هل يؤثر خط الغاز الجديد ” إيست ميد ” على تحول مصر لمركز إقليمي لتداول الطاقة؟
في أجواء اتسمت بالشراكة والتعاون، الخميس الماضي، وفي العاصمة اليونانية أثينا، وبعد أسابيع من إبرام تركيا اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع رئيس حكومة الوفاق الليبية، وقع الثلاثي ” إسرائيل – قبرص- اليونان “ علي اتفاق أولي يمهد الطريق لمد خط أنابيب جديد للغاز في شرق المتوسط.
وتم التوقيع رسمياً على الاتفاق بحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والرئيس القبرصي نيكوس أناستاسيادس، ورئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس.
خط الغاز الجديد المعروف بـ “ميد إيست”، يمر عبر الثلاثي، كما تتخطي تكلفة إنشاؤه الـ 6 مليار يورو، ويبلغ طوله 2000 كلم تقريباً. ومن المتوقع أن تستغرق أعمال إنشائه من حوالي ستة إلى سبعة أعوام. ويتيح الخط نقل ما بين 9 و11 مليار متر مكعب من الغاز سنويًّا من الاحتياطيات البحرية لحوض شرق المتوسط قبالة إسرائيل وقبرص واليونان للسوق الأوروبية.
“إيست ميد”.. التسلسل الزمني
مرَ مشروع خط “إيست ميد” بالعديد من المحطات الزمنية التي مهدت لبلورته أخيراً في الاتفاق الأولي الموقع الخميس الماضي 2 يناير:
- في العام 2013، أبدي الاتحاد الأوروبي تأييده لمشروع خط “إيست ميد”، وصنفته المفوضية الأوروبية كمشروع ذي أهمية.
- في مارس 2014 قامت أثينا بإطلاق مناقصة دولية لدراسة جدوى مقترح خط أنابيب يصل حقل ليفياثان الإسرائيلي بأوروبا.
- في العام 2016، انعقاد أول قمة ثلاثية بين (إسرائيل – قبرص – اليونان)، والاتفاق علي الدفع بمشروع الخط الجديد.
- 2 يناير 2020، توقيع الاتفاق الأولي بين الثلاثي في أثينا لمد الخط.
الأهمية الجيوستراتيجية.. لماذا غاز المتوسط؟
بمتابعة حركة التصدير التي تقوم بها روسيا إلى القارة الأوروبية العجوز، فشركة “غازبروم” تورد قرابة الـ 33% من غازها إلى دول القارة، ما يصل 193.9 مليار متر مكعب سنويا بقيمة 37 مليار دولار. كما أن هنالك 11 دولة أوروبية، من بينها ألمانيا، تعوّل على صادرات الغاز الروسية بنسبة 75%.
وفي حال إذا ما قررت أوروبا التوجه إلى الغاز الأمريكي والاستغناء عن الغاز الروسي بسبب التوترات الأخيرة بين روسيا والأطراف الأوروبية، ولاسيما في أزمتي سوريا والقرم؛ فستتجه موسكو في هذه الحالة إلى تقليل الإمدادات إلى القارة الأوروبية أو قد تتجه إلى سياسة رفع الأسعار، وقد تلجأ أيضا لما اتجهت إليه في 2006، حيث قامت بقطع الغاز عن أوكرانيا، وهذا قد يبقي أوروبا بالفعل تحت رحمة روسيا.
ضمن سياساتها العامة المتعبة لحماية أمنها القومي، وكذا في احتواء الصعود الروسي الأخير وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، التي شهدت تعزيز موسكو لمصالحها فيها وتثبيت حضورها العسكري بالأراضي السورية والبحر المتوسط؛ تصبو الولايات المتحدة في لجم التحركات الروسية وعرقلة التطور الكبير في قدراتها الاستراتيجية من خلال تقليل اعتماد الدول الأوروبية على صادرات الغاز الروسية، ولاسيما بعد ارتباط الغاز وخطوط أنابيبه، وعوائده السنوية بشكل ونمط المعالجة الروسية الإيجابية النشطة تجاه غالبية قضايا الإقليم والعالم.
في هذا السياق، اتجهت الولايات المتحدة لتعزيز تحالفاتها وشراكتها الأمنية والاقتصادية مع دول شرق المتوسط، كون حوض المتوسط يحتوي قرابة 122 ترليون قدم مكعب من الغاز. لذا، تظهر ضرورة هندسة المشهد الأمني هناك، عبر الشراكات والتحالفات بما يخدم المصالح الأمريكية المتمثلة في تدعيم أمن الطاقة الأوروبي بمورد بديل عن خطوط الغاز الروسية.
وتظهر توصيات جلسات الكونغرس الأمريكي للسياسات العامة، التي يجب اتباعها في ضوء الاكتشافات الجديدة للغاز، والتوترات الأمنية التي تشهدها منطقة شرق المتوسط، تظهر؛ حرص الولايات المتحدة علي تقاطع مصالحها مع الأحلاف الناشئة والشراكات الصاعدة ودولها في عدة نقاط، أبرزها:
- تعميق العلاقات الأمنية والعسكرية مع كل من قبرص واليونان.
- إنهاء حظر التسليح المفروض على قبرص.
- تشجيع اتجاه الثلاثي لدفق الغاز من المتوسط لجنوب ووسط أوروبا.
ويلاحظ من وثائق الكونغرس التسع التي تناولت صياغة أطُر الاستراتيجية الأمريكية في شرق المتوسط، نجد:
- تحييد الإدارة الأمريكية لتركيا من مشاريع وخطوط الغاز.
- تأمين خروجها من برنامج المقاتلات الأمريكية الشبحية إف35، وحجب تقنيات تصنيع أجزائها عنها.
- استخدام اليونان كقاعدة رئيسية للقوة الجوية المسيرة الغير مأهولة MQ-9.
- موازنة القوي بين تركيا وقبرص واليونان من خلال تقديم الدعم اللازم للثاني الأخير، على مستويات عدة، مشاركة معلومات، تدريب أجهزة أمنية.
- التأكيد على اعتبار إسرائيل حليف ثابت واستراتيجي للولايات المتحدة، ويجب وصل احتياطها بالسوق الأوروبية عن طريق قبرص واليونان.
الاهتمام الأمريكي بالثلاثي “إسرائيل – قبرص – اليونان” يجئ، بُعيّد التمثيل الأمريكي مع الاتحاد الأوروبي كمراقب، في منتدى شرق المتوسط للغاز – “مقره القاهرة” -، في يناير 2019. كما تجدر الإشارة أن المنتدى يضم في عضويته 7 دول، منهم الثلاثي “إسرائيل – قبرص – اليونان” و”مصر والأردن وفلسطين وإيطاليا”.
وعليه، تمحور النشاط الأمريكي في إيجاد تموضع يتماشى مع استراتيجياته وأهدافه علي صعيد الأمن القومي، في مصفوفتين من أربعة دول:
- (إسرائيل – قبرص – اليونان).
- (مصر – قبرص – اليونان)
الأولي، تغيب عنها روسيا وشركاتها العملاقة، والثانية، تشارك فيها روسيا عن طريق استثمارات في حقل ظُهر المصري، بلغت نحو ملياري دولار إثر شراء غازبروم الروسية لـ 30% من حصة شركة إيني الإيطالية.
يُلاحظ، أن المصالح المصرية في شرق المتوسط، توافقت ضمنياً مع المصالح الروسية، إذ لم تُحيد مصر روسيا عن المشهد الأمني في المياة العميقة، وكذلك لم يشكل تواجد روسيا باستثمارات كبرى في حقل ظهر عوائق أمام تعزيز الشراكات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة.
كما يُلاحظ تحييد تركيا، عن أي معادلة في خرائط الغاز الناشئة من منطقة شرق المتوسط وصولاً للسوق الأوروبية، وهو ما يفسر اتجاه أنقرة لإبرام اتفاقية غير قانونية مع حكومة الوفاق الليبية، لتحاول بها ليس فقط قطع مشاريع الترسيم البحري والربط بين القاهرة وأثينا، ولكن أيضاً محاولة قطع مشاريع خطوط الغاز المتدفق لأوروبا من كل من إسرائيل قبرص والمار عبر جزيرة كريت، عقدة الوصل، لاحتياطات الغاز الشرق متوسطية لأوروبا. كما يوضح الشكل السابق.
“إيست ميد” بمثابة فشل لطرح تركي قديم
كان هنالك طرح تركي قديم، أعلن عنه العديد من المسؤولين الأتراك، لكن التجاذبات الحادة بين أنقرة وتل أبيب دفعت بعلاقتهما – رغم الشراكة في صعيد التصنيع العسكري – إلى حالات من عدم الاستقرار الممتد. أدي للجوء تل أبيب لمد مسار الخط عبر قبرص واليونان، وهو ما يفسر ردود الفعل التركية الغاضبة من هذا الاتفاق.
لكن أنقرة، في ديسمبر الماضي، حاولت فتح قناة تواصل جديدة خاصة بخط الغاز المنطلق من الحقول الإسرائيلية للمرور عبر أراضيها، حيث كشفت هيئة البث الإسرائيلي اليوم الأحد عن استعداد أنقرة للتعاون مع تل أبيب في نقل إمدادات الغاز الإسرائيلية إلى أوروبا عبر الأراضي التركية.
وقالت الهيئة إن مصدرا تركيا رفيع المستوى في مجال الطاقة نقل رسالة بهذا الخصوص إلى إسرائيل، وقال إن بلاده “تنتظر تشكيل حكومة مستقرة في إسرائيل وتعيين وزير طاقة جديد لبحث هذه المسالة.” ولفتت الهيئة إلى أن هذا الموقف التركي يأتي بعكس تصريحات سابقة مفادها أن أنقرة لن تسمح بمد غاز إسرائيلية إلى أوروبا عبر المياه التي تزعم أنقرة أنها تتبع لها.
وأكدت تركيا مرارا أنها لن تسمح لإسرائيل بمد أنبوب الغاز الذي تخطط تل أبيب من خلاله لوصل حقول الغاز لديها بالأسواق في أوروبا، وكان آخر تلك التأكيدات تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ديسمبر الماضي، حين قال إنه لا يمكن لإسرائيل ومصر واليونان وقبرص مدّ خط لضخ الغاز بدون موافقة تركيا استنادا للاتفاق البحري الذي وقعه مع السراج وكررها المتحدث الرسمي باسم الخارجية التركية 2 يناير الجاري.
لماذا لم تتأثر مصر وخططها للتحول لمركز إقليمي لتداول الطاقة؟
في حلول سبتمبر من العام 2018 أعلنت رئاسة الوزراء اكتفاء مصر ذاتيا من الغاز بعد الدخول السريع لحقل ظهر لمعادلة الغاز، وتوفيره نحو 250 مليون دولار شهرياً بوقف استيراد الغاز الطبيعي المسال.
قبل هذه الأثناء، في فبراير من العام الماضي، تم توقيع اتفاق ضخم بين الجانب الإسرائيلي وشركة دولفينوس المصرية الخاصة لتصدير 64 مليار متر مكعب من غاز إسرائيل إلى مصر بقيمة 15 مليار دولار على مدى السنوات العشر القادمة.
وتباعاً، وقعت الحكومة المصرية في سبتمبر، اتفاقاً لإنشاء خط أنابيب يربط حقل أفروديت القبرصي بمنشآت تسييل الغاز في إدكو ودمياط، تكلفة مشروع الربط مليار دولار، ومن المتوقع أن يصل الغاز من قبرص لمصر بحلول عام 2024.
تجدر الإشارة أن:
- خط انشاء خط “إيست ميد” يستغرق من ست لسبع سنوات.
- خط إنشاء الغاز القبرص المصري يستغرق أربع سنوات.
- تكلفة الخط “إيست ميد” تتخطي 7 مليار دولار.
- تكلفة خط انابيب قبرص مصر1 مليار دولار.
محدد القرب الجغرافي بين مصر وقبرص واليونان، دفع بتسريع وتيرة الربط “الطاقوي” فيما بينهم. بتكلفة أقل. يأتي ذلك مع استحواذ مصر علي كفايتها من الغاز الإسرائيلي والكافي طبقاً للعقد المبرم لتشغيل محطات الإسالة بكفاءة تشغيلية قصوي وتدفقه بعد تسييله للسوق الأوروبية عبر سفن تختصر تكلفة انشاء خطوط بعمق البحار.
خاتمة
ثمة فارق كبير في الأسعار بين الغاز الطبيعي المُسال والغاز الطبيعي الذي يتدفّق من روسيا إلى أوروبا عبر شبكات أنابيب نقل ضخمة. فالغاز الطبيعي المُسال هو غاز طبيعي يتم تبريده إلى 161 درجة مئوية تحت الصفر بهدف تقليص حجمه 600 مرّة، كي يتمكّن المُنتج من التخزين وشحنه بالبواخر.
هذه العملية العلاجية تجعل سعر الغاز الطبيعي المُسال أعلى 20% مقارنةً بسعر الغاز الطبيعي.
وفي تقرير لها، قالت وكالة الطاقة الدولية أن النمو في سوق الغاز المسال سيرتفع لـ 26% حتي عام 2024. تعتمد مصر في صادراتها للغاز الطبيعي علي عمليات التسييل ومن ثم شحن السفن.
كما يتقاطع خط “إيست ميد” مع المصالح المصرية، وهو ما عبر عنه وزير الطاقة، طارق الملا، في مارس 2019 خلال مؤتمر للطاقة في هيوستن الأمريكية، بأن مصر ستدعم مشروع ” إيست ميد”.
لتصبح المحصلة، إنشاء مسارين جديدين لدفق غاز شرق المتوسط للسوق الأوروبية، الأول من خط الحقول الإسرائيلية مرورا بالحدود القبرصية وصولا لليونان وإيطاليا. والثاني يصل حقل أفروديت القبرص لمصر، ومن ثم تسييله وبيعه بسعر أعلي للسوق الأوروبية الرامي للاعتماد علي الغاز المسال ضمن استراتيجية الولايات المتحدة لتخفيف اعتماد أوروبا علي الغاز الطبيعي الروسي. هذه المحصلة، تهمّش فيها الدور التركي حد العزلة، ولاسيما بعد بناء خط “نورد ستريم2” للغاز الروسي الذي يمر عبر أوكرانيا وبحر البلطيق. ولم تجد تركيا سوي محاولات فرض القوة، والمناورة عبر طرابلس الليبية التي ستحدد معاركها الجارية مستقبل شرق المتوسط وكذلك خطوط غازه.