الصحافة الدولية

احتجاجات طهران…ملامح جديدة وتحولات نوعية

   جاء اسقاط الطائرة الأوكرانية من طراز “بوينغ 737” من قبل الحرس الثوري الإيراني (8 يناير2019)، بعد وقت قصير من إقلاعها من مطار الإمام آية الله الخميني الدولي في طهران،  ليترك تداعياته على الداخل الإيراني، بحيث تغير وتبدل التناول من الحديث عن مقتل قاسم سليماني وتداعياته، خاصة فيما يتعلق بحدود وطبيعة الرد الإيراني على العملية إلى مستقبل النظام الإيراني بشكل عام وذلك في اعقاب التظاهرات والاحتجاجات التي شهدتها طهران بعد إعلان النظام مسؤوليته عن حادث اسقاط الطائرة الأوكرانية “بالخطأ” والذي أسفر عن مصرع نحو 176 شخصًا من جنسيات مختلفة من بينهم نحو 82 مواطنًا إيرانيًا.

D:\مجموعة عمل الخليج\دكتور مجاهد الزيات\جنسيات الضحايا.JPG

ملامح جديدة وتحولات نوعية

ليست المرة الأولى التي تشهد الساحة الإيرانية الداخلية احتجاجات وتظاهرات ضد النظام أو الحكومة الإيرانية، حيث شهدت الأعوام السابقة احتجاجات متنوعة سواء لأسباب اقتصادية أو سياسية تراوحت في حدتها ونطاقها المكاني ومطالبها المتباينة، وقد شكلت احتجاجات يونيو 2018 والتي سميت آنذاك باحتجاجات السوق الكبير ” البازار” باعتبار أنها أكبر الاحتجاجات التي شهدتها إيران منذ 2012 منعطفًا مهمًا في مسار تصاعد الاحتجاجات في الدخل الإيراني، حيث رصد مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية “”CSIS، وقوع نحو 4200 احتجاجًا في إيران خلال الفترة من ديسمبر 2017 حتى أكتوبر 2019، إلا ان كل هذه الاحتجاجات جاءت في سياق مختلف ومغاير لما عليه الأوضاع في الوقت الراهن.

وتأتي الاحتجاجات الحالية في توقيت دقيق للغاية، حيث أن عملية اسقاط الطائرة الأوكرانية والتي تسببت في اشعال هذه الاحتجاجات جاءت بعد نحو ثلاثة ساعات ونصف من قيام طهران بإطلاق نحو 22 صاروخًا على قواعد عسكرية أمريكية في العراق -أربيل وعين الأسد- ردًا على مقتل قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني.

 ومما يدل على طبيعة ودلالات التوقيت والاختلاف النوعي لهذه الاحتجاجات أن المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني قد انعقد مرتين في اقل من أسبوع، حيث تعلق الاجتماع الأول بدراسة آليات وحدود الرد الإيراني على مقتل سليماني، في حين ناقش الثاني عملية اسقاط الطائرة ودراسة أفضل الطرق للتعاطي مع تداعياتها المحتملة، وهو أمر غير معتاد بشأن انعقاد المجلس خاصة أنه لا يأتي ضمن الانعقاد الدوري أو الروتيني للمجلس، الأمر الذي يدل على حدة وصعوبة المأزق الذي تمر به طهران ومؤسساتها بشكل عام.

في الوقت ذاته جاءت محاولات ترامب لاستغلال الاحتجاجات الداخلية ومحاولة تأليب الرأي العام على النظام الإيراني لتحمل دلالات مختلفة نسبيًا عن الاحتجاجات السابقة وموقف الولايات المتحدة منها، خاصة وأن ترامب قام للمرة الأولى بمخاطبة الداخل الإيراني من خلال عدة تغريدات باللغة الفارسية، معلنًا دعمه للتظاهرات ومساندته للشعب الإيراني.

C:\Users\m.hussien.ecss\Desktop\ترامب بالفارسية.JPG

وعليه يمكننا الوقوف على جملة من الملامح والدلالات التي تطرحها الاحتجاجات الحالية فيما يلي:

  • ارتباك النظام الإيراني، كشفت عملية اسقاط الطائرة حالة من التخبط والارتباك داخل النظام الإيراني ومؤسساته في تعاطيه مع الأزمة، ففي الوقت الذي نفت فيه المؤسسات الإيرانية ضلوعها في الحادث، وأن اسقاط الطائرة نجم عن عطل فني وخطأ تقني، حيث اعتبر الجانب الإيراني أن رواية اسقاط الطائرة بصاروخ يعتبر دعاية ضد إيران ويهدف إلى تحقيق مكاسب سياسية، بهدف احراج إيران أمام المجتمع الدولي وتشويه صورتها، ورغم ذلك وخلال ثلاثة أيام فقط تغيرت تلك الرواية واعترفت طهران بمسؤولية الحرس الثوري الإيراني عن عملية اسقاط الطائرة الأوكرانية، ويمكن قراءة هذا التحول السريع والمتناقض في القرار الإيراني كجزء من حالة الارتباك والتخبط التي سيطرت على المشهد في اعقاب مقتل قاسم سليماني، فضلًا عن غياب التنسيق بين مؤسسات الدولة، خاصة بعدما أوضحت طهران أن سقوط الطائرة ناجم عن تصرف فردي من قبل أحد الضباط الذي فقد الاتصال بقيادته لمعرفة طريقة وكيفية التصرف مع تلك الطائرة، خاصة وأنها جاءت في سياق أعلنت فيه الولايات المتحدة عن إمكانية استهداف نحو 52 هدفًا إيرانيًا في حالة التصعيد بين الطرفين، وعليه وجدت إيران مؤخرًا أن الاعتراف بالحادث قد يرفع عنها الحرج قبل الكشف عن طبيعته، خاصة وأن هناك جهات استخباراتية أفادت بأن الطائرة اُسقطت عبر صاروخ إيراني. 
C:\Users\m.hussien.ecss\Desktop\تحطم الطائرة الاوكرانية.JPG
  • فشل استراتيجية الاستثمار الداخلي، عملت طهران في اعقاب استهداف قاسم سليماني على حشد الداخل الإيراني وتوحيد الجبهة الداخلية وتعبئة الرأي العام من أجل التغلب على عدد من التحديات الداخلية التي تحاصر النظام الإيراني، وعليه عملت طهران على استثمار الحادث للتغطية على إخفاقات الداخل، إلا أن حادث اسقاط الطائرة جاء بنتائج عكسية افشلت كل المحاولات التي سعي من خلالها النظام لتوظيف واستثمار حادث مقتل سليماني لأغراض داخليه، خاصة وان هناك انتخابات برلمانية ستجرى خلال شهر فبراير المقبل، إذ كان متوقعًا أن يعمل النظام على حشد المواطنين في مثل هذه المحافل للتأكيد على شرعيته، إلا أن التطورات الأخيرة، خاصة مع توقع اتساع نطاق التظاهرات قد تجعل النظام في موقف صعب خاصة إذا ما عزف المواطن عن المشاركة في هذه الانتخابات. 
  •  كسر الهيبة وتجاوز الرمزية، تُشير القراءة الأولية للاحتجاجات أن حادث أسقاط الطائرة ساهم في تجاوز النخب التقليدية وكسر هيبة الرموز وأصحاب الثقل، ففي الوقت الذي أطلقت مواقع التواصل الاجتماعي المؤيدة لطهران موجه من التهديدات والاستياء في أعقاب اغتيال سليماني، حيث تم تغريد محتوى مؤيد لإيران ومناهض للولايات المتحدة الأمريكية بمعدل 3000 تغريده كل 25 دقيقة وفقا لبيانات نيويورك تايمز.هذا التأييد والدعم التي فرضه وعبر عنه الشارع الإيراني على أثر اغتيال سليماني، تحول بشكل ملحوظ وحاد خلال تلك التظاهرات، حيث قام المتظاهرون بتمزيق صور سليماني بعدما كان بمثابة رمز التضحية والمقاومة منذ أيام، كما تعالت الأصوات وامتدت للتنديد بالمرشد الأعلى وسياساته لحد أن المتظاهرين وصفوا خامنئي” بالقاتل وطلبوا برحيله، كما امتد الأمر للمعارضة حيث اكد زعيم المعارضة ” مهدي كروبي” على ضرورة تنحي المرشد الأعلى معتبرًا أنه يفتقد للحكمة ولا تتوافر لديه مقومات القيادة.
Image result for ‫تمزيق صور سليماني‬‎
  • اتساع نطاق المحاصرة الدولية لطهران، في الوقت الذي كانت تسعى خلالها طهران للرد على اغتيال سليماني بالصورة التي تضمن لها عدم الدخول في مواجهة شاملة ومفتوحة مع الولايات المتحدة الأمريكية، إذ رأت طهران العمل على حفظ ماء الوجه عبر استهداف قاعدتين أمريكيتين في العراق يمكن أن يحقق لها الهدف المنشود والبعد عن التصعيد المباشر، جاءت الحادث لتفتح مجالًا أوسع للمواجهة بين طهران وعدد من الدول الأخرى، حيث من المتوقع أن تستغل واشنطن الحادث لفرض مزيد من العقوبات على إيران في الوقت ذاته سوف تتسع نطاق المواجهة لتشمل دول أخرى مثل أوكرانيا وكندا والتي تطالب إيران بتعويضات عن الحادث، الأمر الذي سوف يؤثر بالسلب على النظام الإيراني بشكل كبير خاصة مع عدم تعافيه من العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة عليه، فضلًا عن حالة العزلة الدولية والإقليمية التي تحاصره.

مجمل القول، لقد تقوضت فرص إيران نسبيًا في توظيف حادث مقتل سليماني لصالحها داخليًا وخارجيًا، بعد أن ثُبت اسقاطها للطائرة الأوكرانية، وعليه فأن المرحلة القادمة تمثل تحديًا للنظام الإيراني ليظهر مدى قدرته على احتواء الداخل الإيراني وتحييد أو تجنب ردة فعل الخارج وتحديدًا الأطراف المتأثرة بالحادث، كما أن مستقبل النظام الإيراني ومسار الاحتجاجات الراهنة يتوقف على رد فعل وحدود تعامل قوات الأمن مع الاحتجاجات الحالية، ففي حالة لجوء النظام الإيراني وقوات الأمن للتصعيد وقمع الاحتجاجات سوف يكون هناك نتائج عكسية وسريعة على النظام، أما في حالة اختيار التهدئة واللجوء لإجراءات وتحركات من شأنها تخفيف حدة المواجهة الداخلية فان ذلك سوف يجعل مصير النظام مؤجلًا لفترات لاحقة.

+ posts

باحث ببرنامج قضايا الأمن والدفاع

محمود قاسم

باحث ببرنامج قضايا الأمن والدفاع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى