
كيف تحولت مصر إلى مركز إقليمي للطاقة؟!
تتخذ مصر خطوات حثيثة نحو هدفها أن تكون مركزاً إقليمياً للطاقة من خلال اكتشافات الغاز الطبيعي، وتحديث البنية التحتية لمشروعات تسييل الغاز وتكرير البترول، والتوسع في مشروعات الطاقة المتجددة، وزيادة إنتاج محطات الكهرباء من أجل الوفاء باحتياجات السوق المحلي وفتح قنوات جديدة للتصدير سواء مع الدول العربية، أو الإفريقية، أو الأوروبية.
وكبداية، نجحت مصر بالفعل في التحول من بلد مستورد للغاز إلى بلد مصدر له في أقل من عامين بفضل اكتشافات الغاز الهائلة في شرق المتوسط والتي تتضمن حقل “ظُهر” باحتياطي يبلغ 30 تريليون قدم مكعب من الغاز، وحقل “نور” باحتياطي يبلغ 60 تريليون قدم مكعب، وعدد من الحقول في الدلتا وشمال الإسكندرية بقدرات إنتاجية مختلفة.
وعلى طريقٍ موازٍ للاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي وتصديره إلى أوروبا، استطاعت مصر أن تتحول من عجز الطاقة الكهربية إلى تحقيق فائض يسمح بالتصدير لدول الجوار، وجاءت أولى الخطوات في مشروع الربط الكهربي مع السودان لتصدير 300 ميجاوات كمرحلة أولى، مع العمل على زيادتها ليصل حجم الكهرباء المُصدرة إلى السودان فقط إلى 3000 ميجاوات لتكون بذلك بوابة عبور الكهرباء المصرية إلى إفريقيا، وتم توقيع اتفاقيات تصدير الكهرباء إلى كل من المملكة العربية السعودية واليونان وقبرص. بذلك يتضح أن هناك خطة جادة وطموحة لتحويل مصر إلى مركز إقليمي للطاقة يحقق للدولة المصرية مكاسب اقتصادية وسياسية من شأنها أن تضع مصر في المكانة التي تستحقها بين دول العالم، وتمكنها من لعب دور سياسي قوي إقليمياُ.
خطة طموحة على طريق الريادة
أكد الرئيس السيسي على أهمية دعم ونجاح المساعي الرامية لزيادة التواصل والترابط بين دول القارة الأفريقية، وأشار إلى أن تحقيق أمن الطاقة وتحسين سبل الحصول عليها، أمر مهم وحيوي وتقع مسئوليته بشكل كبير على عاتق الدول المصدرة للطاقة، جاء ذلك خلال الكلمة التي ألقاها وزير البترول والثروة المعدنية نيابةُ عنه أمام القمة الخامسة لرؤساء الدول والحكومات الأعضاء في منتدى الدول المصدرة للغاز التي استضافتها مدينة مالابو عاصمة غينيا الاستوائية نهاية نوفمبر المنصرم.
وأوضح الوزير خلال الكلمة أن مصر بدأت في تنفيذ برنامج طموح لتطوير وتحديث قطاع البترول ورفع كفاءته لإحداث تطوير وتغيير شامل في مختلف أنشطته من أجل زيادة مساهمته في التنمية الشاملة لمصر من خلال العمل بشكل أكثر كفاءة وجذب المزيد من الاستثمارات وتكوين كوادر بشرية شابة مؤهلة ومدربة بمستوى عالمي من أجل تعظيم العوائد وتنمية ثروات مصر من الأصول والموارد الطبيعية بشكل مستدام وتعظيم قيمتها.
وتناولت الخطة المصرية للتحول إلى مركز إقليمي للطاقة محورين أساسيين هما: تحسين البنية الأساسية لهذا القطاع، وتنمية أوجه التعاون مع الشركاء الإقليميين والدوليين؛ فقد تم خلال الخمس سنوات الماضية تنفيذ 27 مشروعاً لتنمية حقول الغاز باستثمارات تقدر بـ 21 مليار دولار، ووصل إنتاج مصر إلى 7.2 مليار قدم مكعب غاز يومياً، وقد كان لاكتشاف حقل ظهر العملاق في 2015 وضخ إنتاجه في السوق المحلي خلال عامين فقط أثر كبير على الوفاء باحتياجات السوق المحلي.
وفيما يخص البنية الأساسية لتسييل الغاز نجد أن مصر تمتلك محطتين لإسالة الغاز الطبيعي: الأولى هي محطة “إدكو” التي تضم وحدتين للإسالة بطاقة استيعابية تصل إلى 4.1 مليون طن سنوياً من الغاز، وتشتمل على ميناء لتصدير الغاز المسال لاستقبال ناقلات بسعة 165 ألف متر مكعب، كما تتضمن مستودعين لتخزين الغاز المسال بطاقة تخزينية تصل إلى 140 ألف متر مكعب لكل مستودع، والثانية هي محطة تسييل الغاز في دمياط والتي تضم وحدة واحدة لتسييل الغاز، وتعمل بطاقة استيعابية تصل إلى نحو 750 مليون قدم مكعب يومياً، ما يعني أن مصر تمتلك المقومات الأساسية التي تمكنها من ربط مناطق انتاج الغاز في دول المنطقة من أجل تسييله وإعادة تصديره مرة أخرى.
أما فيما يخص التعاون مع الشركاء الدوليين والإقليميين، فقد دعت مصر وزراء الطاقة بدول شرق المتوسط: قبرص واليونان وإيطاليا والأردن وفلسطين وإسرائيل إلى جانب مصر، وكذلك ممثلي الاتحاد الأوروبي لاجتماع في القاهرة في منتصف يناير 2019 صدر عنه إعلان مشترك من وزراء الدول السبع عن تأسيس “منتدى غاز شرق المتوسط” واختيار القاهرة مقرًا له، وتضمن إعلانه التأسيسي فتح الباب أمام من يريد المشاركة فيه، على أن يكون الحديث فيه ليس سياسياً وإنما اقتصادياً ليعود بالنفع على الجميع.
اتفاقية ذات عوائد مشتركة
مع بدء عمليات الحفر لاستغلال الحقول المكتشفة في مصر، تشير كل التوقعات إلى أن مصر ستصبح أحد أهم منتجي ومصدري الغاز في العالم في غضون أقل من عشر سنوات، ويدعم هذه التوقعات اتفاق لتصدير 70 مليار مكعب من الغاز الإسرائيلي عن طريق منصات الغاز المصرية بعد تسييله، كما يدعمه اتفاقيات لتعاون مصري قبرصي مشابه، ففي فبراير 2018، أعلنت شركة “دولفينوس القابضة” المصرية الخاصة عن إبرام اتفاق لاستيراد غاز طبيعي بقيمة 15 مليار دولار من إسرائيل على مدار عشرة أعوام، حيث تستهدف مصر استيراد الغاز من حقلي تمار وليفايثان الإسرائيليين بغرض إسالته قبل إعادة تصديره إلى أوروبا وبقية أنحاء العالم، وسوف تدخل الاتفاقية حيز التنفيذ بنهاية الشهر الجاري بمجرد بدء الإنتاج من حقل ليفايثان كما صرحت مصادر إسرائيلية.
ولم يكن هذا هو الاتفاق الأول من نوعه بين الدولتين، حيث سبق أن انهار اتفاق تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل – الموُقِّع في عام 2005، عندما كانت مصر تنتج كميات أكبر من الغاز الطبيعي وكان الطلب الداخلي أكثر انخفاضاً – في عام 2012 بعد العديد من الهجمات على خط أنابيب التصدير في سيناء، الأمر الذي أدي إلى لجوء إسرائيل إلى التحكيم الدولي الذي جاء في صف الجانب الإسرائيلي وفرض على مصر تسديد غرامات مالية قدرها 1.76 مليار دولار إلى إسرائيل بسبب وقف هذه الصادرات، ولكن بعد مفاوضات بين شركة كهرباء إسرائيل والشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية (إيجاس) والهيئة المصرية العامة للبترول، وشركة غاز شرق المتوسط، تنازلت الشركة الإسرائيلية عن 1.3 مليار دولار على أن تسدد مصر 470 مليون دولار بأقساط ميسرة لمدة 15 عاماً، ويدخل هذا الاتفاق ضمن صفقة استيراد مصر للغاز الإسرائيلي لمدة عشرة أعوام، حيث وضعت الحكومة المصرية تخفيض الغرامة البالغة 1.76 مليار دولار كشرط أساسي للموافقة على صفقة استيراد الغاز من إسرائيل.
مما سبق، يتضح أن الاتفاق يحقق المصلحة لكل من مصر وإسرائيل على السواء، حيث تستفيد مصر من تخفيض الغرامة المفروضة مسبقاً، وتحقق عوائد اقتصادية من تسييل الغاز وإعادة تصديره، أما إسرائيل فستستفيد بالعوائد الاقتصادية الناتجة عن تصدير الغاز إلى مصر، كما تحقق مكسباً سياسياً بزيادة التعاون بين البلدين بما يعزز فرص الاستقرار في المنطقة ويفتح آفاقاً جديدة للتهدئة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
مكاسب مصرية في وقت قياسي
على الصعيد الاقتصادي، ساعدت طفرة الغاز في مصر على تعزيز الوضع المالي بما يوفر مليارات الدولارات التي كانت تُنفق لاستيراد الغاز والمواد البترولية، كما أن تحويل وسائل النقل والمصانع ومحطات الطاقة إلى العمل بالغاز سيوفر مليارات أخرى تساهم في إعادة التوازن إلى الميزان التجاري، ومع عودة هذا التوازن يستقر سعر صرف الجنيه المصري وتتراجع نسبة التضخم.
وقد توقفت مصر عن استيراد الغاز في سبتمبر 2018، واستغنت عن وحدة تغييز عائمة وقامت بتأجيرها لطرف ثالث، كما بدأت في تصدير الغاز المسال في نفس العام، حيث أظهر التقرير السنوي للشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية (إيجاس)، أن مصر صدرت 172.8 مليار قدم مكعب من الغاز الطبيعي المسال في السنة المالية 2018 – 2019، وذلك عبر 45 شحنة من مصنع الإسالة في إدكو.
كما يمثل نمو الإنتاج المصري من الغاز الطبيعي تهديداً حقيقياً لعدد من الدول المصدرة للغاز، خاصةً لروسيا التي تمد أوروبا بثلث احتياجاتها من الغاز الطبيعي عن طريق أنابيب تعبر شرق أوروبا وبحر البلطيق، ولكن الخطر الحقيقي على حصة روسيا مرتبط بتطوير تقنيات تسييل الغاز وبمد أنابيب من مصر وشرق المتوسط قادرة على إيصال الغاز المتوسطي بسعر منافس لنظيره الروسي الأنسب سعراً حتى الآن مقارنة بالغاز القطري أو الأمريكي الذي يحاول دخول السوق الأوروبية بشكل أقوى.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إن مصر أصبحت شريكاً لا غنى عنه بالنسبة إلى أوروبا، وأنها يمكن أن تعود إلى لعب دورها السياسي في منطقة الشرق الأوسط كما كان عليه الحال في خمسينات وستينات القرن الماضي نتيجةً لاكتشافات الغاز الضخمة التي تحولها إلى دولة مصدّرة وتنبئ بتحالف أوروبي-شرق أوسطي جديد في سوق الطاقة على حساب روسيا والخليج.
باحث ببرنامج السياسات العامة



