المراكز الأمريكية

أدوات متعددة.. الركائز العسكرية لاستراتيجية طهران في المنطقة

تباينت وجهات النظر حول طبيعة الاستراتيجية العسكرية لإيران، حيث يُصنفها البعض على انها هجومية في حين يرى الآخر انها تقوم على الدفاع في المقام الأول، في هذا السياق أشار تقرير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بعنوان ” استراتيجية إيران العسكرية” إلى ان طهران لجأت لأساليب وطرق عسكرية غير تقليدية وذلك بسبب القيود المفروضة على قدراتها العسكرية التقليدية، حيث عملت إيران على تعزيز الشراكات مع الفواعل من غير الدول، كما ركزت على نقاط ضعف خصومها بهدف زيادة تكلفة الحرب حال حدوثها.

وقد حدد التقرير عدد من المحركات التي تشكلت على أساسها القدرات العسكرية لإيران، ومن بينها انعدام الثقة التاريخي والمواجهة المستمرة مع الولايات المتحدة، فضلا عن قناعة إيران بحتمية توفير امنها الخاص دون دعم أجنبي، بالإضافة إلى ضرورة تطوير التقنيات العسكرية الاصلية وتحسين النفقات، كما شكلت الاوضاع الجيوسياسية لإيران في منطقة تتضارب فيها المصالح محركاً أساسياً لتطوير قدراتها العسكرية، خاصة في ظل تنامي التوتر والصراع الاستراتيجي والايديولوجي بين الولايات المتحدة وإيران، حيث ترى طهران أن واشنطن تسعى بكل السبل للإطاحة بنظامها او تغييره.     

في هذا السياق لفت التقرير إلى أن الاستراتيجية العسكرية لطهران تأثرت بشكل كبير بالحرب الإيرانية العراقية (1980-1988)، إذ بدأ برنامج الصواريخ الإيرانية يتطور منذ ذلك الوقت، ففي اعقاب الغزو العراقي 1980 سعت إيران إلى شراء صواريخ “سكود بي” من الاتحاد السوفيتي ردا على الهجمات العراقية، وخلال الحرب حصل على صواريخ سكود من ليبيا سوريا، بالإضافة إلى كوريا الشمالية، وبعد الحرب مباشرة لجأت ايران للحصول على دعم كوريا الشمالية إذ حصلت على نحو 200 إلى 300 صاروخ منها فضلا عن شراء صواريخ ارض جو وطائرات مقاتلة وعربات مُصفحة.

وحول الانفاق العسكري لإيران فقد أشار التقرير إلى أنه قد تقلص بفعل العقوبات المفروضة على طهران بنحو 30 % بين عامي 2006 و2015، وعندما تم رفع العقوبات جزئيا عامي 2015 و2016 بلغ حجم الانفاق العسكري لإيران نحو 3% من الناتج المحلي الإجمالي وتٌعد هذه النسبة اقل بكثير مما كان عليه الانفاق العسكري تحت حكم الشاه والذي بلغ نحو 12 %، من ناحية أخرى وصل حجم الانفاق العسكري لإيران عام 2019 نحو 17.4 مليار دولار مقابل 100 مليار دولار لدول مجلس التعاون الخليجي مجمعة.

وقد أسست الحرب الإيرانية العراقية لصراع تاريخي بين إيران وجيرانها العرب، وعليه قامت دول مجلس التعاون الخليجي بدعم العراق بالمساعدات اللوجستية والمالية والتي قدرت بنحو 30 إلى 40 مليار دولار وفقا لتقديرات وكالة الاستخبارات المركزية، في ظل هذه التفاعلات صممت إيران استراتيجيتها العسكرية لردع اية احتمالات قد تؤثر على مصالحها وامنها.

الركائز الأساسية لاستراتيجية الردع الإيرانية

لفت التقرير إلى أن إيران تبنت استراتيجية قائمة على منع وصول القوة المعارضة لها من أماكن نفوذها، وعليه عملت على تطوير قدراتها الصاروخية فضلا عن أنظمة الاستخبارات، المراقبة والاستطلاع مثل الأقمار الصناعية، الطائرات بدون طيار والرادارات ناهيك عن القوات البحرية وقدرات الهجوم السيبرانية بهدف تعطيل أنظمة القيادة والسيطرة، بالإضافة إلى قوات العمليات الخاصة القادرة على الانخراط في الحروب التقليدية وغير التقليدية، وكذا أنظمة الدفاع الجوي والصواريخ المضادة للسفن والالغام البحرية والزوارق المسلحة لاستخدامه في المياه الساحلية والمضائق.

