
بحر قزوين.. صراعات الطاقة والقانون
في أغسطس 2018، قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جنبًا إلى جنب مع باقي الدول المطلة على بحر قزوين “إيران- أذربيجان- كازخستان- تركمستان”، بتوقيع الاتفاقية التاريخية للوضع القانوني لبحر قزوين، والتي تنهي نزاعات استمرت قرابة الـ 22 عامًا بين أطرافها. ويُعد بحر قزوين أكبر مسطح مائي مغلق على الأرض، يقع بين قارتي آسيا وأوروبا وتبلغ مساحته نحو 370 ألف كيلو متر مربع، وأقصى عمق له 890 مترًا، مما يعني أنه يحمل قانونيًا خصائص البحار والبحيرات.
كما أنه يأتي باعتباره ثاني أكبر وأغنى منطقة تعج بثروات النفط والغاز في العالم، تتقاسم الخمس دول المطلة عليه شواطئه بنسب متفاوتة، مما ترتب عليه اندلاع نزاعات مستمرة بينهم على مدار قرابة الـ 20 عامًا بشأن كيفية اقتسام ثروات هذه المنطقة الغنية، التي يقبع في أعماقها من احتياطيات النفط والغاز ما يجعلها تحتل المرتبة الثانية كأكبر منطقة غنية بالثروات بعد الخليج العربي، فضلاً عن احتوائها على ثروة هائلة من الذهب والنحاس واليورانيوم.
نزاعات الطاقة والقانون الدولي
في الماضي وتحديدًا قبل انهيار الاتحاد السوفيتي سابقًا، وتفككه اجزاءه الى دول أخرى جديدة. كان الوضع القانوني لبحر قزوين قد تحدد وفقًا لعدة اتفاقيات بين موسكو وطهران باعتبارهما –الدولتين المطلين على البحر- بتاريخ الأعوام 1921 و1935 و1940 و1970، وكانت جميع هذه الاتفاقيات تقتصر على تنظيم حقوق الصيد والملاحة لكلتا الدولتين، دون الاقتراب لمنطقة الأميال العشر الخاصة بشاطئ كل دولة، كما أنها لم تتناول موضوع الثروة النفطية الكامنة في قاع البحر.
وبانهيار الاتحاد السوفيتي 1991، أصبح الشاطئ المطل على البحر قزوين منقسمًا على خمس دول، ليس فقط اثنان كما في الماضي، وقررت حكومات هذه الدول الجديدة أن تقوم باستغلال مواردها النفطية في المنطقة بأقصى طاقة ممكنة، سعيًا منها لأجل تحقيق الرفاه لشعوبها التي عانت البؤس أيام الحكم الشيوعي. وانقسم النزاع القانوني إلى شقين، ينظر كلاً منهم لطبيعة هوية بحر قزوين بشكل مختلف عن الآخر.
حيث أنه في حال اعتبار بحر قزوين بمثابة مسطح مائي يتم وصفه بـ “البحيرة المغلقة”، كان هذا يعني أن مياهه سوف يتم اقتسامها وفقًا لبنود المياه الإقليمية، والتي تقتضي بأن كل دولة يحق لها استغلال الموارد الموجودة على مساحة عشرون ميلاً بحريًا من شواطئها تليها عشرون ميلاً أخرى، وتظل المساحة الباقية منطقة مشتركة بين الدول المطلة عليه، على أن تقسم عائداتها الاقتصادية عليهم بالتساوي بحيث تحصل كل دولة على 20%. وفي حالة اعتباره “بحرًا مفتوحًا”، هذا يعني أن حصة كل دولة سوف تحدد على أساس قطاعها المائي وفقًا لحجم شواطئها، على أن يبقى استخدام سطح البحر من حق الجميع، وهذا التصور يُدعى في القانون “التقسيم القطاعي القومي”، وأيدته روسيا وكازخستان وأذربيجان، فيما كانت تركماستان وإيران تؤيدان تعريف البحر على أنه بحر مغلق.
تعقيدات إضافية عرقلت المسألة
على الرغم من أن ساحل إيران على البحر لا يزيد عن 14% فقط من اجمالي مساحة البحر، ومن موقعها في الجزء الجنوبي الذي لا يحتوي على مقدرات كبيرة من النفط والغاز، فضلاً عن أن عمق البحر في الجانب الإيراني يقارب الألف متر مما يجعل من التنقيب فيه مهمة صعبة ومكلفة للغاية بالمقارنة مع العمق على الجانب الروسي الذي يقارب خمسة أمتار فقط. إلا أن إيران تمسكت بحقوقها في امتلاك حصة النصف من بحر قزوين، استنادًا على ما كانت تتمتع به من حقوق في حصتها السابقة وفقًا لما جمعها من معاهدات مع الاتحاد السوفيتي، وبحجة أنها غير مسئولة عن أي انقسامات في الصفوف الروسية نتج عنها ظهور دول أخرى جديدة مطلة على نفس البحر.
أو أن يتم تقسيم البحر كله إلى خمسة أجزاء متساوية بحيث تحصل كل دولة على نسبة 20% من قاع البحر دون النظر لطول حدودها البحرية.
أبعاد سياسية أخرى للصراع

عملت عدة مراكز أبحاث غربية على طرح أفكار حول أهمية تطوير نفط بحر قزوين في السنوات القادمة، حتى يصبح بديلاً عن مصادر النفط الموجودة في الخليج العربي. مما ترتب عليه تواتر في حالة التنافس بين الدول المطلة على بحر قزوين حول كيفية اقتسام ثرواته، وحول القواعد المنظمة لتلك الثروات، وأدى ذلك إلى تدخلات من قِبَل أطراف أخرى لأجل دعم موقف كل دولة وفقًا لمصالح كل طرف خارجي.
وعندما أقدمت أذربيجان –على سبيل المثال- على منح امتيازات التنقيب عن النفط في أعماق البحر دون التنسيق مع جيرانها، أعلنت كلاً من روسيا وإيران مجتمعتان عقب اجتماع مشترك لمسئولي البلدين في انعقد في طهران 1995 معارضتهما لأي عمل منفرد من شأنه أن يؤدي الى تقسيم البحر. وعكس هذا الموقف عدة توجهات، يأتي على رأسها رغبات أذربيجان في الخروج من حزام السيطرة الروسية والبحث عن منافذ أخرى لنقل النفط خارج روسيا، فضلاً عن أن روسيا وإيران اعتبرتا أن هذا التحرك يأتي لصالح أغراض الإدارة الأمريكية التي لطالما سعت لخلق مواضع اقدام لها في المنطقة.
وفضلاً عما يعج به تاريخ الصراع حول بحر قزوين من مشوار طويل من الاتفاقيات الدولية الثنائية والثلاثية وغيرها، التي عقدها أطراف النزاع إما بين بعضهما البعض أو مع أطراف خارجية، إلا أن التطور السياسي في أذربيجان كان يمثل نموذج يعطى مؤشرات واضحة على جانب من النزاعات حول مقدرات بحر قزوين والطريقة التي انعكست من خلالها هذه الصراعات على طبيعة الحياة السياسية داخل دولة مثل أذربيجان.
فقد أدت توجهات الرئيس الأذربيجاني السابق- أبو الفضل التشيبي- نحول الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية بوجه عام الى الاستحواذ على استعداء كلاً من روسيا وإيران، واللتان استغلتا حالة عدم الاستقرار الداخلي في أذربيجان ودعمتا خصوم الرئيس التشيبي، مما أودى الى ازاحته في يونيو 1993. وتولى الرئاسة خلفًا له شخصًا كان معروفًا بميوله الروسية، وهو حيدر علييف الذي كان في الماضي يترأس جهاز المخابرات السوفييتية، إلا أنه وفي نهاية المطاف سلك نفس مسلك سلفه فيما يتعلق بتوجهاته نحو الإدارة الامريكية والدول الغربية.
وفي سبتمبر 1994، أبرمت أذربيجان اتفاقية مع مجموعة من الشركات الأجنبية بغرض التنقيب عن البترول في المناطق المحاذية لبحر قزوين في إقليمها. وكان نصيب الشركات الأمريكية في هذه الاتفاقية بمثابة نصيب الأسد إذ حصلت على نسبة 27%، تلتها روسيا بنسبة 18%، ثم بريطانيا بنسبة 13%. كما سعت أذربيجان في نفس السياق على دعم بذور التنافس بين روسيا وإيران، من خلال الحفاظ على مصالح موسكو في أذربيجان والتصرف بشكل مخالف تمامًا مع إيران. إذ أن إيران على سبيل المثال لم يكن لها أي نصيب في هذا النموذج من التعاقدات الأذربيجانية، ولقد حدث ذلك بعد أن منحت أذربيجان حصة 5% في التعاقد ثم سرعان ما قامت بسحبها ومنحها إلى شركة إكسون الأمريكية في يونيو 1995.
كما تظهر تركيا كذلك على خارطة النزاع، إذ أن الحديث عن نفط قزوين يجب أن يقترن بالحديث عن طرق نقله من البحر الداخلي المغلق، الذي بحاجة إلى ممرات دولية بديلة عن روسيا –وفقًا لرغبة الثلاث جمهوريات المنفصلة عن الاتحاد السوفيتي- فبالنسبة لأذربيجان كان هناك مقترح بإنشاء خطوط أنابيب لنقل النفط، واحد منها فقط مقترح أن يمر عبر روسيا، فيما يمر الثلاثة الآخرون عبر تركيا. وهو ما يضع إيران مرة أخرى على حلبة المنافسة بحيث ترغب بشدة في أن تشارك ليس فقط في النفط وإنما كذلك في عملية نقله، والتي سارعت في عقد اتصالات مع تركماستان لأجل الاتفاق على انشاء خط لتصدير النفط، والتي ترتب عليها اجتذاب دولاً أخرى مثل الصين، التي قامت شركتها الوطنية في سبتمبر 1997 بشراء أغلبية الأسهم في حقل نفطي في كازاخستان كرغبة منها في مواجهة المنافسة الأمريكية الحادة.
اتفاقية الوضع القانوني لبحر قزوين

قام رؤساء الدول الخمس المطلة على بحر قزوين “روسيا- إيران- كازاخستان- أذربيجان- تركمانستان”، في أغسطس 2018 خلال تواجدهم في قمة بمدينة أكتاو بكازخستان بتوقيع اتفاقية تحدد الوضع القانوني لبحر قزوين.
وتتضمن الاتفاقية أحكام تحدد نظام الشحن وسبل الاستخدام الجماعي للبحر، وآليات تحديد حدود المياه الإقليمية ومناطق صيد الأسماك، وتحديد قاع بحر قزوين واحواضه في القطاعات المختلفة، وشروط وضع الكابلات البحرية وأنابيب المياه وغيرها من قضايا تعاون الدول الساحلية. كما تعمل الاتفاقية على خلق ظروف مواتية لأجل توسيع التعاون القائم على أسس المنفعة المتبادلة في مجالات مثل الأمن والنقل والشحن، وصيد الاسمال واستكشاف وإنتاج مواد الهيدروكربون وغيرها. كما تحظر الاتفاقية أي تواجد لقوات أجنبية في مياه بحر قزوين، فضلاً عن ضمان توازن الوجود المسلح للأطراف المطلة عليه بما يراعي مصالح جميع الأطراف.
كما تحتوي الاتفاقية على بند يقتضي بعدم السماح بوجود أي قوات مسلحة أجنبية في مياه بحر قزوين.
وعلى الرغم من أن هذه الاتفاقية تعتبر بادرة امل مبشرة فيما يتعلق بعملية ترسيم العلاقات البينية بين الدول الخمس، إلا أن هذا لا يمنع أن هناك مجموعة من العقبات في الطريق الى التوافق لاتزال بانتظار البت بشأنها، من ضمنها التوافق حول الآليات التنفيذية. كما أن دولاً مثل الولايات المتحدة الأمريكية لطالما كانت مستفيدة من وجود الدول المطلة على بحر قزوين في حالة نزاع مستمر، من المرجح أن تحاول التدخل في أي عمليات توافقية مستقبلية لأجل افسادها، نظرًا لما تسببت به هذه الاتفاقية لها من استبعاد في منطقة حيوية تعج بالنفط. كما أن نجاح أطراف نزاع بحر قزوين في التوصل الى تسوية يلقى بظلاله على مستقبل النفوذ الذي يتمتع به الخليج العربي من أهمية استراتيجية بسبب ما يملكه من مخزون النفط، باعتباره مصدر الطاقة، الأكثر جذبًا للأطماع حول العالم.
باحث أول بالمرصد المصري