المراكز الأسيوية

كيف تحولت تركيا كأكبر سجن للصحفيين في العالم

هكذا عنون مركز “نسمات للدراسات الاجتماعية والحضارية” تقريره الذي اشترك في تقديمه مع صحيفة “زمان” التركية، ليكشف انتهاكًا جديدًا يواجه الأكاديميون والصحفيون والكتاب المنتقدين لحكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والذين – بحسب التقرير –يعيشون ألوانًا شتى من الترهيب والمضايقة والرقابة المستمرة، خاصة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو 2016، لتصنف تركيا للعام الثاني على التوالي بأنها “أكبر سجن للصحفيين”، بحسب “الاتحاد الدولي للصحفيين” “IFJ”، وفي الترتيب 157 من بين 180 دولة في مؤشر “حرية الصحافة” الصادر عن منظمة “مراسلون بلا حدود” “RSF”في ابريل 2018، إذ يمثل الصحفيون المعتقلون في تركيا نصف عدد الصحفيين المعتقلين على مستوى العالم.

حقائق وأرقام

بحسب عدة لقاءات ومحادثات هاتفية اجراها القائمين على التقرير مع عدة مصادر موثوقة، فضلا عن مراجعتهم للقوائم التي أعدتها المؤسسات الإعلامية المعتمدة ومنظمات حقوق الانسان، فإنه يقبع في سجون تركيا 319 صحفيًا معتقلا بينهم 20 من مديري الصحف أو وكالات الأنباء، إلى جانب مذكرات اعتقال بحق 142 صحفيًا أخرين مشردين خارج البلاد، بالإضافة إلى محاكمة 839 صحفيًا قضائيَا خلال عام 2017 فقط.

فضلا عن اعتقال 124 صحفيًا بتهم “عضوية بمنظمات ارهابية، أو الترويج للإرهاب، أو محاولة الاطاحة بالحكومة”، واغلاق 189 وسيلة اعلامية منها “5 وكالات أنباء، و62 جريدة، و19 مجلة، و14 راديو، و29 قناة تليفزيونية، و29 دارً للنشر”، و127000 موقع من ضمنهم “ويكيبيديا”، ما يؤكد خطورة الوضع، خاصة وأن تلك البيانات مرشحة للزيادة بسبب الحملات الأمنية المستمرة للقبض على الصحفيين.

“الخوف” يسيطر على المشهد الاعلامي

“عليّ التفكير مرتين قبل التحدث أو الكتابة” هكذا صرحت محامية حقوق الانسان، إرين كسكين، لمنظمة العفو الدولية، حول حال الرهبة والخوف المسيطرين على حال اعلام انقرة.

فقد وجهت حكومة أردوغان تهم “الارهاب، والخيانة العظمى” لـ 85% من الصحفيين والاعلاميين القابعين حاليًا بالسجون، بل ووسعت مفهوم الارهاب ليدخل تحته المدافعون عن حقوق الانسان، ما بدا واضحًا في عدة تقارير، لاسيما تقارير منظمة حقوق الانسان، ووثائق الاتحاد الأوروبي، ومنظمة العفو الدولية، وغيرها…، فأصبحت تركيا “زنزانة” – بحسب توصيف حقي بولطن، عضو جمعية “مبادرة الصحفيين الأحرار” – جعلت عددًا كبيرًا من الصحفيين يكتبون مقالاتهم تحت أسماء مستعارة خوفًا على أنفسهم وعلى ذويهم، مستعدين في أي وقت لأن تداهمهم الشرطة لا لشيء إلا لقيامهم بعملهم.

أوضاع مذريه للصحفيين داخل سجون أردوغان

فتصريحات الرئيس التركي المتضاربة وحدها تعد دليلا على تلك الأوضاع، فتارة يصرح “لا يوجد دولة أكثر تقدمًا من تركيا في مجال الحريات”، وتارة أخرى يعلن أن “كل المقبوض عليهم من الصحفيين إرهابيون”، وبالبحث.. وجد أن الحكومة التركية تقوم بنزع صفه “صحفي” عن الصحفيين المعتقلين عبر إبطال تراخيص عملهم، ومن ثم تأمر بالقبض عليهم، كحيلة منها لتبييض وجهها أمام المجتمع الدولي، ما يبرر تصريح وزير العدل بكير بوزداغ، بأنه لا يوجد في سجون أنقرة إلا ثلاثة صحفيين فقط!

وبموجب حالة الطوارئ التي أعلنتها تركيا، فإن اتصال هؤلاء السجناء بمحاميهم يخضع لقيود صارمة، كما يسمح لأقرب الأقارب فقط زيارة السجناء مرة في الأسبوع، من خلال نوافذ زجاجية أو عن طريق الهاتف، فضلا عن فترات الحبس الاحتياطي الطويلة، والحبس الانفرادي، والتعذيب بأشكاله النفسي والجسدي والتنكيل والانتهاكات بشتى الطرق، والتعامل بشكل غير أدمي… والأسوأ من ذلك أنهم لا يمكنهم الشكوى، إذ يمكن أن يتعرض عائلاتهم وأقاربهم للضرر.

C:\Users\Nady\AppData\Local\Microsoft\Windows\INetCache\Content.Word\sdg.jpg

وتعد الصحفية عائشة نور باريلداك، أحد أبرز الشاهدين على تلك المأساة، حيث تداولت وسائل الاعلام التركية حالتها لأنها أرسلت رسالة من داخل السجن لجريدة الجمهورية، تشكي فيها الضرب والتعذيب والتحرش الجنسي الذي تعرضت له، قائلة “أخاف أن أنسى داخل الحبس!”.

ليس هذا كل شيء، فنتيجة لكل ما سبق، فقد أصبحت السجون مكتظة بعدد أكبر مما تحتمله من المحتجزين في العادي، فالعنبر الذي يحتمل أثنين يوضع به أربعة.. وهكذا، ولا يوجد ما يسمي بلقاءٍ بين السجين ومحاميه وحدهما، حيث تشترط سجون أردوغان أن يحضر تلك اللقاءات أحد أفراد الشرطة، ويتم تسجيله بالصوت والصورة.

أما عن الحالة الصحية للمساجين، فهي اخر اهتمامات تلك السجون، وكانت حالة أحمد جوك، ممثل أنقرة لمجلة “الخبز والعدل”، أحد الأمثلة الصارخة، حين قدم شهادة معتمدة تفيد بإصابته بمتلازمة “كورساكوف” والتي ينص القانون التركي على الاخلاء الفوري لمثل تلك الحالة، إلا أنه لم يتم إطلاق صراحه، وغيره من الحالات التي لم يتم النظر إليها أو مراعاتها داخل السجن، بل بالعكس فإنه يتم اذلالهم وتعذيبهم نفسيًا لدرجة جعلت المساجين لا يطلبون نقلهم للمستشفى لئلا يهينون أنفسهم. 

حال الصحفيين خارج السجون

لا تقل حالة الصحفيين الذين مازالوا خارج السجون سوءًا عن زملائهم بالداخل، فقد أدى إغلاق 189 مؤسسة، لأن يتشرد أكثر من 30% من العاملين بمجال الصحافة والاعلام، إلى جانب حرمانهم من فرص العمل خارج المجال، بعد أن وضعت الحكومة أسماءهم فيما سمي بـ “القائمة السوداء”، وأما من يتمكنون من إيجاد فرصة، فغالبًا تكون بعيدة كل البعد عن مجال خبراتهم، لتصبح شهاداتهم بلا أية قيمة.

الأمر الذي لم يقف عند هذا الحد، فقد أصدرت محكمة الصلح الجزائية قرارًا بمصادرة ممتلكات 54 شخصًا، والاستيلاء على أموالهم، كان ضمنهم صحفيون معتقلون، ليتم اعلان هذا القرار بعد أسبوع – أي بعد تفويت فرصة الطعن على القرار- وذلك قبل أن تصدر المحكمة أحكامًا نهائية بحق التهم الموجهة إليهم بدعم الإرهاب ماليًا، بل إن بعضم تمت مصادرة ممتلكاته رغم وفاته، كالصحفي زكي أونال، وبعضهم لم تصدر بحقه أية اتهامات ومع ذلك طبق عليه قرار المصادرة كالصحفي إحسان داغ.

صحفيون مشردون في المنفى

وصل عدد الصحفيين الذين يواجهون خطر القبض عليهم واحتجازهم خلال عام 2017 إلى 142 صحفيًا واعلاميًا، كان بعضهم خارج البلاد لظروف طبيعية قبل يوليو 2016، بينما اختبأ أخرون لدى ذويهم، وهرب البعض بطرق غير شرعية، فضلا عن عدد غير قليل ما زالوا مفقودين.

وعن حال هؤلاء الصحفيون، فقد وجد أنهم يواجهون معاناة من نوع أخر، فهم يخاطرون بسلامتهم الشخصية، كما يستهدفهم اعلام أردوغان ويوجه لهم اتهامات عديدة، عرضتهم للتهديد.

أما الحكومة، فتجمع عنهم المعلومات وتعد لهم ملفات واتهامات، ومن ذلك ما صرح به أردوغان بنفسه عن الصحفي جان دوندار، بأنه سيدفع ثمن التحقيقات الصحفية التي كتبها غاليًا، حيث كان الثاني قد نشر تحقيقًا أثبت فيه بأن الحكومة التركية تسلح الجماعات الارهابية في سوريا.

وفي سبتمبر 2016، نشرت جريدة “صباح” الموالية لأردوغان تقريرًا عن أماكن تواجد الصحفيين بالخارج، تلقى بعدها هؤلاء الصحفيون تهديدات بالقتل، منهم الصحفي أدم ياووز أرسلان، الذي صرح بأنه لم يصدر بشأنه مذكرة اعتقال، وأن مكان تواجده تعرفه السفارة التركية منذ سنتين ونصف، كما اعتقلت الشرطة ربة المنزل هاجر كوروجو، دون أن يصدر بحقها أيه مذكرات، لتلقى المصير المُعد لزوجها الذي كان يعمل رئيس تحرير جريدة “يارينا باكيش”، بدلا منه، بعدما داهمت الشرطة المنزل ولم تجده، ولم تكن كوروجو تعرف عنه شيئا، فتم تحويل مذكرة الاعتقال باسمها بقرار من وكيل النيابة.

أما القنصليات والسفارات التركية العاملة في البلاد التي فر إليها هؤلاء الصحفيين، فقد قامت بإلغاء جوازاتهم أو مصادرتها، وحرمانهم من حق تجديد الجواز، وعدم تسجيل مواليدهم الجديدة، فاضطر غالبيتهم لطلبات اللجوء، أو السكن في مخيمات، خافيين أنفسهم، حفاظًا على سلامتهم.

C:\Users\Nady\AppData\Local\Microsoft\Windows\INetCache\Content.Word\ٍؤ.jpg

ورغم أن الدستور التركي في مادتيه الـ 25و26 يؤكد على حرية الرأي والتعبير، ونشر المعلومات دون وصاية من السلطات، إلا أن الحكومة التركية تتجاهل هذا النص، محاولة الالتفاف حوله، معلنة احترامها للحريات.

ما يفرض حتمية أن يناشد المجتمع الدولي حكومة أردوغان كي تلتزم بالدستور التركي أولا، وبالمواثيق والمعاهدات الدولية ثانيًا، وأن تطلق سراح الصحفيين المعتقلين ثالثا. 

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى