ليبياشرق المتوسط

اتفاقيات “أردوغان والسراج” … دعم متبادل لتقويض الاستقرار شرق المتوسط

تستثمر حكومة الوفاق الوطني حالة التداخل والتباين بين المجتمع الدولي حول الصراع الليبي، والاعتراف الأممي الذي نالته بعد اتفاق الصخيرات بالعام 2015، لتمارس مهام السيادة والسلطة على الأراضي الليبية بما يحقق استمراريتها وبقائها، متجاهلةً تداعيات تلك الممارسات على سلامة ومصالح الدولة الوطنية الليبية الموحدة. وتكررت شواهد تلك الممارسات وتنوعت بين دعم مليشيات وجماعات مسلحة مسيطرة على مفاصل وأجهزة السلطة بالعاصمة طرابلس، كذلك توقيع اتفاقيات مع أطراف خارجية عدة تتعلق بشراكات اقتصادية وأمنية وملفات أخرى تمس سيادة الدولة.

وقد تجددت المخاوف داخل الأوساط الليبية مع الكشف عن توقيع رئيس حكومة الوفاق “فائز السراج” والرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” لاتفاقيات حول التعاون الأمني وإدارة المصالح بالمياه الاقتصادية المشتركة بين ليبيا وتركيا. 

وتتناول هذه الورقة قراءة للأبعاد المتوقعة للاتفاقيات التي جرى توقيعهما مع الجانب التركي، والدوافع وراء الإسراع في الاتجاه إليها في ظل المشهد الليبي الحالي، فضلًا عن المواقف التي صدرت عن أطراف الصراع متناولةً تلك الاتفاقيات، وصولًا إلى التداعيات المُحتملة لها على مسار الصراع المُحتدم.

اتفاقيات شراكة أم عقود تنازل …؟ 

Image result for ‫ليبيا تركيا‬‎

أصدر المجلس الرئاسي الليبي بيانًا، 27وفمبر2019، أعلن فيه اختتام زيارة لوفده برئاسة “فائز السراج”، رئيس المجلس وحكومة الوفاق الوطني، الى مدينة إسطنبول التركية، حيث التقى الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”. ووفقًا للبيان، اشتمل اللقاء محادثات حول تطورات الأوضاع في ليبيا، وما عنونه البيان بـ “تداعيات العدوان على العاصمة”، كذلك الجهود الدولية لحل الأزمة الليبية، بالإضافة إلى القضايا ذات الاهتمام المشترك. 

وقد أوضح البيان -بإيجاز- الى أن ختام المحادثات تضمن التوقيع على “مذكرتي تفاهم احداها حول التعاون الأمني، والثانية مذكرة تفاهم في المجال البحري”، ولم يوضح البيان أي تفاصيل أو معلومات حول طبيعة الاتفاقيتين. وتجدر الإشارة أن الوفد المرافق “للسراج” ضم كل من وزير الخارجية “محمد سيالة”، ووزير الداخلية “فتحي باشاغا”، وآمر غرفة العمليات المشتركة “أسامة جويلي”، ووكيل وزارة الدفاع “صلاح النمروش”، ومستشار السراج للأمن القومي “تاج الدين الرزاقي”.

وقد فاقم البيان حالة الاستياء الداخلي؛ إذ أصبحت الوفاق تورط المجتمع الليبي باتفاقيات تعزز من التدخل التركي بالشأن الليبي، كما أن طبيعة الوفد المرافق للسراج تكشف أن اتفاقية “التعاون الأمني” مع “أردوغان” ترتبط بشكل مباشر بدعمه لقوات الوفاق والمليشيات والتنظيمات المسلحة مجددًا؛ لفرض سيطرتها على العاصمة، ومواجهة عملية الجيش الوطني لتحرير العاصمة من سيطرة مليشيات الوفاق والتنظيمات الإرهابية. 

وكشفت لجنة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي بمجلس النواب أن الاتفاقية الأمنية يستطيع بموجبها الجانب التركي “استخدام الأجواء الليبية وكذلك البرية والدخول للمياه الإقليمية من دون أخذ أذن من الجانب الليبي وكذلك إنشاء قواعد عسكرية في ليبيا”.

https://i0.wp.com/almarsad.co/wp-content/uploads/2019/11/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D9%88%D8%AF-%D9%85%D8%B9-%D8%AA%D8%B1%D9%83%D9%8A%D8%A7.jpg?fit=829%2C503&ssl=1

كذلك فإن تزامن توقيع اتفاقية تتعلق بـ “المجال البحري” هو المقابل الذي قدمته حكومة الوفاق لأنقرة ليوافق على دعم جديد لميليشياتها في طرابلس، وتمثل تلك الاتفاقية خطورة كبرى على استقرار دول شرق المتوسط؛ حيث أن الادعاءات التركية بوجود سواحل لديها تقابل السواحل الليبية هو أمر متكرر ومخالف لقانون البحار. وتسعى تركيا للحصول على اتفاق مماثل مع الجانب الليبي للهيمنة على الموارد الاقتصادية شرق البحر المتوسط بالمخالفة للقانون الدولي.

دوافع متأججة لتوقيع الاتفاقيات

حركت عدة دوافع لدى تركيا وحكومة الوفاق الطرفين للتوقيع بشكل سريع وغير مُعلن كاملًا على الاتفاقيات، وتتساوي حدة الدوافع لدى الجانبين، إلا أنها تتابين في الاتجاهات بين مصالح الهيمنة الاقتصادية لدى تركيا وأخرى ذات طبيعة عسكرية لدى الوفاق. ويمكن الإشارة اليها فيما يلي:

1- مناوئة منتدى غاز شرق المتوسط: ترى تركيا أن الفرصة سانحة لإضفاء شرعية على تحركاتها المشبوهة شرق المتوسط، حيث ستتجه تركيا لتعزيز تحركاتها للتنقيب عن الغاز -بالمخالفة لقواعد القانون الدولي- وخصوصًا بمنطقة النزاع مع قبرص. وسيعزز من جهودها استنادها الى الاتفاقية الحالية والتي تعترف بمقابلة المياه الاقتصادية التركية للمياه الاقتصادية الليبية، الأمر الذي ينتقص من حقوق قبرص اليونانية المنضمة الى تجمع دول منتدى غاز شرق المتوسط.

https://i2.wp.com/almarsad.co/wp-content/uploads/2019/11/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%A9-.jpg?resize=750%2C223&ssl=1

2- تبرير التدخل التركي بالشأن الليبي: يعتقد النظام التركي أن توقيع اتفاقية تعاون “أمني” وأخرى “بحري” سيمكنه من التحرك بحرية في المياه الليبية، وسيجعل بإمكانه الالتفاف على عمليات التفتيش البحري وفقًا لقرارات مجلس الامن، ومن ثم إيصال المزيد من الدعم والأسلحة للمليشيات في طرابلس. كذلك توفير مبررات للتحرك بالسواحل الليبية بما يهدد أمن وسلامة ومصالح الدولة الليبية

3- فرض الإرادة على “الوفاق” المتراجعة: تجد تركيا الفرصة سانحة أمامها لفرض منظورها على حكومة الوفاق ودفعها للتوقيع على اتفاقية “التعاون البحري”؛ حيث تراجع قدرات مليشيات الوفاق والتنظيمات التابعة لها، في وجهة تقدم الجيش الوطني لتحرير العاصمة وفرضه حظرًا جويًا فعال على مناطق القتال حول طرابلس، الأمر الذي يكبد المليشيات خسائر كبيرة ويقطع عنها الدعم اللوجيستي والمعلوماتي الذي اعتادت ان يقدمه الطيران التركي المسير لها. لذا فان أى عرض ستقدمه تركيا سيوافق عليه “السراج” وحكومته أملاً في حصاد دعم تركي جديد لعناصره.

4- إشعال الصراع واستنزاف الموارد: تستهدف تركيا إشعال الصراع الليبي مجددًا، لذلك يأتي الاتفاق فرصة لإمداد المليشيات والتنظيمات الإرهابية بالمنطقة الغربية بما يمكنها من إعادة بناء قوتها، وتعويض الخسائر التي منيت بها في المواجهات السابقة مع الجيش الوطني، وهو الأمر الذي سيقود الى تقويض جهود إعادة الأطراف الليبية للتفاوض حول مسار جديد للحل السياسي، لاسيما مع اتجاه المليشيات جنوبًا والسيطرة على مصفاة الفيل النفطية. وبذلك إفشال المبادرات الحالية -الألمانية والأمريكية- والتي يجري الاعداد لها، وإعادة تشكيل دورة صراع جديدة تدخلها المليشيات بقدرات أحدث، وتعيد خلالها تركيا استنزاف الموارد الليبية مقابل دعمها “للسراج” وحكومة الوفاق.

5- توفير الدعم للميليشيات المسيطرة على العاصمة: ويرتبط هذا الهدف بشكل رئيس بحكومة الوفاق التي تقع دولتها المحصورة في 2% من ليبيا، وهي أيضًا خارجة عن سيطرتها وقابعة تحت يد مجموعات مسلحة لا يوجد لدى الوفاق حيلة للتعاطي معها سوى تقديم الدعم لها؛ لضمان وجودها بصدارة المشهد.

رفض إقليمي

وفي اعقاب الإعلان الرسمي عن الاتفاقيات سابقة الذكر، تحركت العواصم الإقليمية لإدانة المساس بمصالحها ومخالفة القانون الدولي من جانب “أردوغان” و”السراج”. حيث أدانت مصر واليونان الإتفاقيتان الامنية والبحرية بين تركيا وحكومة الوفاق. وفي بيان رسمي للخارجية المصرية، اعربت القاهرة لتوقيع الجانبين مذكرتيّ تفاهم في مجال التعاون الأمني، وفي مجال المناطق البحرية. واكدت أن مثل هذه المذكرات معدومة الأثر القانوني؛ إذ لا يمكن الاعتراف بها على ضوء أن المادة الثامنة من اتفاق “الصخيرات” السياسي بشأن ليبيا، التي تحدد الاختصاصات المخولة للمجلس الرئاسي الليبي وحكومته، حيث تنص على أن المجلس كاملا –وليس رئيس المجلس منفرداً– يملك صلاحية عقد اتفاقات دولية، وهو لا يتوافر في الاتفاقيات التي جري توقيعها ويجعلها دون منعدمة الأثر القانوني.

وفي اثينا، اعلن وزير الخارجية اليوناني “نيكوس دندياس” رفض بلاده القاطع لاتفاق ترسيم الحدود البحرية الذي وقعه “السراج” مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان”. واشار إلى أن “محاولة إقامة منطقة اقتصادية خالصة بين تركيا وليبيا غير معترف بها تمامًا”؛ حيث أنه يتجاهل المياه الاقتصادية مشيرًا لجزيرة كريت، التي تفصل تركيا عن ليبيا.

مواقف الأطراف الليبية من اتفاقيات الوفاق وتركيا

تباينت ردود الفعل بين رفض للبرلمان الليبي المنتخب والمؤسسات الليبية المختلفة للاتفاقيات، فيما جاءت مواقف وزراء الوفاق مُدافعةً عنها كونها تحقق أهدافًا استراتيجية للدولة الليبية. ويمكن تناول التباين بالمواقف فيما يلي:

أدانت لجنة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي بمجلس النواب التوقيع على مذكرتي التفاهم، واعتبرتها تهديداً حقيقيا وانتهاكا صارخا للأمن والسيادة الليبية واعتداء كامل على صلاحيات مجلس النواب المنتخب، وأنها دون أي أثر قانوني. ووجهت اتهام للمجلس الرئاسي وحكومة الوفاق بـ “الخيانة العظمي”، وكشفت أن المقابل الذي تريد تحصيله منها هو الطائرات المسيرة والسلاح والذخائر والخبراء العسكريين الأتراك لدعم المليشيات والتنظيمات الإرهابية. كما طالبت مجلس الأمن والسكرتير العام للأمم المتحدة ولجنة العقوبات بالمجلس الاطلاع بمسؤولياتها، وأكدت أن البرلمان ومؤسساته لن تقف مكتوفة الأيدي أمام تلك الممارسات التي تمس أمن وسلامة وسيادة الدولة والشعب الليبي.

رفضت الحكومة الليبية المؤقتة اتفاقيات المجلس الرئاسي وتركيا، واعتبرتها بـ “غير دستورية”؛ كونها مُبرمة من جانب كيان ليس له صفة رسمية بموجب أحكام القانون والمحاكم الليبية، كذلك ضرورة مصادقة مجلس النواب المنتخب على هذا النوع من الاتفاقيات قبيل إقرارها إذا كانت لدى “الوفاق” شرعية. واعتبرت “المؤقتة” أنها محاولة من جانب “السراج” لتقويض جهود الجيش في تطهير العاصمة من الجماعات الإرهابية وطرد المليشيات منها، كذلك سعي لتحقيق “أردوغان” في إيجاد موطئ قدم في ليبيا لإقامة امبراطورية عثمانية ثانية. وأكدت الحكومة المؤقتة رفضها للتدخل التركي في الشأن الليبي، ووضعت مسئولية إيقاف تلك التدخلات بيد المجتمع الدولي والمبعوث الاممي، كما دعتهم للتحقيق في انتهاك تركيا لقرارات مجلس الأمن وتزويد الوفاق بالسلاح.

كما وجه مجمع ليبيا للدراسات المتقدمة رسالة عاجلة إلى مبعوث أمين عام الأمم المتحدة “غسان سلامة”، طالبه فيها سحب الاعتراف الأممي بالمجلس الرئاسي وحكومة الوفاق، والتدخل ووقف ممارسات رئيسهما “السراج”؛ كونه غير منتخب ولم يختاره جسم منتخب، وفشله في نيل ثقة مجلس النواب مرتين، وفقدان المجلس الرئاسي معظم اعضائه بالاستقالة والمقاطعة -ويفترض في قرارته ان تكون جماعية- وممارسته لأعمال السلطة دون شرعية؛ إذا يدخل عامة الرابع رغم نص اتفاق الصخيرات أن عمله لمدة عام قابل للتجديد مرة واحدة.

ودافع أعضاء المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق عن الاتفاقيات الموقعة مع تركيا، حيث صرح “محمد سيالة” وزير خارجية الوفاق، أن “مذكرة التفاهم مع تركيا في المجال البحري تأتي تتويجا لمباحثات مطولة مع الجانب التركي لتحديد مجالات الصلاحية البحرية في البحر المتوسط”، وأوضح أنها تستهدف “حماية الحقوق المشروعة للطرفين في المنطقة الاقتصادية لكل منهما في ضوء اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1981، وأنها ستساهم في حماية السيادة الليبية بما يتعلق بالمناطق البحرية للدولتين”. فيما أعلن عضو مجلس الدولة “عبد الرحمن الشاطر” تأييده ودعمه لها، ووصفها بخطوة داعمة ” للمدافعين عن حياض الوطن ورفعا لمعنويات أنصار الحرية والدولة المدنية”، كما أعتبرها اصرار على “الانتصار للوطن”. 

مجمل القول،

 فهناك تداعيات مُحتملة لهذا التطور في سلوك تركيا وحكومة الوفاق ستنعكس بشكل كبير على مسار الصراع المُحتدم. فعلى الصعيد الداخلي، ستتجدد المعارك الحادة وتتدهور حالة الاستقرار النسبي في المناطق التي جري فرض قواعد النظام فيها وخرجت عن سيطرة الميلشيات؛ إذا اتجهت المليشيات والتنظيمات المسلحة التابعة للمجلس الرئاسي لفتح جبهات جديدة ضد الجيش لإبطاء تقدمه ضمن عملية تحرير العاصمة. وعلى الصعيد الإقليمي، ستدخل ليبيا في صراع جديد تشنه تركيا لزعزعة أمن ومصالح الدول شرق المتوسط، وستصبح في مواجهة مباشرة مع اليونان بإقرار حكومة الوفاق اتفاق ينتقص من سيادة قبرص على مياهها الاقتصادية. وعلى الصعيد الدولي، ستتجه الدول الكبرى الداعمة لمشروعات تسوية سياسية لتحجيم السلوك التركي، وتحييدها عن تقويض مبادرات الحل السياسي المطروحة، وسيركز الجانب الأوروبي تحديدًا على إيقاف سعى أنقرة لشرعنة انتهاكها للمياه القبرصية واليونانية.

وختامًا، 

فإن اتجاه تركيا وحكومة الوفاق -إن ظل دون إرادة دولية قوية لإيقافه- سينقل الصراع الليبي الى مستويات متقدمة من الاقتتال، وتعطيل المسار السياسي للحل. وسيجر منطقة شرق المتوسط إلى صراع ترغب تركيا في التعجيل به لإيقاف التعاون الجاري بين دول منتدى الغاز، وفرض الامر الواقع باستحواذها على المياه القبرصية فيه، وإعادة صياغة خريطة النفوذ بما يتوافق ومشروعها العثماني، الامر الذي سيتحتم على دول الإقليم كبحه بشتى الأدوات المتاحة.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى