قانونية المستوطنات.. قرار رمزي ومنطقة آمنة لنتانياهو
اعتبرت الإدارة الأمريكية في بيان صدر عن وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” (18 نوفمبر 2019)؛ أن بناء المستوطنات “المدنية” في الضفة الغربية، لا يتنافى مع القانون الدولي، مقرا بذلك “قانونية” المستوطنات الإسرائيلية في الضفة، بل إن الإدارة الأمريكي لم تعدها (أي المستوطنات) سببا في استمرار الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ولكنه أكّد أن الإعلان لا يفرض أي أوضاع نهائية على عملية السلام بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، “حيث تبقى الكلمة النهائية لما يتفق عليه الطرفان”.
وافقه رئيس حكومة تسيير الأعمال الإسرائيلية “بنيامين نتانياهو” في مقطع تليفزيوني، على أن الإعلان الأمريكي رغم أنه يقر بأحقية إسرائيل التاريخية على الأرض، إلا أنه لن يؤثر على عملية السلام ومسارات التفاوض مع الفلسطينيين.
يحتاج البيان إلى كثير من القراءة الدقيقة في مفرداته، والسياقات العامة التي صدر فيه هذا الإعلان، لمحاولة استقراء التحركات الإسرائيلية على المستويين الميداني (أي في تغيير خريطة الضفة الغربية وإعلان السيادة الإسرائيلية على مجموعة من المستوطنات)، وكذلك على المستوى السياسي (أي في تحديد مسارات المفاوضات من أجل تشكيل حكومة إسرائيلية جديدة).
دعم أمريكي في معركة نتانياهو السياسية
قبل الشروع في تحليل الإعلان الأمريكي الصادر عن وزارة الخارجية والبحث في مسارات المشهد السياسي الإسرائيلي، من الضروري الإشارة إلى التفاعلات السياسية التي يعجز نتانياهو أمامها عن الحركة.
كان أبرزها هو وضع خطوط الاتفاق الرئيسية بين “بيني جانتس” (زعيم حزب أزرق أبيض) و”أفيجدور ليبرمان” (زعيم حزب يسرائيل بيتينو)، وهو ما يعني اقتراب المؤشرات على عقد اتفاق على تشكيل حكومة أقلية، على أن تحظى بموافقة 10 نواب عرب من “القائمة المشتركة” داخل الكنيست أثناء التصويت على الحكومة، وبذلك ينجح جانتس في جمع 63 صوتا.
الأمر الذي أشعر نتنياهو بالخطر، ودفعه للتخطيط لإحباط هذا المستجد الذي قد يفقده مقعده ويجعله عرضة للاتهامات المعلّقة ضده من مكتب المستشار القانوني للحكومة “أفيحاي مندلبليت”، وعليه دعا المنظمة اليمينية المتطرفة إم ترتسو لتنظيم مظاهرات حاشدة، تنديدا بفكرة إقامة حكومة أقلية بدعم عربي فلسطيني.
كذلك علمه (أي نتانياهو) بناء على معلومات استخباراتية؛ أن المستشار القانوني يعلق إعلان وثيقة الاتهام بحق نتنياهو إلى يوم 26 نوفمبر، أي بعد انتهاء مهلة بيني جانتس في تشكيل الحكومة، وانتهاء المدة القانونية لمهمة تسيير أعمال الحكومة الإسرائيلية.
كل ذلك دفع نتانياهو إلى حافة الهاوية السياسية والقضائية التي تقود إلى عزله ومن ثم حبسه، لذا يعتبر الإعلان الأمريكي هو طوق النجاة الذي قد يسحب نتانياهو ولو قليلا إلى مربع الأمان.
مفردات الإعلان الأمريكي
تجب الإشارة أولا (قبل الحديث عن سبب أهمية الإعلان بالنسبة لنتانياهو) إلى مجموعة من الملاحظات، يمكن عرضها فيما يلي:
أولا: “مدنية” المستوطنات، أكد بومبيو أن الولايات المتحدة لا تعتبر “بناء المستوطنات المدنية” أمرا منافيا للقانون الدولي، مصطلح “مستوطنات مدنية” يعني أن الإعلان الأمريكي يستهدف جغرافية محددة من المستوطنات، وهي مستوطنات القدس الشرقية، وهم: ريمونيم، وجيفعا بنيامين، وشيلو، ومعاليه ليفوناه، وبيتسجوت، وهار حوما، وكوخاف يعقوف، وبيسجات زئيف، وجوش عتسيون، ومعاليه أدوميم (E-1). كذلك مستوطنات غور الأردن التي أعلن نتانياهو في أكثر من مناسبة انتخابية أنه ينوي ضمها للسيادة الإسرائيلية.
ثانيا: “قانونية” المستوطنات، جاء في الإعلان الأمريكي أن الولايات المتحدة تقر بـ “قانونية” المستوطنات، وذلك لا يعني “شرعيتها”، إذ ظلت مسألة مستوطنات الضفة تقع إشكاليتها في مربع الشرعية وليس القانونية، مما يعني أن القرار هو خطوة رمزية لا تعد خطوة مرحلية في عملية السلام أو مسار المفاوضات، وهو ما أكده نتانياهو في خطابه التليفزيوني فور صدور الإعلان.
ثالثا: تفنيد قرار الاتحاد الأوروبي، تأتي الخطوة الأمريكية ردا على قرار المحكمة العليا للاتحاد الأوروبي الذي صدر يوم الثلاثاء (12 نوفمبر 2019)، وأقر قانونية وسم البضائع الإسرائيلية التي يتم انتاجها في المستوطنات المقامة على أراضي الضفة الغربية، والتي يتم تصديرها إلى دول الاتحاد الأوروبي؛ كون هذه المستوطنات “غير شرعية”. تتأثر الصادرات الإسرائيلية بالسلب نتيجة مثل هذه القرارات الأوروبية، وهو ما أكده البيان الرسمي الصادر عن وزارة الخارجية الإسرائيلية (13 نوفمبر 2019) قائلة: إن “الحكم على تمييز المنتجات من المستوطنات يمكن أن يكون له عواقب سلبية واسعة النطاق على تصدير المنتجات الإسرائيلية إلى أوروبا”.
لماذا هو مهم لنتنياهو؟
بخلاف أن الإعلان يضيف إلى الرئيس دونالد ترامب رصيدا شعبيا لدى الجمهوريين والمؤيدين لسياسات دعم إسرائيل في الولايات المتحدة، وبخلاف أن هذه الخطوة تضيف لوزير الخارجية “بومبيو” ذاته الذي يعتزم الترشح على مقعد في مجلس الشيوخ الأمريكي رصيدا سياسيا أيضا لدى نفس الفئة. إلا أن القرار قد يعيد نتانياهو إلى المنطقة الآمنة بعد شهور من التعثر والتخبط السياسي والفشل في تشكيل حكومة جديدة، والفشل في الترويج لحملته العسكرية الأخيرة على غزة “الحزام الأسود”. وذلك لعدة أسباب، في مجملها الآتي:
أولا: إحباط محاولة جانتس في تشكيل حكومة أقلية بدعم العرب، إذ سيجد النواب العرب أنفسهم في مأزق أخلاقي من فكرة دعم حكومة إسرائيلية تقر هذا الإعلان وتلتزم به، لذلك سيكون فرضا عليهم رفض الدخول في أي مفاوضات سياسية مع تيار حزبي إسرائيلي “لا يندد” الإعلان الأمريكي. قد يصل الأمر إلى دعوة النواب العرب إلى الخروج في مظاهرات تنديدا بالإعلان.
ثانيا: ترجيح موقف نتانياهو في المفاوضات السياسية، إذ سيكون صعبا على منافسه الأبرز “بيني جانتس” عدم مباركة الإعلان، وسيضطر للدخول في مفاوضات مع نتانياهو لتشكيل حكومة وحدة وطنية، وهي خطوة غير يسيرة على جانتس لأنه سيقبل بشروط نتانياهو وهي تقلد منصب رئيس الوزراء لفترة أولى وتوزيع حقائب وزارية حيوية على رؤساء الأحزاب اليمينية.
ويبقى السيناريو الثاني، وهو محاولة قفز ليبرمان على المشهد لتحقيق ما يمكن تحقيقه (إذ سيصعب عليه عدم مباركة الخطوة الأمريكية كذلك)، وهو ما تحققت أولى ملامحه (19 نوفمبر 2019) بجلوس ليبرمان في مفاوضات جادة مع نتانياهو، اشترط فيها الأول (أي ليبرمان) عدم توزيع الحقائب الوزارية الحيوية (مثل الداخلية ولجنة الأمن، والمالية في الكنيست) على الأحزاب اليمينية، ولكنه رضخ في النهاية وقبل بتشكيل حكومة تكون فيها الأحزاب اليمينية المتشددة أطرافا رئيسية.
ثالثا: هدية انتخابية، يستمر نتانياهو في استغلال الإعلان الأمريكي من خلال زيارة المستوطنات في الضفة الغربية، والترويج للإعلان على أنه استباق تاريخي يُحسب لحكومته، مما يدفعنا لتوقع زيادة أسهم نتانياهو في استطلاعات الرأي.
ختاما، يمكن القول إن نتانياهو سيسعى جاهدا في استغلال الخطوة الأمريكية التي ستقدم له الكثير على المستوى السياسي، وكذلك في إمكانية ضم بعض المستوطنات في القدس الشرقية إلى السيادة الإسرائيلية، أو ترجيح كفة الإسرائيليين في التفاوض عليها أمام الفلسطينيين (يأتي ذلك المشهد قبل إعلان الولايات المتحدة عن صفقة القرن، التي يمكن عده تسريبا استباقيا للصفقة).
كما سينجح (أي نتانياهو) في المناورة بأوراقه ضد بيني جانتس، والضغط على ليبرمان؛ ليبقى أمام الأخير سيناريوهين اثنين فقط، إما الرفض المطلق لمبدأ التفاوض مع نتانياهو على تشكيل حكومة بدون أزرق أبيض (أي فشل تشكيل حكومة وحدة وطنية)، وهو ما يعني الذهاب فورا إلى انتخابات عامة للمرة الثالثة وهو السيناريو المفضل لنتانياهو. أو السيناريو الثاني: وهو قبول ليبرمان بالمسار الجديد وهو تشكيل حكومة تجمع نتانياهو وليبرمان بالتشارك مع الأحزاب الدينية مقابل تقديم شروط محددة (وهي عدم تسليم حقائب وزارية حساسة لتلك الأحزاب).
بشكل عام يمكن القول إن الكرة الآن هي في ملعب ليبرمان وحده في تحديد المسار السياسي لإسرائيل، ومن المرجح أن يدفع باتجاه انتخابات ثالثة؛ لأنه يصر على تشكيل حكومة موحدة، وإبراز إصراره للناخبين لكسب رصيد سياسي.
على كلٍ، ينجح نتانياهو في إثراء المشهد السياسي وتحريك المياه السياسية الراكدة، فجميع السيناريوهات تصب في صالح نتانياهو وهو السبب الذي دفعنا للقول إن الخطوة الأمريكية سحبت نتانياهو إلى المنطقة الآمنة، لتبقى وثيقة الاتهام التي يمكن أن تصدر عن مكتب المستشار القضائي للحكومة “أفيحاي مندلبليت” هي الفصل الأخير لحياة نتانياهو.