ليبيا

كيف حولت “تركيا” سماء “ليبيا” لأكبر مسرح لحرب “الدرونز” في العالم

لم يكن أحداً ليتوقع أن سماء ليبيا التي طُبق عليها قرارات حظر الطيران التي وافق عليها مجلس الأمن في مارس من العام 2011؛ ستتحول لواحدة من أكثر المناطق في العالم ازدحاماً بحركة الطائرات الحربية المسيرة الغير مأهولة. حيث تعيش ليبيا بعد مرحلة “القذافي” حالة من التفكك المؤسساتي والانكشاف الأمني على نحو قد شجّع على التدخلات العسكرية والسياسية المباشرة والغير مباشرة من القوي الإقليمية والدولية على حدِ سواء، كما جعل الموقع الجغرافي لليبيا كونه يتوسط إقليم شمال إفريقيا، وطول شواطئها المطلة على البحر المتوسط المطل على دول جنوب أوروبا والمتاخم لمحصلات التغيٌّر في خريطة الطاقة بمنطقة شرق المتوسط، وجوارها للحدود المصرية بنحو 1200 كم، إلي تبوئها موقعاً هاماً وفاصلاً في الاستراتيجية التركية الرامية نحو التوسع بالمنطقة بعد مرحلة ما يُسمي بالربيع العربي. مما دفع بتركيا إلى التحول لأكثر فاعل إقليمي ينتهج التدخل العسكري المباشر في الميدان الليبي وتباعاً أكثر فاعل إقليمي يقوم بشغل الأجواء الليبية بالطائرات الحربية المسيرة وطائرات الاستطلاع والدعم اللوجيستي، ولاسيما بعد شنّ الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر عمليات “طوفان الكرامة” مطلع إبريل الماضي لتحرير العاصمة الليبية طرابلس من قبضة ميليشيات حكومة الوفاق والموالية لتركيا ومشروعها في المنطقة، فما هي دوافع الاتجاه لاستخدام الطيران الحربي المُسيّر، وما وأنماط تدخل تركيا بهذا النوع من الطائرات في المسرح الليبي، وكيف يبدوا بنك أهدافها، وهل تغيب القوي الدولية عن تسيير طائرات هناك؟

 دوافع الاتجاه إلى الطائرات المسيرة في المسرح الليبي

قدمت الصحاري الليبية الشاسعة وترامي المدن الليبية والمراكز الحضرية فيها بين الشرق والغرب بمسافات فاصلة تقدر بمئات الكيلومترات، الحاجة الماسة نحو استخدام الطيران في أعمال الإمداد والتموين والضرب الجراحي الدقيق للأهداف الأرضية، ومنذ انطلاق معركة طرابلس في إبريل الماضي، وزحف الجيش الوطني الليبي إليها لتحريرها من قبضة ميليشيات حكومة الوفاق، بعد تثبيت سيطرته النارية وتحريره لمناطق هامة استراتيجيا في الجغرافية الليبية كمناطق الهلال النفطي وقاعدة الجفرة الجوية ومناطق الحوض الجنوبي. كانت العمليات الجوية لدي طرفي المواجهة تقتصر على طائرات تدريب متقدم ومقاتلات وقاذفات تعود للحقبة السوفيتية. نجح الجيش الوطني الليبي في تحييد غاليتها وأسقط نحو ثلاثة طائرات منها لدي ميليشيات حكومة الوفاق بعد أن بذلت الأخيرة جهود مضنية في إعادة تأهيلها وتشغيلها من قِبل فنيين ينتمون لدول شرق أوروبا .ومع اتخاذ معارك طرابلس شكل الموجات التصادمية التقليدية بين قوات مشاة ميكانيكية، تشابه تكتيكات المواجهة بينهما إلى الكر والفر، تحولت المعركة في ليبيا إلى معركة جوية بامتياز. وظهرت بكثافة لأول مرة الطائرات المسيرة التركية في الأجواء والمعارك الليبية علي نحو دفع بتغذية الصراع، ومن جهة أخري اختبار قدرتها على مهام القصف والدعم الأرضي والمراقبة الجوية.

 سماء ليبيا تعج بطائرات صهر إردوغان.. بيرقدار

تُعتبر تركيا من الدول الإقليمية التي تمتلك قاعدة تصنيع عسكرية كبيرة، إذ تتجاوز صادراتها العسكرية المليار دولار. ومن بين تلك الصادرات تجيئ “الطائرات المسيرة”، إذ بدأ مشروعها علي يد سلجوق بيرقدرا، أو كما يُعرف بـ “عراب الطائرات المسيرة”.

تمتلك عائلة بيرقدار شركة لتصنيع مكونات السيارات منذ عام 1948 تدعى “بيرقدار ماكينا”، إلا أن الشركة بدأت في تصنيع المعدات الجوية منذ بداية الألفية الثانية. بيد أن تعاون بيرقدار الحقيقي مع الجيش التركي بدأ فور فوزه ببطولة نظمها الجيش التركي لأفضل طائرة مسيرة مصغرة، حيث طلبت أنقرة بعدها إرسال 19 طائرة من هذا النوع إلى جنوب شرق البلاد. وقد بدأ بيرقدار يجني ثمار جهده في عام 2015، عندما نجحت أحدث طائراته TB2 في جذب انتباه العسكريين الأتراك، بعدما استطاعت ضرب أهداف من على ارتفاع أربعة كيلومترات ومدى ثمانية كيلومترات وتنفيذ مهام المراقبة والإغارة جنوب شرقي البلاد على مواقع لحزب العمال الكردستاني.

 في العام نفسه، حقق بيرقدار نجاحا من نوع آخر بزواجه من سمية رجب طيب أردوغان، أصغر بنات الرئيس التركي، وقد أصبحت شركته من بعدها، المصنـِّع المفضل للطائرات المسيرة في تركيا. 

يبلغ سعر أحدث طائرة مسيرة تركية من نوع “بيرقدار تي بي2” نحو 2 مليون دولار، تعمل تلك الطائرات من حظائر مخصصة تضم أطقم خبراء عسكريين أتراك لعدم قدرة الكارد البشري في ميليشيات حكومة الوفاق علي التعامل مع هذه التقنية الحديثة بشكل يحقق انقلاباً في ميزان القوة علي الأرض.

فعالية طائرات “بيرقدار” في المسرح الليبي

تشكل هذه الطائرة العمود الفقري للقوة الجوية التركية الغير مأهولة، إذ تم تصديرها إلي قطر وأوكرانيا. تبلغ سرعتها القصوى 220 كلم ويصل مداها العملياتي لـ 150 كلم وارتفاع يصل لـ 8 كلم. تستطيع هذه الطائرة التحليق بشكل متواصل لمدة تصل إلي يوم كامل بحمولة تسليحية تزن 55 كيلوجرام. التسليح الأساسي للطائرات التركية مكون من صواريخ مضادة للدروع من نوع “UMTAS” من تصنيع شركة “روكيستان”، وهي صواريخ موجهة بالليزر يصل مداها الأقصى إلى 8 كيلومترات.

بين شهر مايو الماضي وحتي سبتمبر الماضي، وفرت تركيا لميليشيات حكومة الوفاق 14 طائرة، نجح الجيش الليبي بحسب بيانات القيادة العامة للقوات المسلحة في اسقاط 10 منها، بمناطق ومطارات متفرقة شملت مصراتة وطرابلس والزاوية.

لم تنجح الطائرات في ردّ هجوم الجيش الوطني الليبي نحو طرابلس، ولكنها أبطئت من وتيرة تثبيت سيطرته النارية، وحصرت جبهات القتال الرئيسة في محور المطار – العزيزية – غريان. كما وجهت النشاط الجوي للجيش الليبي لتدمير حظائر الطائرات المسيرة.

حيث نجحت قوات الجيش في تدمير غرفة التحكم الرئيسية بالطائرات المسيرة في مطار معيتيقة الدولي، وقصف قاعدة طائرات درون بمدينة مصراتة. فهل تكفي طائرات بيرقدار التركية متطلبات الحرب الجوية في ليبيا؟

 بواسطة تركيا .. طائرات إسرائيلية مسيرة في حوزة ميليشيات طرابلس

كشفت صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية مطلع أغسطس الماضي عن حصول ميليشيات حكومة الوفاق الليبية علي ثلاث طائرات إسرائيلية مسيرة من نوع ” Orbiter-3 UAS”. وهي من إنتاج شركة “Aeronautics” الإسرائيلية، وأكدت الصحيفة أن الطائرات عبارة عن منحة من تركيا لحكومة الوفاق التي تدعم الميليشيات الإرهابية في طرابلس.

ولفتت الصحيفة إلى قوات الجيش الليبي التابعة للمشير خليفة حفتر أسقطت اثنتين من هذه الطائرات. وتم إسقاط الطائرتين في نهاية يوليو الماضي، وانتشل أحداهما على بعد حوالى 40 كم جنوب غرب العاصمة الليبية طرابلس في بلدة العزيزية الصغيرة، في حين تم العثور على الأخرى في منطقة سدرة، موطن أكبر مستودع للنفط في الدولة التي مزقتها الحرب. بيد أن الطائرة تمتاز بنطاق تشغيل يصل إلى 150 كم، ويمكن أن تبقى مدة تصل إلى سبع ساعات بالجو في مهام الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع. 

 سماء ليبيا .. نشاط دولي عبر الطائرات المسيرة

مع تباين أهداف ومصالح القوي الدولية في قضايا الأمن ومكافحة الإرهاب العابر للحدود والهجرة الشرعية، وسيولة تشكيل التحالفات المرنة والصلبة، اتجهت القوي الدولية والغربية إلي تنفيذ أجندتها منفردة دون تنسيق متبع مع شركائها ولاسيما الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا، فكانت سماء ليبيا مسرحاً عملياتياً لقواتها الجوية الغير مأهولة.

حيث تعتمد الولايات المتحدة تكتيك الضرب الجراحي الدقيق، والضربات الاستباقية في ليبيا، ضد عناصر وأهداف إرهابية من تنظيمات القاعدة وداعش، وتستخدم لذلك الطيران الغير مأهول ” المسير”. ولهذا اعتمدت القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا “أفريكوم” استراتيجية التمركز حول الميدان الليبي ولاسيما في “النيجر”، إذ تحدثت تقارير عن انشاء الولايات المتحدة لقاعدة جوية في النيجر للطائرات بدون طيار. نُفِذت طلعات من تلك القاعدة علي الحوض الجنوبي الليبي ولاسيما مدينة “مرزق”. كما نقلت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية على موقعها الإلكتروني عن مسؤولين في قيادة العمليات الأفريقية في وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) ، دون ذكر أسمائهم، أنه خلال 10 أيام في أواخر سبتمبر الماضي أسفرت أربع غارات جوية عن مقتل 43 من مسلحي داعش، أي نحو ثلث العدد التقديري لمقاتلي داعش في ليبيا الذين يبلغ عددهم 150 مسلحا، وبينهم بعض القادة المهمين والمسؤولين عن عمليات التجنيد.

وأشار المسؤولون إلى أن الغارات نفذتها طائرات بدون طيار من طراز “إم كيو-9 ريبر” تابعة للقوات الجوية الأمريكية المتمركزة في دولة النيجر المجاورة لليبيا

حتي أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية الجمعة، 23 نوفمبر الجاري، فقدان طائرة مسيرة في أجواء ليبيا، على وقع المعارك بين قوات الجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، وقوات حكومة الوفاق الليبية. ويأتي هذا الإعلان في وقت أعلن الجيش الليبي أنه أسقطت طائرة إيطالية بلا طيار كانت تحلق فوق منطقة خاضعة لسيطرته في غرب البلاد، فيما أعلنت السفارة الإيطالية في ليبيا عن تحطم طائرة “بريديتور” (مسيرة) على الأراضي الليبية، وأوضحت أن الطائرة كانت في مهمة لدعم عملية “البحر الآمن”.

وفرت حالات الانكشاف الأمني، والانهيار المؤسساتي للدولة الليبية بعد مرحلة القذافي، الظروف المواتية لنشاطات القوي الدولية والغربية ذات الطبيعة العسكرية في ميدان ليبيا ولاسيما في سماؤها. ولكن يبق النشاط التركي أكثر مباشرةً كونه “دعم نوعي” من خلال أحدث تقنياتها العسكرية “الطائرات دون طيار”، يصب في مصلحة دعم ميليشيات طرابلس والتي تُقاد من خلال أفراد مدرجين علي قوائم الإرهاب الدولي، ومن جهة ساحة اختبار وتسويق للصناعة الدفاعية التركية، علي نحو حفز حالات الاقتتال الداخلي واللجوء لتنفيذ ضربات نوعية بأقل تكلفة والاعتماد علي الطائرات المسيرة في إذكاء وتغذية الصراع بشكل عبرت عنه تصريحات غسان سلامة المبعوث الأممي لليبيا: “ إنّ ليبيا “على الأرجح أكبر مسرح لحرب الطائرات المسيّرة في العالم“.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى