجئ ومقتل نحو نصف مليون شخص. أضف إلى ذلك إنهاء بريطانيا انتدابها في فلسطين عام 1947، والسماح بقيام دولتين عربية ويهودية لتعيش الدولة الفلسطينة أزمة عاصية على الحل حتى الآن. وعندما غادرت بريطانيا هونج كونج في عام 1997، لم يكن هناك دماء، لكن سكانها تركوا في حالة معلقة من الديمقراطية الجزئية. واليوم، يقدمون نفس المطالب للسلطات الصينية لتقرير المصير، ونفس المطالب المتعلقة بالجنسية البريطانية، التي رفضتها لندن في الثمانينيات.



