ليبيا

ماذا بعد موافقة البرلمان التركي على ارسال قوات عسكرية لليبيا؟

في جلسة كان مُعد لها الانعقاد في السابع من يناير الجاري، عقد البرلمان التركي أمس جلسته الاستثنائية بناء على طلب الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، للتصويت علي مشروع قرار يسمح بإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا لدعم ومساندة الميليشيات العسكرية التي تسيطر علي العاصمة طرابلس وتحمي حكومة الوفاق، وانتهت الجلسة بموافقة البرلمان علي مشروع القرار بإجمالي 325 صوت لصالح القرار مقابل 184.

ليتصدر المشهد العديد من التساؤلات حول طبيعة وأنماط التعاطي التركي بعد إقرار مشروع إرسال القوات العسكرية، ودلالات التحرك الأخير، ومستقبل الانخراط التركي العسكري في الميدان الليبي.

السياقات التكتيكية

يأتي استعجال دائرة صنع القرار العليا في تركيا للتصديق علي مشروع قانون إرسال القوات التركية للأراضي الليبية، ضمن تحولات ميدانية تصب في صالح قوات الجيش الوطني الليبي مسرحها أربعة بؤر رئيسية في جغرافيا (طرابلس – مصراتة – سرت – الجبهة الجنوبية) الصراع وتركزت كالآتي:

إحراز تقدمات في المحور الجنوبي للعاصمة

وسع الجيش الوطني الليبي من مكتسباته الميدانية في المحور الجنوبي للعاصمة طرابلس، فلأول مرة يقوم بتأمين معسكر النقلية والمقر السابق لرئاسة الأركان، ويسيطر علي طريق المطار، لتحصر ميليشيات حكومة الوفاق أمام آخر جسر تسيطر عليه قبل منطقة وسط طرابلس، ما يجعل من اقتحام الجيش الليبي لأحياء وسط العاصمة مسألة وقت ولاسيما بعد نجاح تغطية المروحيات القتالية في إسكات الراجمات المدفعية بحوزة ميليشيات الوفاق في شارع ولي العهد تحديداً.

الجدير بالذكر أن عمليات اقتحام طرابلس تتم بأنساق هجومية تراعي تجنب تحقيق خسائر في صفوف المدنيين ما يجعلها بطيئة بعكس التقدمات في الميادين الصحراوية المفتوحة.

فصل خطوط الدعم والإمداد من وإلى (سرت -مصراتة – طرابلس)

نجح الجيش الليبي في فصل خطوط الدعم والإمداد بين بؤرتي (مصراتة – طرابلس)، و بين (سرت – مصراتة)، من جهة أخري. كما أحبط قبل أقل من أسبوع موجة هجومية كانت تستهدف فك ذلك الحصار والفصل انطلاقا من مدينة سرت، مما استدعي دخول مقاتلات سلاح الجو وإرداء نحو 19 من العناصر المسلحة منهم 11 يحملون الجنسية السورية.

تثبيت السيطرة النارية علي الخاصرة الجنوبية

بعد نجاح جهود القوات المسلحة الليبية الرامية إلي تأمين مسرح الهلال النفطي في المنطقة الوسطي من البلاد، إثر معارك دامية استمرت قرابة العامين، مع الإرهابي المدعوم قطرياً ” إبراهيم الجضران”، الذي استعان بدوره بالعصابات التشادية التابعة لـ “تيمان أرديمي” المقيم في الدوحة. نجح الجيش في السيطرة علي الآتي بالتتابع (الجفرة – سبها – مرزق)، إذ مكّن الثلاثي السابق من تحقيق السيطرة النارية للجيش الليبي علي جبهة الجنوب وإحباط مخططات الزحف إليها من الحدود التشادية، وكذا حرمان ميليشيات الوفاق المحاصرة في جيوب ضيقة (سرت – مصراتة – طرابلس) من مطاراتها ومنشآتها المدنية والعسكرية.

سياقات استراتيجية
التحرك التركي الأخير، لم يكن رهناً لسياقات تكتيكية فقط، وإنما ارتبط بصورة مباشرة بالبيئة الاستراتيجية المعقدة في المنطقة، والتحديات الكبيرة التي تواجه دائرة صنع القرار العليا في مرحلة ما بعد محاولة الانقلاب 2016. إذ غدت السياسة التركية أكثر لجوءاً لفرض سياسات الأمر الواقع، وتفضيل لغة القوة داخلياً وإقليماً. حيث جاء توقيع مذكرتي التفاهم بين حكومة الوفاق وتركيا علي نحو تجاهل بنود اتفاق الصخيرات المنظم لعمل الحكومة، حيث جاء بمعزل عن موافقة أعضاء المجلس الرئاسي وكذلك البرلمان المنتخب من الشعب، كما أن الملحق البحري في المذكرتين قد تجاهل علي نحو صارخ قانون البحار المنظم لمثل هذه عمليات الترسيم وأيضاً تجاهل الجانب اليوناني وجزيرة كريت، واعتمد علي مبادئ الجرف القاري.

مما استدعي إدانة إقليمية ودولية واسعة، وعزز من العزلة التركية الحالية، ولاسيما بعد إجراء كل من فرنسا وإيطاليا وقبرص لمناورات عسكرية قبالة المياة الاقتصادية الخالصة للأخيرة، ورفع الإدارة الأمريكية لحظر توريد السلاح المفروض علي قبرص.

وعلى عكس الآمال التركية المتعلقة بتبعات تعزيز النفوذ العسكري في ليبيا وإبرام اتفاقية ترسيم بحري بمقتضاها تحاول فرض الأمر الواقع وفك الارتباط الاستراتيجي بين كل من (مصر – قبرص – اليونان)، أمام خفض محاولات التصعيد والمواجهة العسكرية مع (قبرص – اليونان)، وجدت دائرة صنع القرار في تركيا نفسها أمام محصلة استراتيجية ثقيلة تمثلت في:

تعزيز التحالف الاستراتيجي بين (مصر – قبرص – اليونان)
علي نحو أظهرته محطات التنسيق العالية بين مختلف مستويات القيادة للبلدان في سياق قضية ترسيم الحدود البحرية بينهما، وبين تركيا وحكومة الوفاق. إذ تبادلت الزيارات بين وزراء الخارجية الثلاثة، وتطابقت مواقف الثلاثي من الأزمة الليبية ودعم الجهود الرامية لتعزيز دور الدولة الوطنية. بدّورها جاءت المناورات العسكرية بين قبرص وفرنسا وإيطاليا لتؤكد تموضع الثنائي الأخير ضد السياسات والخطط التركية بالمنطقة. وبشكل عام يمكن القول أن محور (مصر – قبرص – اليونان) في شرق المتوسط نواة للتعاون الدولي المثمر وحقق مصالح دوله ويضمن تحقيق مصالح قوي كفرنسا وإيطاليا وبريطانيا علي نحو عبرت عنه استثمارات تلك الدول في حقول الغاز الممتدة بين المنطقة الاقتصادية للقاهرة ونيقوسا وأثينا.

تنسيق عال بين (إسرائيل – قبرص – اليونان)

وقعت قبرص واليونان واسرائيل الخميس في العاصمة اليونانية أثينا على اتفاق خط أنابيب “شرق المتوسط” (إيست ميد)، وهو مشروع “مهم” بحسب هذه الدول بالنسبة لمنطقة يتزايد فيها التوتر مع تركيا حول استغلال ثروة المحروقات.

وهدف المشروع هو أن تصبح الدول الثلاث حلقة وصل مهمة في سلسلة إمدادات الطاقة لاوروبا، وأيضا اظهار التصميم في مواجهة محاولات تركيا بسط سيطرتها على موارد الطاقة في شرق المتوسط..

وبعد محادثات بين رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس والرئيس القبرصي نيكوس أناستاسيادس ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، شهد القادة الثلاثة توقيع الاتفاق من وزراء الطاقة في الدول الثلاث.

المشروع الذي تبلغ تكلفته نحو 6 مليارات يورو ساهم في ابعاد تركيا عن التموضع بموقع رئيسي في خريطة الطاقة الناشئة بشرق المتوسط، وكذا موقع ” مركز تداول الطاقة “.

فتح جبهة إدلب

طيلة ثلاثة أسابيع، ظلّ الجيش العربي السوري يمضي قُدماً في إحراز تقدمات ميدانية لأول مرة في مدينة إدلب منذ اندلاع الحرب السورية منذ ثمان سنوات. ففي التاسع عشر من الشهر الماضي، بدأ الجيش السوري عملية موسعة حيث انطلقت من جنوب شرق إدلب وتمكن من تحرير عشرات القرى والبلدات من سيطرة التنظيمات الإرهابية، مقتربا بذلك من استعادة مدينتي معرة النعمان وسراقب الإستراتيجيتين وفتح الطريقين الحيويين (اللاذقية – حلب) و(حماة- حلب) والذي تعني إعادة فتحهما السيطرة عملياً على محافظة إدلب بالكامل.

الجدير بالذكر، أن الدعم الروسي الجوي والاستخباراتي لهذه العملية يعد استثنائياً، لنشاط المئات من العناصر الإرهابية القادمة من منطقة القوقاز ضمن تشكيلات مسلحة قوية، تخشي روسيا من إعادة تدويرها وإرسالها لمنطقة الحرم الأمني الروسي بالقوقاز.

جبهة إدلب، لم تخضع لتفاهمات روسية – تركية، إلا فيما يخص نقاط المراقبة التركية فقط، إذ تعتبر العناصر القوقازية هدفاً رئيسياً للمقاتلات والقاذفات الروسية. ما جعل مساحة سيطرة تركيا تقع أمام تهديد حقيقي بالتقلص والانكماش.

السياقات التكتيكية والاستراتيجية المشار إليها، دفعت الإدارة التركية لاستعجال نقل مركز القوة الجديد من إدلب لليبيا، بصورة قانونية داخلية، تشرعن لخطط تقنين إرسال عناصر قوات نظامية، وكذا المرتزقة السوريين وغيرهم عبر شركة الخدمات العسكرية والتدريبية “سادات” علي غرار فاغنر الروسية وبلاك ووتر الامريكية.

كيف ستبدو أنساق القوات التركية المرسلة لليبيا

شهد الميدان السوري استخدام شتي صنوف الأسلحة، التقليدية والحديثة نسبياً وكذلك الكيميائية، وكذلك شهدت تركيا ميلاد جديد لتكتيكات القتال المتلاحم بالاشتراك مع التنظيمات المسلحة الموالية لها ولاسيما التركمانية.

ففي العمليات الثلاث الرئيسة التي نفذتها تركيا في الشمال السوري منذ العام 2016، اتسمت بتعظيم دور الميليشيات المسلحة علي نحو يمكن حصره في مسارين:

تحاشي دخول القوات المسلحة التركية النظامية في مواجهة مباشرة مع التهديدات غير النمطية ولاسيما قوات سوريا الديمقراطية والأفرع غير “المسيطر” عليها لتنظيم داعش. – تشكيل أنساق الهجوم الأولي من التنظيمات والميلشيات المسلحة تتولي مهام تطهير الميدان من العدائيات والتمهيد لدخول قوات المشاة الميكانيكية التركية.
وبالنظر للميدان الليبي، نجد أن عمليات نقل الإرهابيين من سوريا لطرابلس ومصراته عبر الطائرات المدنية التابعة لشركات ” الأفريقية ” ، و ” أجنحة ليبيا ” المملوكة للإرهابي عبدالحكيم بلحاج؛ قد تزامنت مع قرب تصديق البرلمان التركي علي مشروع قانون إرسال القوات التركية لليبيا. فالمعالجة التركية للشمال السوري، هي ذاتها في ليبيا، إذ من المستبعد أن تواجه القوات التركية بصورة مباشرة أية تهديدات غير نمطية دون وجود الميليشيات في الخطوط الأولي.

وعليه، فإن ديناميات التحرك التركي النظامي باتجاه ليبيا بناءاً علي تصديق البرلمان اليوم، من المحتمل أن يشهد:

إرسال عدد أكبر من العسكريين والأطقم الفنية لإدارة المعارك والأسلحة النوعية ولاسيما الطائرات بدون طيار.
إرسال عناصر من القوات الخاصة المدربة علي التعامل مع البيئات شديدة الخطورة في المدن ذات الكثافة السكانية.
إرسال مضادات المدرعات والطيران.
زيادة أعداد الطائرات المسيرة طراز “بيرقدار”
مازلت تركيا في طور اختبار ديناميكات الميدان الليبي، ومن غير المرجح وضع القوات التركية في خط تماس مباشر مع قوات الجيش الوطني الليبي منذ المراحل الأولي. كما أن الميدان الليبي لم يشهد استخدام مكثف للصواريخ الموجهة المضادة للدروع، والتي في حال وصولها إلي الميلشيات ستشكل عائقاً كبيراً أمام تقدم القوات البرية. إذ سلمت تركيا في الميدان السوري وللجماعات المنضوية تحت لواءها العديد من صواريخ الكورنيت والتاو، كما سجل الميدان السوري تسليم تركيا للعناصر المسلحة صواريخ HAR66 المحمولة علي الكتف في حلب.

الاستجابة المصرية واحتمالات الضرب الاستباقي

ترفع مصر من منطق الدولة الوطنية في سياساتها الرامية لتعزيز الاستقرار والسلم الإقليميين والدوليين، كما أثبتت عبر العديد من المحطات الفاصلة كقيادة سياسية وعسكرية عدم التردد في استخدام القوة العسكرية لمعالجة تهديدات الأمن القومي، ولاسيما في دوائر القرب الجغرافي.

إذ نفذت مقاتلات سلاح الجو المصري “الرفال” ضربات نوعية مكثفة في العمق الليبي ” الجفرة “، في مايو من العام 2017، وقبل ذلك التاريخ بعامين، نفذت ضربة موسعة استهدفت مجلس شوري مجاهدي درنة. حتي نجحت الجهود الليبية في تأمين الشرق والوسط الليبي من أي تواجد ميليشاوي قد يهدد السلم والأمن الليبي ولدول جوارها، ولم تبقي سوي الجيوب الضيقة في الغرب الليبي.

ومع اتجاه تركيا لاستنساخ التجرية السورية في الأراضي الليبية، وكذلك تحويل غرب ليبيا إلي مقاطعة تركية علي غرار سيناريو قبرص، أو رهنها بتسويات إقليمية تطال الملفين السوري والعراقي، تنشأ تهديدات كبيرة لدائرة الأمن القومي المصري في ليبيا وعليه تفتح الباب أمام معالجة تظهر عدم تردداً في استخدام القوة وما يلزم من إجراءات محددة لضمان سلامة الأمن القومي. وقد عبرت قناتين رئيسيتين عن إطار الاستجابة المصرية الرادعة لمحاولات رفع سقف الانخراط العسكري الأجنبي علي نحو يحول ليبيا إلي منصة تهديد دائمة لدول الجوار، كانت:

رئاسة الجمهورية:
إذ أعلنت عن ترأس الرئيس السيسي اجتماعاً لمجلس الأمن القومي، وتحديد مجموعة من الإجراءات علي مختلف الأصعدة للتصدي لأي تهديد للأمن القومي المصري.

وزارة الخارجية:
في بيان شديد اللهجة، حذرت الخارجية تركيا من مغبة التدخل العسكري، وأشارت لتحمل تركيا مسؤولية ذلك. جاء البيان قبل بدء وزير الخارجية إجراءات دبلوماسية مع قبرص واليونان والامارات العربية المتحدة، لتهيئة البيئة الدبلوماسية لأية جهود مصرية علي الصعيد الميداني قد تستوجب التنفيذ.

بيد أن الجانب المصري أولي إهتماماً بالقوة المصرية المحمولة جواً إثر إجراء مناورات حماة الصداقة مع الجانب الروسي قبل ثلاثة أعوام واستمرت حتي الان، كما أجري تدريبات ومناورات لمواجهة الجيوش النظامية علي الاتجاه الاستراتيجي الغربي ” مناورات رعد”، وكذا اقتحام المدن الساحلية، وذلك قبل توجه الجيش الوطني اليبي وزحفه نحو طرابلس بعامين. ما يؤشر علي نمط المعالجة والتعاطي المصري مع تطورات الوضع الميداني الليبي. كما عبرت صفقات التسليح الأخيرة عن إيلاء قدرات النقل التعبوي الاستراتيجي المصري خارج الحدود الدولية، ركناً هاماً علي صعيد القوة العسكرية الشاملة، ما يمثل تقديرات صانع القرار بتطور التهديدات في دوائر الأمن القومي بالاتجاهات المختلفة علي حدِ سواء. لتظل الاستجابة المصرية رهن القدرة والرغبة المصرية، لا رغبة وقدرة الخصم في الميدان.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى