ليبيا

حظر الطيران.. استراتيجية لقطع خطوط دعم “ميليشيات طرابلس”

أعلن المتحدث باسم القيادة العامة للقوات المسلحة الليبية، اللواء أحمد المسماري، أمس السبت الموافق 24نوفمبر2019، حظر الطيران بمنطقة العمليات العسكرية فوق العاصمة طرابلس وما حولها. ووفقًا للبيان، يأتي الإعلان عن الحظر في سياق تطور العمليات العسكرية وتقدم قوات الجيش نحو العاصمة، ويأتي هذا الحظر في ظل العديد من المتغيرات العملياتية والسياسية المرتبطة بالصراع الليبي، وبروز عدد من أدوار الأطراف الخارجية لإعادة توجيه دفة الصراع لصالح تحقيق مكاسب ميدانية لحلفاؤها تمهيدًا لإعادة رسم ملامح المشهد الليبي قبيل الدخول في مراحل التطبيق الفعلي لعدد من المبادرات المرتبطة بتسوية الصراع سياسيًا. ويتناول التقرير المتغيرات العملياتية والسياسية التي طرأت على الساحة الليبية مؤخرًا، وإعلان القيادة العامة للجيش حظر الطيران فوق منطقة عملياته حول العاصمة، من حيث الطبيعة وآليات التطبيق والتداعيات المُحتملة له على مواقف أطراف الصراع من عملية تحرير العاصمة، وصولًا لاستشراف التطورات المُرجحة لمسار الصراع والعلميات الجارية -سياسية وعسكرية- خلال الفترة القادمة.

الصراع الليبي.. ماذا يجري الآن؟

أصبح الصراع الليبي مراحل متقدمة من الاحتدام، حيث تستمر العمليات العسكرية ضد المليشيات المسيطرة على العاصمة، وتستمر الأدوار الخارجية في تأجيج الصراع واستثماره لإنهاك الدولة الليبية واستنزاف مقدراتها بشكل منتظم. وشهدت العمليات العسكرية وغيرها من التفاعلات المتعلقة بحركة الطيران تغيرات عديدة في الفترة الأخيرة، والتي كانت في مجملها دافعًا رئيسيًا لإعلان الجيش الوطني فرض حظر جوي على مناطق الغرب والعاصمة “طرابلس على وجه التحديد، ويمكن الإشارة الى أبرزها فيما يلي: 

  • احتدام المعارك حول العاصمة: تتصاعد وتيرة القتال بمحاور الاشتباك حول مدينة “طرابلس” مع تقدم قوات الجيش الوطني الليبي الى نقاط تمركز أكثر قُربًا من قلب العاصمة، حيث كشفت بيانات الجيش الوطني عن تقدم عدد من الكتائب الى منطقة مفترق الطرق وكوبري السواني والتمركز فيها، كذلك تقدم قواتها الى معسكر حمزة ونقاط حصينة بالمنطقة الغربية، بالتزامن مع استهداف الطيران الحربي لتجمعات المليشيات بمحور اليرموك، فضلًا عن قصف المقاتلات لمخازن الأسلحة والذخائر وعدد (19) مدرعة تركية، في 19نوفمبر2019، والتي وصلت قبل ساعات كدعم للمليشيات، وتم تخزينها بالمنطقة بمنطقة صناعية وسط مدينة “مصراته”.  
  • محاولة الوفاق تقييد الملاحة المدنية بالشرق: وهو ما برز في احتجاز سلطات مطار “مصراته” لإحدى الطائرات المدنية التابعة للخطوط الليبية، في 17نوفمبر الجاري، من طراز “5A-Lak” بعد إجراء عملية إصلاح للطائرة بالمطار، حيث كشفت الشركة في بيان لها أن مساعد مدير المطار “حسين بلاعو” قد وجه بوقف إقلاع الطائرة دون إبداء أسباب. وتمثل تلك الخطوة محاولة لتقييد حركة الطيران المدني بالشرق؛ كون هذه الطائرة الوحيدة المتوفرة بالمنطقة الشرقية، والتي تغطي الرحلات المدنية اليومية من مطار “بنينا الدولي.
  • انتهاك القوى الخارجية للسيادة الليبية: وقد كشفت عدة أحداث متعاقبة عن انتهاك عدة دول للمجال الجوي الليبي ومنطقة عمليات الجيش الوطني حول العاصمة، حيث أسقطت الدفاعات الجوية للجيش طائرة بدون طيار، في 21نوفمبر2019، وأعلنت القيادة العامة أن الطائرة تتبع القوات الجوية الإيطالية، وكانت تجرى عملية مسح وتصوير شمال مدينة “ترهونة” التي تتمركز بها قوات الجيش وقيادة المنطقة الغربية، وطالبت إيطاليا بتقديم شرح رسمي بشأن دخول الطائرة الأجواء الليبية. فيما أصدرت وزارة الدفاع الإيطالية بيانًا أوضحت فيه أن الطائرة المسيرة طراز “بريداتور” تابعة لها، وأنها تعمل ضمن مهمة “البحر الآمن”. ووجه أعضاء البرلمان الليبي، وعلى رأسهم النائب “طلال الميهوب”، رئيس لجنة الدفاع والأمن القومي، الاتهامات لروما وأنقرة حول تواجد قواتهم بشكل غير مشروع بمدن الغرب كـ “مصراته” و”طرابلس”، وإدارة غرف تحكم وتسيير الطائرات المسيرة لدعم المليشيات عبر تقديم التدريبات والدعم اللوجستي وإعطائهم إحداثيات لمواقع القوات المسلحة.

وفي سياق متصل، أعلنت القيادة العسكرية الأمريكية بأفريقيا “أفريكوم”، في 23نوفمبر2019، عن فقدانها لطائرة مسيرة غير مسلحة تابعة لها، في 21نوفمبر2019، فوق العاصمة “طرابلس”، وأضاف بيان “أفريكوم” أنها فتحت تحقيقًا في ملابسات الحادث، وأنها تعمل على تقييم الوضع الأمني ومراقبة النشاط المتطرف العنيف بشكل مستمر في ليبيا، وأن عملياتها تتم بالتنسيق الكامل مع المسؤولين الحكوميين.

حظر الطيران.. استراتيجية فعالة للمواجهة

تسعى القوات المسلحة الليبية لتحييد الأطراف الإقليمية والدولية عن مجريات الصراع، وبعد بروز دور عدد منهم في دعم المليشيات المسيطرة على طرابلس وحكومة الوفاق بها، ويهدف حظر للطيران في محيط العاصمة الى التمهيد للتقدم تجاه العاصمة، وتوفير غطاء جوي فعال للتعزيزات الموجهة لمحاور القتال حولها، وتجنب الدخول في مواجهات مع الأطراف الدولية التي تنتهك الأجواء الليبية، وضمان حرمان المليشيات مما تقدمه تلك الأطراف من معلومات حول تحركات قوات الجيش وتمركزاته عبر طيرانها المسير. فضلًا عن تجديد تحذيرها للطراف الخارجية التي تدير عمليات جوية لصالح المليشيات بالغرب مستهدفةً أرتال وقوات الجيش بمحاور القتال حول العاصمة، أو نقل المقاتلين والسلاح لدعم المليشيات والتنظيمات الإرهابية، كذلك استهداف تجمعات مدنية ومحاولة اتهام الجيش الوطني بالضلوع في تلك الجرائم، وهو ما جرى مسبقًا حين جرى إستهداف مركز احتجاز المهاجرين غير الشرعيين بمنطقة تاجوراء يوليو 2019.

ويُعد حظر الطيران والأنشطة العسكرية أحد الاستراتيجيات الفعالة لدى الجيش الليبي، وقد تم تطبيقه في عدة فترات سابقة كحظر الطيران على المنطقة الجنوبية في 6فبراير 2019، حين أعلن الجيش الوطني الليبي فرض حظر جوى على حركة الطيران بمنطقة الجنوب الغربي، بالتزامن مع إطلاق عملية شاملة لتطهير جنوب وغرب ليبيا من التنظيمات الإرهابية والعصابات المسلحة، وسرعان ما تم رفعه، في 19فبراير2019، بعد لقاء قائد الجيش الوطني، المشير خليفة حفتر، والمبعوث الاممي الى ليبيا، غسان سلامة، لتعود حركة الطيران الى طبيعتها مجددًا.

وفي سياق العمليات الجارية حول العاصمة، فقد أعلن الجيش الليبي، في 7نوفمبر2019، سيطرته الكاملة على المنطقة الممتدة من مدينة “سرت” حتى الحدود الليبية-التونسية، والتي تقارب الـ (530) كم، وفرض حظر يشمل التصدي بالقوة النيرانية المباشرة لأية أهداف معادية مُحتملة، سواء برية أو بحرية أو جوية، يشتبه في كونها تهديد الأمن وسلامة المواطنين والدولة، ومازال هذا الحظر ساري حتى وقت كتابة التقرير.

ويشمل حظر الطيران الحالي حول العاصمة (7) مواقع رئيسية تمتد بمناطق “المايا” و”تاجوراء” وغرب “القرة بوللي” و”مصنع القماش” و”الكلية العسكرية بنات” و”مزرعة النعام” و”منحى الطريق ومفترق الطرق”. وقد تم استثناء مطار “معيتيقة” من منطقة الحظر الجوي لاعتبارات تتعلق بالاحتياجات الإنسانية المحتملة بتلك المنطقة. وشمل اعلان الحظر تحذير الجيش الوطني لمصلحة الطيران المدني الليبي وكافة شركات خطوط النقل الجوي وكل مستخدمي المجال الجوي الليبي من خرق الحظر ودخول المنطقة المحددة دون تنسيق مسبق مع القيادة العامة للجيش الليبي والحصول على إذن حتى لا يتعرضون لأي خطر أو أي أضرار.

وفي أولى ردود الأفعال على بيان الجيش الوطني، أعلنت حكومة الوفاق بطرابلس، وفقا لبيان صادر عن وزارة الداخلية، حذرت فيه من أن إجراءات تهدد سلامة الطيران المدني أو المطارات المدنية تعتبر جرائم يعاقب عليها القانون الوطني والدولي، وهو رفض واضح للحظر الذي يمكن أن يؤدي إلى تعطيل الدعم الخارجي الموجهة لها وللمليشيات المسيطرة على العاصمة. وقد كشفت عدة تقارير -وبيانات للجيش الليبي- عن توظيف المليشيات وحكومة الوفاق، بالتعاون مع تركيا، للمطارات المدنية بنطاق العاصمة والمنطقة الغربية لإدارة عمليات عسكرية ضد القوات المسلحة الليبية، واستقبال أسلحة ومقاتلين منتمين لتنظيمات إرهابية للقتال ضمن صفوف المليشيات.

استشراف الغد.. مُرجحات التطور

تكشف تطورات المواجهات بين الأطراف المتنازعة في ليبيا عن وجود اتجاه لفرض السيطرة والتمكن من حسم الصراع بشكل كبير قبيل الدخول الى جولة جديدة من جولات الحوار السياسي المطروحة، وبينما تقدم برلين وواشنطن مشروعات ومبادرات للتسوية السياسية، تسعى بعض القوى الخارجية لتثبيت حلفاؤها في مواقع متقدمة لضمان خروجهم من المفاوضات بانتصارات سياسية تحمي مصالحها التي سخرت لها ثروات هائلة. ولعل استمرار الدعم التركي والإيطالي للمليشيات المتحالفة مع حكومة الوفاق بمدينة “طرابلس” الشاهد الأكبر على ذلك، الأمر الذي يشكل تهديدًا على فُرص نجاح تلك المبادرات السياسية، ويمكن استشراف المسارات المُرجحة لتطور الصراع الليبي خلال الفترة الزمنية المُقبلة في الاتجاهين التاليين:

أولًا: التصعيد غير المحسوب وتقويض مبادرات الحل السياسي: وهو سيناريو مستبعد؛ إذ أن هذا المسار سيضع الدول المنخرطة بالحالة الليبية أمام احتمالات غير محسوبة من الاقتتال، وقد يكلفها خسائر كبيرة لمصالحها لصالح أطراف أخرى، كما سيضع بعضها تحت ضغوط تتعلق بحتمية الدعم لحلفاؤها في ظل ما تواجهه من صعوبات داخلية كالحالة التركية. ويعزز هذا الطرح ضبابية الرؤية السائدة بين مواقف أوروبا والولايات المتحدة، حيث تستهدف كل منها حزمة من المصالح التي قد يؤدي الاتجاه الى تحقيقها سعي الطرف الاخر للتدخل بشكل أكبر لضمان تحقيق مصلحته أيضًا، وهو ما سيعيد الصراع الليبي لمربع الاشتعال مجددًا، وهو ما تسعى أوروبا وواشنطن لتجنبه.

ثانيًا: الدعم بهدف تحقيق التوازن والدفع نحو التسوية السياسية: وهو السيناريو الأكثر ترجيحاً؛ حيث ستسعى الأطراف الإقليمية والدولية الى تحجيم نفوذ حلفاؤها -مع استمرار الدعم لها- بما يحقق توازن طرفي النزاع أو ترجيح كفة حلفاؤها بشكل بسيط قبل الذهاب للمفاوضات، ولا يدفع الأطراف الأخرى للدخول في سباق دعم للطرف الاخر، وبالتالي يُحسم الصراع بشكل سياسي وتُحفظ مصالح الأطراف الخارجية بالشكل الذي تريده بأقل تكلفة. ووفقًا لهذا الترجيح، فإن قرار الجيش الوطني بحظر الطيران حول العاصمة سيدفع نحو تحريك المبادرات السياسية لحل الصراع؛ إذ يشكل تصعيدًا مباشرًا للأهداف الأجنبية العاملة ضمن برامج دعم قوات الوفاق والمليشيات بالغرب، ويكشف عن اتجاه الجيش للتحرك بشكل أكبر للسيطرة على العاصمة وهو ما قد يقوض الترتيبات الخارجية بشكل كامل إذا ما حسم الجيش دخول العاصمة قبل الجلوس على مائدة التفاوض، وتحقيق اتفاق فعلي على أرض الواقع.

واتصالاً بما سبق، ظل الشعب الليبي ومقدراته مستنزفةً بفعل صراع طويل ضد التدخلات الخارجية، ومحاولات فرض إرادة إقليمية ودولية داعمة لسيطرة المليشيات، ولكن النموذج الذي قدمه الجيش الوطني في التصدي لتلك المخططات والرؤى المُقوضة لسلامة الدولة الوطنية أسهم في حفظ وحدة ليبيا حتى الآن. ولذا فان إدراك الأطراف الإقليمية والدولية لهذا الواقع سيجعلها تتجه الى تفعيل التسوية السياسية لعدة دوافع كوجود مؤسسات منتخبة تمثل إرادة الشعب الليبي وأخرى وطنية قادرة على التصدي لفرض الامر الواقع، وتلاشي فرص إعادة المليشيات لتصدر المشهد، الامر الذي يحتم عليها استباق حسم معركة العاصمة وتحقيق تقدم حقيقي على الصعيد السياسي يضمن أهدافها.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى