
جنيف العرب.. سياسة سلطنة عُمان تجاه أزمات الإقليم
على مدار العقود الماضية، اتبعت سلطنة عمان سياسة إقليمية قائمة على الاستقلال والبرجماتية والنأي بالنفس بعيدا عن الصراعات وسياسة التحالفات التي تتصدر المشهد الإقليمي، ونبذ صور الاستقطاب، وتبني مبدأ حل الصراعات السياسية بالطرق السلمية، والاكتفاء بدورها كقناة دبلوماسية، لا سيما بين الغرب وطهران. كما سعت عُمان إلى بناء علاقات متوازنة مع كافة اللاعبين الإقليميين والدوليين، واتخاذ مواقف مستقلة عن التيار العربي السائد، حتى أطلق عليها كثيرون لقب “جنيف العرب”.
تولى الراحل السلطان قابوس بن سعيد، حُكم سلطنة عُمان، عام 1970. وخلال حكمه جمع كل مقاليد الحكم بشكل مطلق في يده، فهو سلطان البلاد، ورئيس مجلس الوزراء، ووزير الدفاع، والقائد الأعلى للقوات المسلحة، ووزير المالية، ووزير الشؤون الخارجية، ورئيس المجلس الأعلى للتخطيط، ورئيس البنك المركزي. إلى أن توفاه الله السبت 11 يناير 2019، عن عمر يناهز 79 عاماً، وتم تنصيب هيثم بن طارق آل سعيد، سلطانا لعُمان، في 11 يناير 2020.
تطور السياسة الإقليمية العمانية
تبنت السلطنة سياسة خارجية تقوم على الاهتمام بمصالحها وشؤونها الداخلية أولاً، وبناء علاقات ناجحة مع جميع دول الجوار ودول العالم كافة، وعدم الزج بنفسها في الشئون الداخلية للدول. وقد مكن هذا النهج السلطنة من لعب دور في حلحلة بعض المشكلات كان أبرزها التوسط لحل أزمة الملف النووي الإيراني. وأتبعت السلطنة سياسة متوازية تجاه مختلف القضايا، حكمتها مجموعة متمايزة من المراحل تمثلت في:
أولا: مرحلة التأسيس وكانت في الفترة من 1970 وحتى 1975 حيث بدأ السلطان قابوس بناء أسس السياسة الخارجية لسلطنة عمان، بعد أن أرسى دعائم الاستقرار الداخلي في البلاد.
ثانيًا: مرحلة التحول نحو الخارج، والتخلص من العزلة، وبدأت في عام 1981 حيث شكلت عمان إلى جانب الممكلة العربية السعودية والكويت والإمارات وقطر مجلس التعاون الخليجي، وبدأت في الانضمام للمنظمات الدولية.
ثالثاً: مرحلة الانفتاح وظهور شكل السياسة الخارجية، والتي كانت متناقضة وبرجماتية، لكنها منحت سلطنة عمان قدرًا كبيرًا من حرية الحركة والفاعلية، على الصعيدين الإقليمي والدولي، ما جعلها حليفًا وثيقًا للولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وعضوًا مؤسسًا رئيسًا في مجلس التعاون الخليجي، وفي الوقت ذاته شريكًا رئيسًا لإيران، مع عدم إغفال علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع الاتحاد الأوروبي وروسيا والقوى الآسيوية الكبرى، وعلى رأسها الصين والهند وباكستان.
الرؤية العمانية لأزمات الإقليم
القضايا القومية:
اعتمدت الرؤية العمانية للقضايا التي تواجه المنطقة، على رفض استخدام القوة الصلبة لحل المشكلات طالما لم يحدث اعتداء عسكري مباشر على سيادة الدول، فخلال الحرب الإيرانية العراقية (1980-1988) حافظت السلطنة على علاقات متوازنة مع كلا البلدين دون إبداء دعمها لأحد الأطراف. وحافظت كذلك على علاقات معتدلة عندما اندلعت مواجهة عسكرية بين القوات الإيرانية والبحرية الأمريكية، انتهت بتدمير نصف القوات البحرية الإيرانية والعديد من المنشآت النفطية الإيرانية عام 1987. حيث كانت تخشى عُمان أن يؤدي التدخل العسكري الأمريكي إلى حرب بين الولايات المتحدة وطهران.
كما خالفت عُمان قرار الجامعة العربية الداعي لقطع العلاقات الدبلوماسية مع القاهرة عقب توقيع الرئيس الراحل أنور السادات اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979، ورفضت السلطنة ذلك جنبًا إلى جنب مع السودان والصومال. وفي أعقاب غزو العراق للكويت في عام 1990، تعاونت عُمان إلى جانب دول مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة لتحرير الكويت. ودعمت العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة ضد العراق خلال التسعينيات. وفي الوقت نفسه تحركت مسقط لتحسين العلاقات السياسية مع بغداد. وخلال الأزمة التي دارت رحاها بين الأمم المتحدة والعراق في الفترة 1997 – 1998 بشأن عمليات التفتيش على الأسلحة، عارضت عمان استخدام العمل العسكري لإجبار العراق على الخضوع لتفتيش قدراته في مجال الأسلحة من قبل لجنة الأمم المتحدة الخاصة (UNSCOM).
وعقب ثورات الربيع العربي، حافظت عُمان على توجهاتها الثابتة في عدم التدخل في شئون الدول. وكانت مواقفها واضحة فيما يتعلق باحترام سيادة الدول وخيارات الشعوب في اختيار حكوماتها. وتبنت الدبلوماسية الهادئة حيال الأزمات الحادة التي طرأت على المنطقة، ودعت إلى الحوار وتغليب لغة العقل على لغة السلاح. إلى جانب ذلك لم تشارك مسقط في عاصفة الحزم في اليمن، لكنها أعلنت الانضمام لقوات التحالف الإسلامي العسكري لمكافحة الإرهاب، وحافظت على علاقات جيدة مع السعودية.
وفيما يتعلق بالأحداث التي تمر بها المنطقة، خصوصا في مضيق هرمز، حرصت السلطنة على إصدار بيان حول الأزمة وتأكيدها على حقها أولا في مياهها الإقليمية، وحق الجميع في حرية الملاحة العالمية بالمضيق، ودعت جميع الأطراف إلى التوجه الدبلوماسي، وبالنسبة للسلطنة فإن مضيق هرمز يعد جزءا لا يتجزأ من أمنها القومي وامتدادا لسيادتها الوطنية، حيث يعد من الناحية الاستراتيجية والأمنية (مضيقا عُمانيا يستخدم للملاحة الدولية وينطبق عليه حق المرور العابر وحق المرور البريء الوارد في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار).
العلاقات الأمريكية العمانية.. برجماتية بحتة
لم تنتقد الإدارات الأمريكية المتعاقبة عُمان على علاقاتها القوية بإيران، والدولة الوحيدة التي لم تفرض عليها الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية نتيجة علاقاتها المباشرة بطهران، بل على العكس كانت تستغل دائمًا تلك العلاقة في تحقيق مصالح لها. فهي الشريك العسكري الأبرز للولايات المتحدة، والوسيط الموثوق فيه من جانب الإدارة الأمريكية في المُباحثات الدولية حول الشرق الأوسط. وقد ظهرت الأهمية الاستراتيجية بين الجانبين عبر عدد من المواقف تمثلت في:
- تعزيز الجانب الأمريكي لوجوده العسكري عبر مجموعة من الأصول العسكرية المهمة، شملت قاعدة المصيرة الجوية، وقاعدة ثمريت البحرية الجوية للطائرات الدورية المضادة للغواصات المتمركزة في عمان، وعدد من القوات الجوية الأمريكية لمطار السيب الدولي.
- تعد عُمان مركزًا لترتيب وإعداد العمليات الخاصة لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) في مختلف مناطق الشرق الأوسط، كما أن القواعد العسكرية ومخازن الأسلحة الأمريكية مازالت باقية داخل البلاد، بالإضافة إلى تواجد محطات المراقبة وقواعد طائرات التجسس الأمريكية، وقد استخدمت الولايات المتحدة قواعدها في عمان، أثناء تنفيذ بعض عملياتها في أفغانستان وباكستان، وفي عملياتها العسكرية بالخليج ومحيطه.
- سعت سلطنة عُمان خلال ولاية الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما لبلورة علاقاتها الوثيقة مع إيران كوسيط مقبول مع طهران لدى الجانب الأمريكي، في محاولة لإقناعه بأهمية هذه العلاقة وانعكاسها عليه، خصوصًا في ظل الرؤية القائمة لدى إدارة أوباما بضرورة التواصل مع إيران، وأن التواصل هي الصيغة الأنسب لتسوية المشاكل.
- لعبت الدبلوماسية العُمانية دور الوسيط بين القوى الغربية وطهران حيث استضافت اجتماعات مجموعة 5+1 والتي مهدت لإبرام الاتفاق النووي الإيراني في 2015. وبعد انهيار الاتفاق عقب تولي دونالد ترامب الحكم، التقى دبلوماسيون عُمانيون مسؤولين إيرانيين، والتقى وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بالسطان قابوس في يناير 2019 في محاولة لتهدئة الأوضاع بين الجانبين. وتعليقاً على التوترات الأخيرة بين أمريكا وإيران، قدمت عُمان التعازي إلى جواد ظريف بمناسبة مقتل الجنرال قاسم سليماني. ودعت إلى تغليب لغة الحوار والبحث عن الوسائل الدبلوماسية لحل القضايا الخلافية بشكل ينهي الصراع في المنطقة.
عُمان.. صفر إرهاب
تعد سلطنة عُمان من الدول الخالية من الإرهاب، وتكاد تكون الدولة الوحيدة في المنطقة التي لم تشهد حوادث ذات صبغة إرهابية، وذلك وفقا لتقارير التنافسية العالمية لعام 2019. حيث لم تشهد عُمان عنفاً جهادياً على أراضيها، ولم يسجل التحاق أي عماني بالقتال في صفوف تنظيم داعش. وقد التزمت السياسة الخارجية العُمانية بجملة من الضوابط ساهمت في إبعاد السلطنة عن نقاط التوتر والاشتباك، وبالتالي احتمالات تعرضها للإرهاب منها، عدم التورط في أي شكل من أشكال التدخل العسكري، فسلطنة عُمان لم تشارك في أي عملية عسكرية خارج حدودها إلا في حرب تحرير الكويت عام 1991، بالإضافة إلى الابتعاد عن الاستقطاب إذ تحرص السياسة العُمانية على عدم الانحياز لطرف ما في بؤر الصراع الداخلية. كما ساهم انتشار المذهب الإباضي بين سكان عُمان إلى انتشار قيم التسامح، إذ يتسم هذا المذهب بحسن تقدير العواقب والمآلات، وهو ما ساهم من الحد في انتشار ظاهرة الإرهاب.
الصراع العربي الإسرائيلي
تجنبت عُمان الدخول بشكل مباشر في الصراع العربي الإسرائيلي منذ عام 1948. وكانت من أولى الدول الخليجية التي أنشات علاقات مع إسرائيل، وحافظت على علاقات جيدة مع فلسطين، كان آخر ملامحها في يونيو 2019، عندما أعادت فتح بعثة دبلوماسية لها في رام الله.
ظهرت مؤشرات عن احتمال قيام سلطنة عُمان لعب دور الوسيط لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، عقب زيارة الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، إلى عُمان والتي تلتها مباشرة زيارة لرئيس الوزارء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وأعلنت عُمان أن بمقدورها القيام بدور لتقريب وجهات النظر بين الإسرائيليين والفلسطينيين الذين يرحبون بأي مسعى عربي يصب في هذا الاتجاه. وتستند السياسة العمانية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي إلى عدة مبادئ تتمثل في:
- القضية الفلسطينية هي أساس جميع المشكلات التي حصلت خلال النصف الأخير من القرن الماضي.
- قيام دولة فلسطينية ليست هبة من أحد، إنما ضرورة تاريخية وحضارية وجغرافية لا يمكن تحقيق الأمن والاستقرار وبناء ثقافة التسامح من دون قيام هذه الدولة بكامل أركانها.
- إسرائيل دولة موجودة بالمنطقة يجب التعامل معها بشكل طبيعي وحان الوقت لمعاملة إسرائيل بالمثل وتحملها نفس الالتزامات
- لسنا وسطاء بين إسرائيل والفلسطينيين، لكننا نساعد على تقارب الطرفين، ودورنا الرئيسي في السلام الإسرائيلي الفلسطيني يتوقف على ما تقوم به الإدارة الأمريكية في صفقة القرن.
- إعادة ملف الصراع العربي الإسرائيلي برمته إلى مجلس الأمن الدولي لإيجاد تسوية دائمة وشاملة، من منطلق حرص وتمسك الدول العربية بالسلام خيارا استراتيجيا، ومنطلقا للتعايش بين العرب وإسرائيل. وترى السلطنة
ختامًا
سلطنة عُمان هي الدولة الوحيدة التي استطاعت نسج علاقات جيدة مع الفرقاء، فقد استطاعت جني مكاسب اقتصادية من إيران، وعسكرية من الولايات المتحدة، وسياسية من الخليج، استطاع السلطان قابوس أن يجمع بين كل هذه الأطراف المتضادة في علاقاته الخارجية، والحفاظ على نمط من العلاقات الودية مع الجهات الفاعلة والمؤثرة في المنطقة، والتوفيق بينها وتقريب وجهات النظر بين الأطراف ذات المصالح المتعارضة. ولكن هل سياسة الحيادة التي اتبعها طيلة خمسين عاماً هل ستنجح مع خليفته هيثم بن طارق آل سعيد، الذي أعلن السير على الثوابت الخارجية لسلفه، لاسيما المساهمة في حل الخلافات ودعم مسيرة التعاون الخليجي، وعدم التدخل في شؤون الغير واحترام سيادة الدول. واستمرار بلاده في دعم الجامعة العربية والعمل مع قادة دولها، ومواصلة التعاون مع دول الأمم المتحدة واحترام الاتفاقيات الدولية.