اتصالا بما سبق فقد ارتكزت استراتيجية الردع الإيرانية على عدة محاور أساسية من بينها الدفاعات الجوية، المدفعية والصواريخ الباليستية، الحروب السيبرانية والإلكترونية فضلا عن الاستخدام المحدود للقوات الجوية وعناصر القتال البحري. وهو ما يمكن الوقوف عليه فيما يلي:

أولا: منظومة الدفاع الجوي 

تُعد أنظمة الدفاع الجوي مكوناً محوريا وهاما في الاستراتيجية العسكرية الإيرانية، وتمثل الشبكة المتكاملة أبرز هذه المكونات والتي تعمل على التنسيق بين أنظمة المراقبة والرادار وتستخدمها كافة الافرع العسكرية النظامية وعناصر الباسيج، كما طورت إيران منظومة دفاع جوي متنقلة تم انتاجها محليا وتحمل أسم ” سوم خرداد” وقد تم تزويد هذه المنظومة بصواريخ متوسطة المدى من نوع “صياد 2” وهي قادرة على اكتشاف والتعامل مع 4 اهداف في وقت واحد ضمن نطاق يتراوح ما بين 50-75 كم وعلى ارتفاع نحو 25-30 كم، يذكر ان هذا النظام قد سهل من عملية اسقاط الطائرة الامريكية يدون طيار في يونيو2019.

C:\Users\m.hussien.ecss\Desktop\سوم خردام.jpg

ثانيا: الصواريخ الباليستية

أشار التقرير إلى امتلاك إيران لأكبر برامج صاروخية في المنطقة، وقد سمح لها ذلك بتحسين قدراتها على استهداف القواعد العسكرية وحاملات الطائرات بالمنطقة، كما ساهمت القدرات الصاروخية لإيران في اظهار قوتها العسكرية من خلال اجراء عدد من المناورات والتدريبات العسكرية وهو ما عزز من قدرات الردع لديها، وتعتمد إيران على قاذفات متحركة لزيادة قدرة الصواريخ على البقاء، كما تنشر منصات اطلاقها في جميع انحاء البلاد.

ويمثل برنامج الصواريخ الإيرانية نقطة خلاف محورية بين إيران والغرب وعدد من الدول الإقليمية، خاصة مع امتلاك إيران مجموعة واسعة من الصواريخ تختلف في نطاقها ودقتها، ومن هنا تجادل طهران حول المدى المسموح به لتلك الصواريخ ارتباطا بالتهديدات الاستراتيجية كتلك التي تشكلها إسرائيل، حيث ترى إيران أن أي مفاوضات بشأن برامج الصواريخ الإيرانية يجب أن تكون في سياق اتفاقية إقليمية للحد من الأسلحة.

وتمثل هذه المنظومة تحديا كبيرا باعتبارها الترسانة الأكبر والأكثر تنوعا في الشرق الأوسط وفقا لما ذكره التقرير، فخلال تقييم الولايات المتحدة لعام 2017 حول تهديدات الصواريخ الباليستية فقد اشارت لجنة تحليل الصواريخ التابعة لوزارة الدفاع الامريكية ان إيران ستسعى إلى إطلاق صاروخ باليستي عابر للقارات من أجل تحدي الولايات المتحدة، وعلى الرغم من ذلك فهناك عدد من القيود والتحديات التي تواجه هذه المنظومة، حيث يبلغ الحد الأقصى لنطاق الصواريخ الإيرانية نحو 2000 كم وهو اقل بكثير من النطاقات العابرة للحدود.

وقد لفت التقرير إلى ان بالرغم من إشارات إدارة ترامب إلى ان توسيع إيران لبرنامج الصواريخ يمكن أن تقود إلى امتلاك أسلحة نووية، إلا أن على مدار 35 عاماً كان الهدف الرئيسي للصواريخ الباليستية الإيرانية هو منع التهديد والردع بالحرمان من خلال منع الخصم من استخدام القوة، حيث ركزت إيران على تحسين دقة صواريخها قصيرة المدى مثل ” فاتح 110″ بدلا من زيادة مداها، الامر الذي زاد من فاعليتها.

https://newsmedia.tasnimnews.com/Tasnim/Uploaded/Image/1394/05/31/139405311541309635935114.jpg

ثالثا: الحرب الإلكترونية والسيبرانية

   نوه التقرير إلى قيام طهران بتطوير قدراتها الالكترونية والسيبرانية خلال العقد الماضي بما في ذلك معدات الاتصالات التكتيكية ومختلف آليات القيادة والسيطرة وأجهزة التشويش على الأقمار الصناعية العسكرية، كما قامت بتوسيع قدراتها فيما يرتبط بالدعم الالكتروني والتدابير الالكترونية المضادة، وقد دلل التقرير على قدرات إيران الالكترونية من خلال الاستشهاد بحادث إنزال طائرة ” RQ-170 ” الامريكية ديسمبر 2011 والتي زعمت طهران انها تجاوزت الحدود الإيرانية، وقد طورت إيران تقنيات لجمع الإشارات الاستخباراتية، وقد لجأ حزب الله لاستخدام القدرات الالكترونية خلال حربه عام 2006 مع إسرائيل، كما فشلت الأنظمة الإسرائيلية في منع قيادة حزب الله من التصنت على الاتصالات الإسرائيلية.

ولفت التقرير إلى أن الهجوم الناجح من خلال الفيروس الالكتروني ” ستكسنيت Stuxnet” على البرنامج الإيراني لتخصيب اليورانيوم 2010 قد مثل نقطة تحول في استراتيجية إيران الالكترونية، حيث أدركت إيران ان الانترنت يجب أن يُصبح ركيزة أساسية لاستراتيجيتها العسكرية، وسرعان ما حسنت قدراتها الالكترونية الهجومية والدفاعية منذ ذلك الحين، حيث أشار تقرير صادر عن شركة التكنولوجيا البريطانية Small Media””   أن طهران زادت من انفاقها على الأمن السيبراني عام 2015 بنسبة 1.200%، كما قام الجيش الإيراني بشراء وتطوير تقنية الترميز لتأمين الاتصالات العسكرية والأمنية الحيوية، وشدد التقرير على أن استراتيجية ايران الالكترونية واستثماراتها السيبرانية منذ 2010 تتوافق مع استراتيجيتها الذاهبة إلى رفع التكاليف والخسائر لدى خصومها حال المواجهة.

رابعا: الاستخدام المحدود للقوات الجوية

أكد التقرير على قيام طهران بتطوير وتحديث قواتها الجوية نظرا لتطوير وتفوق القوات الجوية الامريكية والإسرائيلية وعدد من القوات الإقليمية الأخرى، وقد شمل ذلك التطوير أنظمة دفاع جوية واسعة النطاق ومتحركة، فضلا عن أنظمة دفاع محمولة، ومدفعيات اوتوماتيكية مضادة للطائرات، ناهيك عن طائرات الاستطلاع والمراقبة والقتال التي استخدمت في سوريا والتي تتمكن من القيام بعدة مهام ليلية ونهارية وفي معظم الأجواء المناخية، حيث تتعامل هذه الطائرات مع الأهداف الثابتة والمتحركة، من خلال الطيران بواسطة جهاز التحكم عن بعد، او من خلال الطيار الآلي، ناهيك عن قدراتها على الاخفاء والتهرب.

https://www.eremnews.com/wp-content/uploads/2018/08/180821095150-02-rouhani-fighter-jet-0821-exlarge-169-768x442.jpg%22

خامسا: القتال البحري

   لفت التقرير إلى أن العقيدة البحرية لإيران تعتمد بشكل أساسي على الزوارق السريعة وصواريخ كروز مضادة للسفن، إذ نفذت إيران عدة هجمات بحرية في منطقة الخليج باستخدام تلك الزوارق التي تتميز بتكلفتها المنخفضة ونتائجها الملموسة، وتُشير التقديرات إلى امتلاك إيران ما بين 3000 إلى 5000 قاربا سريعا يمكنه تنفيذ هجمات عبر اسراب من هذه الزوارق على سفن أكبر مثل حاملات الطائرات. في ذات السياق لجأت إيران لتوظيف الصواريخ كروز المضادة للسفن كأحد أدواتها البحرية، فضلا عن تطور صواريخ قصيرة المدى يمكن اطلاقها من مجموعة من المنصات البحرية بهدف استهداف سفن الخصم، من ناحية أخرى تعتبر مناجم البحر ضمن استراتيجية إيران في القتال البحري خاصة في مضيق هرمز، حيث تستخدم إيران تلك المناجم بجانب آلاف الألغام المزيفة مما يجعل من الصعب على كاسحات الألغام تحييد التهديد او تلاشيه.

https://mediat.almayadeen.tv/archive/image/2019/5/30/89d960ee-b528-4ec9-8974-b39e355f84fa.png?width=596

وكلاء طهران.. عنصر التأثير في المنطقة

    لفت التقرير إلى أن ما يُزعج جيران إيران في الشرق الأوسط ليس فقط برنامجها للصواريخ الباليستية، بل توظيفها لعدد من الفواعل من غير الدول لتحقيق اغراضها وتنفيذ استراتيجيتها، سواء من خلال دعمها لحزب الله أو الميليشيات الشيعية في العراق أو حتى عبر الدعم الموجه للحوثيين في اليمن. وقد رأى التقرير أن وجهة نظر طهران تقوم على فرضية أن في حالة تغيير موقفها وسلوكها الإقليمي لن يضمن ذلك توقف أعدائها عن محاولة اضعاف او تغيير النظام في إيران، وقد دلل التقرير على توظيف طهران لوكلائها عبر حادث الهجوم على منشآت النفط السعودية حيث انكرت إيران مسؤوليتها عن الحادث في حين أعلن الحوثيين تورطهم، وعليه فيمكن لطهران أن تُلحق بخصومها خسائر وتكاليف باهظة حال نشوب صراع اعتماداً على هؤلاء الوكلاء.

واكد التقرير على تاريخ إيران في استخدام وتوظيف الفواعل من غير الدول في عمليات الردع الإقليمية والتي سبقت الثورة الإسلامية عام 1979، حيث أيد الشاه تمردا كرديا ضد حكومة البكر في العراق وذلك بهدف ردع العراق بناء على مطالبات قديمة بشأن أجزاء من النهر الحدودي بين البلدين، فخلال الحرب مع العراق اعادت إيران تنظيم الميليشيات العراقية لخدمة مصالحها وقد شكلت منظمة بدر الأساس لهذه الخطوة، كما استمرت في بناء شراكات وشبكات من الجماعات المتمردة لاستخدامها كأداة للردع والضغط في عدد من الملفات.

من ناحية أخرى، أكد التقرير على أن دعم إيران للحوثيين مثالا يحتذى على أنشطة الوكيل العسكري الإقليمي، حيث طوعت طهران ادواتها لخدمة هذا الوكيل، من خلال ارسال عدد من الأسلحة والصواريخ المتطورة فضلا عن دعمهم بالمستشارين العسكريين لتدريب وتوجيه هذا الوكيل، ويأتي هذا الدعم بهدف استنزاف المنافسين الإقليميين لطهران وكذا مواردها، ولفت التقرير إلى ان العقوبات التي فرضت على ايران ساهمت في تخفيض نفقاتها العسكرية سواء في سوريا، العراق واليمن ، إذ تُشير التقارير على سبيل المثال إلى أن أيران تنفق حوالي 140 مليون دولار شهريا في سوريا وتوفر نحو 1% من القوات البرية لدعم النظام السوري.

Image result for ‫وكلاء ايران في المنطقة‬‎

وقد خلص التقرير إلى أن إيران عملت على ردع منافسيها عبر تطوير قدراتها العسكرية من خلال تعزيز قدرات الصواريخ البالستية أرض  أرض، والصواريخ البالستية المضادة للصواريخ وصواريخ كروز، كما حسنت إيران قدرتها على استهداف القواعد العسكرية والسفن والطائرات في المنطقة، وقد لفت التقرير إلى الاستفزازات والمواجهات البحرية التي تمت بين القوات البحرية الامريكية والإيرانية فخلال السبعة إلى الثماني أشهر الأولى من عام 2017 حدث نحو 14 تفاعل او استفزاز بين القوتين، بعدما وصل نحو 35 خلال عام 2016 و23 خلال 2015 ، كما اقتربت احد الزوارق الإيرانية نحو 600 ياردة من سفينة أمريكية ناهيك عن عدد من المواجهات الأخرى التي وقعت في مضيق هرمز وقد توقفت بشكل أو آخر هذه التحركات من قبل ايران منذ منتصف 2017.

وانتهى التقرير إلى أن طهران نجحت في ردع اية هجوم من قبل خصومها في المنطقة سواء الولايات المتحدة أو إسرائيل عبر اتباعها لأساليب غير تقليدية عوضتها عن أوجه القصور العسكرية في مواجهة اية تهديدات محتملة، وقد أكد التقرير كذلك على أن إيران لا تسعى لتصبح قوة عسكرية كبرى بل أن هدفها الرئيسي تحقيق الردع الفعال وبتكلفة منخفضة وذلك من خلال اظهار مدى تأثيرها الإقليمي.

+ posts

باحث ببرنامج قضايا الأمن والدفاع

محمود قاسم

باحث ببرنامج قضايا الأمن والدفاع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى